المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ جِئۡتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَتَرَكۡتُم مَّا خَوَّلۡنَٰكُمۡ وَرَآءَ ظُهُورِكُمۡۖ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمۡ شُفَعَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ زَعَمۡتُمۡ أَنَّهُمۡ فِيكُمۡ شُرَكَـٰٓؤُاْۚ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيۡنَكُمۡ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمۡ تَزۡعُمُونَ} (94)

94- ويقول لهم الله يوم القيامة : لقد تأكدتم الآن بأنفسكم أنكم بعثتم أحياء من قبوركم كما خلقناكم أول مرة ، وجئتم إلينا منفردين عن المال والولد والأصحاب ، وتركتم وراءكم في الدنيا كل ما أعطيناكم إياه مما كنتم تغترون به ولا نرى معكم اليوم الشفعاء الذين زعمتم أنهم ينصرونكم عند الله ، وأنهم شركاء لله في العبادة ! لقد تقطعت بينكم وبينهم كل الروابط ، وغاب عنكم ما كنتم تزعمون أنهم ينفعونكم !

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ جِئۡتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَتَرَكۡتُم مَّا خَوَّلۡنَٰكُمۡ وَرَآءَ ظُهُورِكُمۡۖ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمۡ شُفَعَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ زَعَمۡتُمۡ أَنَّهُمۡ فِيكُمۡ شُرَكَـٰٓؤُاْۚ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيۡنَكُمۡ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمۡ تَزۡعُمُونَ} (94)

ثم صور - سبحانه - حالهم عندما يعرضون للحساب فقال : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } .

أى : ولقد جئتمونا للحساب والجزاء منعزلين ومنفردين عن الأموال والأولاد وعن كل ما جمعتموه فى الدنيا من متاع ، أو منفردين عن الأصنام والأوثان التى زعمتهم أنها شفعاؤكم عند الله .

وفرادى قيل هو جمع فرد ، وفريد وقيل : هو اسم جمع لأن فرداً لا يجمع على فرادى وقول من قال إنه جمع : أراد أنه جمع له فى المعنى .

وهذه الجملة الكريمة مستأنفة جاءت لبيان ما سيقوله الله لهؤلاء الظالمين يوم القيامة ، بعد بيان ما تقوله ملائكة العذاب عند موتهم .

وقوله : { كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } تشبيه للمجىء أريد منه معنى الإحياء بعد الموت الذى كانوا ينكرونه فقد رأوه رأى العين .

أى : جئتمونا منعزلين عن كل ما كنتم تعتزون به فى الحياة الدنيا ، مجيئا مثل مجيئكم يوم خلقناكم أول مرة حفاة عراة . فالكاف فى محل نصب صفة لمصدر محذوف .

روى الشيخان عن ابن عباس قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال : " أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا ( كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ) " .

ورويا - أيضاً - عن عائشة قالت : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تحشرون حفاة عراة غرلا . قالت : يا رسول الله ، الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض ؟ قال صلى الله عليه وسلم : الأمر أشد من أن يهمهم ذلك " " .

وروى الطبرانى بسنده عن عائشة أنها قالت " قرأت قول الله - تعالى - { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } فقالت : يا رسول الله واسوأتاه ! الرجال والنساء جميعاً ينظر بعضهم إلى سوأة بعض ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه لا ينظر الرجال إلى النساء ولا النساء إلى الرجال ، شُغل بعضهم عن بعض " .

قوله : { وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ } أى : تركتم ما أعطيناكم وملكناكم فى الدنيا من أموال وأولاد وغيرهما وراء ظهوركم ولم تحملوا منه معكم نقيرا عندما جئتمونا للحساب .

الخول : ما أعطاه الله لعباده من النعم : يقال : خوله الشىء تخويلا ، ملكه إياه ومكنه منه . ومنه التخول بمعنى التعهد .

والجملة الكريمة تتضمن توبيخهم ، لأنهم لم يقدموا منه شيئاً فى دنياهم ليكون نافعا لهم فى أخراهم ، بل جمعوه وتركوه لغيرهم دون أن ينتفعوا به فى معادهم .

وقد ثبت فى الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يقول ابن آدم : مالى ! مالى ! وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت وما سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس " .

وقوله : { وَمَا نرى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الذين زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ } تقريع وتوبيخ لهم على شركهم .

أى : ما نرى وما نبصر معكم من زعمتم أنهم سيشفعون لكم عند الله من الأصنام والأوثان التى توهمتم أنهم شركاء لله تعالى فى ربوبيتكم واستحقاقه عبادتكم .

وقوله { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } أى : لقد تقطع الاتصال الذى كان بينكم فى الدنيا واضمحل .

ففاعل { تَّقَطَّعَ } ضمير يعود على الاتصال المدلول عليه بلفظ { شُرَكَآءُ } و { بَيْنَكُمْ } منصوب على الظرفية .

وقرىء بالرفع أى : لقد تقطع شملكم فإن البين مصدر يستعمل فى الوصل وفى الفراق بالاشتراك ؛ والأصل لقد تقطع ما بينكم وقد قرىء به أى : تقطع ما بينكم من الأسباب والصلات .

{ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } أى : وغلب عنكم ما كنتم تزعمون من شفاعة الشفعاء ، ورجاء الأنداد والأصنام . كما قال - تعالى - { إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا وَرَأَوُاْ العذاب وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب وَقَالَ الذين اتبعوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النار } وهكذا يسوق القرآن مشهد هؤلاء الظالمين بتلك الصورة التى تهز النفوس ، وتحمل العقلاء على الإيمان والعمل الصالح .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ جِئۡتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَتَرَكۡتُم مَّا خَوَّلۡنَٰكُمۡ وَرَآءَ ظُهُورِكُمۡۖ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمۡ شُفَعَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ زَعَمۡتُمۡ أَنَّهُمۡ فِيكُمۡ شُرَكَـٰٓؤُاْۚ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيۡنَكُمۡ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمۡ تَزۡعُمُونَ} (94)

وقوله : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي : يقال لهم يوم معادهم هذا ، كما قال { وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ الكهف : 48 ] ، أي : كما بدأناكم أعدناكم ، وقد كنتم تنكرون ذلك وتستبعدونه ، فهذا يوم البعث .

وقوله : { وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ } أي : من النعم والأموال التي اقتنيتموها في الدار الدنيا { وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ } وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يقول ابن آدم : مالي مالي ، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت ، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس " .

وقال الحسن البصري : يؤتى بابن آدم يوم القيامة كأنه بَذَج فيقول الله ، عَزَّ وجل ، [ له ]{[10971]} أين ما جمعت ؟ فيقول يا رب ، جمعته وتركته أوفر ما كان ، فيقول : فأين ما قدمت لنفسك ؟ فلا يراه قدم شيئا ، وتلا هذه الآية : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ } رواه ابن أبي حاتم .

وقوله : { وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ } تقريع لهم وتوبيخ على ما كانوا اتخذوا في [ الدار ]{[10972]} الدنيا من الأنداد والأصنام والأوثان ، ظانين أن تلك تنفعهم{[10973]} في معاشهم ومعادهم إن كان ثَمَّ{[10974]} معاد ، فإذا كان يوم القيامة تقطعت الأسباب ، وانزاح الضلال ، وضل عنهم ما كانوا يفترون ، ويناديهم الرب ، عَزَّ وجل ، على رءوس الخلائق : { أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } [ الأنعام : 22 ] وقيل{[10975]} لهم { أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ } [ الشعراء : 92 ، 93 ] ؛ ولهذا قال هاهنا : { وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ } أي : في العبادة ، لهم فيكم قسط في استحقاق العبادة لهم .

ثم قال تعالى : { لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } قُرئ بالرفع ، أي شملكم ، وقُرئ بالنصب ، أي : لقد انقطع ما بينكم{[10976]} من الوُصُلات والأسباب والوسائل { وَضَلَّ عَنْكُمْ } أي : وذهب عنكم { مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } من رجاء الأصنام ، كما قال : { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } [ البقرة : 166 ، 167 ] ، وقال تعالى : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ } [ المؤمنون : 101 ] ، وقال { إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } [ العنكبوت : 25 ] ، وقال { وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ } الآية [ القصص : 64 ] ، وقال تعالى : { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا } إلى قوله : { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } [ الأنعام : 22 - 24 ] ، والآيات في هذا كثيرة جدا .


[10971]:زيادة من أ.
[10972]:زيادة من أ.
[10973]:في م: "ذلك ينفعهم".
[10974]:في أ: "ثمة".
[10975]:في أ: "أو قيل".
[10976]:في أ: "تقطع بينكم".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ جِئۡتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقۡنَٰكُمۡ أَوَّلَ مَرَّةٖ وَتَرَكۡتُم مَّا خَوَّلۡنَٰكُمۡ وَرَآءَ ظُهُورِكُمۡۖ وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمۡ شُفَعَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ زَعَمۡتُمۡ أَنَّهُمۡ فِيكُمۡ شُرَكَـٰٓؤُاْۚ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيۡنَكُمۡ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمۡ تَزۡعُمُونَ} (94)

هذه حكاية عما يقال لهم بعد قبض أرواحهم ، فإما عند خروجها من الأجساد وإما يوم القيامة كل ذلك محتمل ، و { فرادى } معناه فرداً فرداً ، والألف في آخره ألف تأنيث ومنه قول الشاعر [ ابن مقبل ] :

ترى النعرات الزرق تحت لبانه . . . فرادى ومثنى أصعقتها صواهله{[5019]}

وقرأ أبو حيوة «فرادىً » منوناً على وزن فعال وهي لغة تميم ، و { فرادى } قيل هو جمع فرَد بفتح الراء ، وقيل جمع فرْد بإسكان الراء{[5020]} ، والمقصد في الآية توقيف الكفار على انفرادهم وقلة النصير واحتياجهم إلى الله عز وجل بفقد الخول والشفعاء ، فيكون قوله : { كما خلقناكم أول مرة } تشبيهاً بالانفراد الأول في وقت الخلقة ، ويتوجه معنى آخر وهو أن يتضمن قوله : { كما خلقناكم } زيادة معان على الانفراد كأنه قال : ولقد جئتمونا فرادى وبأحوال كذا ، والإشارة على هذا بقوله كما هي إلى ما قاله النبي عليه السلام في صفة من يحشر أنهم يحشرون حفاة عراة غرلاً{[5021]} ، و { خولناكم } معناه أعطيناكم ، وكان أبو عمرو بن العلاء ينشد بيت زهير : [ الطويل ] :

هنالك إنْ يُسْتَخْوَلُوا المالَ يُخْوِلُوا . . . وإن يُسْألوا يُعْطُوا وإن َييْسِرُوا يُغْلُوا{[5022]}

{ وراء ظهوركم } إشارة إلى الدنيا لأنهم يتركون ذلك موجوداً .

وقوله تعالى : { وما نرى معكم شفعاءكم } الآية ، توقيف على الخطأ في عبادة الأصنام وتعظيمها ، قال الطبري : وروي أن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث لأنه قال سوف تشفع له اللات والعزى .

قال القاضي أبو محمد : ومن كان من العرب يعتقد أنها تشفع وتقرب إلى الله زلفى ويرى شركتها بهذا الوجه فمخاطبته بالآية متمكن وهكذا كان الأكثر ، ومن كان منهم لا يقر بإله غيرها فليس هو في هذه الآية ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر ، وحمزة «بينُكم » بالرفع ، وقرأ نافع والكساء «بينَكم » بالنصب أما الرفع فعلى وجوه ، أولاها أنه الظرف استعمل اسماً وأسند إليه الفعل كما قد استعملوه ، اسماً في قوله تعالى : { من بيننا وبينك حجاب }{[5023]} وكقولهم فيما حكى سيبويه :«أحمر بين العينين » ، ورجح هذا القول أبو علي الفارسي ، والوجه الآخر أن بعض المفسرين منهم الزهراوي والمهدوي وأبو الفتح وسواهم حكوا أن «البين » في اللغة يقال على الافتراق وعلى الوصل فكأنه قال لقد تقطع وصلكم .

قال القاضي أبو محمد : وفي هذا عندي اعتراض لأن ذلك لم يرو مسموعاً{[5024]} عن العرب وإنما انتزع من الآية ، والآية محتملة ، قال الخليل في العين : «والبين :الوصل »لقوله عز وجل : { لقد تقطع بينكم } فعلل سوق اللفظة بالآية ، والآية معرضة لغير ذلك ، أما إن أبا الفتح قوى أن «البين » الوصل وقال : «وقد أتقن ذلك بعض المحدثين بقوله : قد أنصف البين من البين » .

والوجه الثالث من وجوه الرفع أن يكون «البين » على أصله في الفرقة من بان يبين إذا بعد ، ويكون في قوله : { تقطع } تجوز على نحو ما يقال في الأمر البعيد في المسافة تقطعت الفجاج بين كذا وكذا عبارة عن بعد ذلك ، ويكون المقصد لقد تقطعت المسافة بينكم لطولها فعبر عن ذلك «بالبين » الذي هو الفرقة ، وأما وجه قراءة النصب فأن يكون ظرفاً ويكون الفعل مستنداً إلى شيء محذوف وتقديره لقد تقطع الاتصال أو الارتباط بينكم أو نحو هذا .

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا وجه واضح وعليه فسره الناس : مجاهد والسدي وغيرهما{[5025]} . وجه آخر يراه أبو الحسن الأخفش وهو أن يكون الفعل مسنداً إلى الظرف ويبقى الظرف على حال نصبه وهو في النية مرفوع ، ومثل هذا عنده قوله { وإنّا منا الصالحون ومنا دون ذلك }{[5026]} وقرأ ابن مسعود ومجاهد والأعمش «تقطع ما بينكم » بزيادة ما و { ضل } معناه تلف وذهب ، و { ما كنتم تزعمون } يريد دعواهم أنها تشفع وتشارك الله في الألوهية .


[5019]:- البيت لابن مقبل، كما قال في (اللسان)، وقد رواه في مادة (فرد) كما رواه ابن عطية رحمه الله هنا، وفي مادة (نعر) رواه كما يأتي: ترى النعرات الخضر حول لبانه أحاد ومثنى أصعقتها صواهله أي: قتلها صهيله. والنعرة مثال الهمزة: ذباب ضخم أزرق العين أخضر له إبرة في طرف ذنبه يلسع بها ذوات الحافر خاصة، وربما دخل في أنف الحمار فيركب رأسه ولا يرده شيء. واللبّان: الصدر، وقيل: وسطه، وقيل: الصدر من ذي الحافر خاصة، وفي قصيد كعب: ترمي اللّبان بكيفيها ومدرعها مشقق عن تراقيها رعابيل.
[5020]:- وقيل: جمع فرد بكسر الراء، وقيل: جمع فردان مثل سكارى وسكران كسالى وكسلان – (عن كتب اللغة).
[5021]:- روى البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: (إنكم محشورون حفاة عراة غرلا) {كما بدأنا أول خلق نعيده} الآية (الخ الحديث، وروى أيضا مثله عن القاسم بن محمد بن أبي بكر عن عائشة رضي الله عنها.
[5022]:- قال في (اللسان): "الاستخوال مثل الاستخبال، من أخبلته المال إذا أعرته ناقة لينتفع بألبانها وأوبارها، أو فرسا يغزو عليه، ومنه قول زهير". ثم ساق البيت.
[5023]:- من الآية (5) من سورة (فصلت).
[5024]:- الحقيقة أنه روي مسموعا عن العرب، ومن ذلك قول قيس بن ذريح: لعمرك لولا البين لا يقطع الهوى ولولا الهوى ما حنّ للبين آلف وقال آخر: لقد فرّق الواشين بيني وبينها فقرّت بذاك الوصل عيني وعينها وأنشد أبو عمرو في رفع (بين) قول الشاعر: كأن رماحنا أشطان بئر بعيد بيُن جاليها جرور.
[5025]:- عقّب أبو حيان على ذلك في "البحر المحيط 4/183" بقوله: "قوله: (إلى شيء محذوف) ليس بصحيح، لأن الفاعل لا يحذف"، ثم قال: "والذي يظهر لي أن المسألة من باب الإعمال- تسلط على [ما كنتم تزعمون] [تقطع] و[ضل]. فأعمل الثاني وهو [ضلّ]، وأضمر في [تقطع] ضمير [ما] وهم الأصنام، فالمعنى: "لقد تقطّع بينكم ما كنتم تزعمون وضلوا عنكم"اهـ.
[5026]:- من الآية (11) من سورة (الجن).