28- واحتفظ - أيها الرسول - بصحبة صحابتك من المؤمنين الذين يعبدون الله - وحده - في الصباح وفي العشي دائماً ، يريدون رضوانه ، ولا تنصرف عيناك عنهم إلى الجاحدين من الكفار لإرادة التمتع معهم بزينة الحياة الدنيا ، ولا تطع في طرد فقراء المؤمنين من مجلسك من جعلنا قلبه غافلا عن ذكرنا ، لسوء استعداده ، وصار عبداً لهواه ، وصار أمره في جميع أعماله بعيداً عن الصواب ، والنهي للنبي نهي لغيره ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يريد الحياة الدنيا وزينتها ، ولكن كان اتجاه النهي إليه لكي يحترس غيره من استهواء الدنيا ، فإنه إذا فرض فيه إرادة الزينة للأبدان ؛ لفرض كل إنسان في نفسه ذلك ليحترس .
ثم ساقت السورة الكريمة لونا من الأدب السامى ، والتوجيه العالى ، حيث بينت أن أولى الناس بالرعاية والمجالسة هم المؤمنون الصادقون ، وأمرت النبى صلى الله عليه وسلم بأن يصبر نفسه معهم ، فقال - تعالى - : { واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا . . } وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات منها : أنها نزلت فى أشراف قريش ، حين طلبوا من النبى صلى الله عليه وسلم أن يجلس معهم وحده ، ولا يجالسهم مع ضعفاء أصحابه كبلال وعمار وابن مسعود . وليفرد أولئك بمجلس على حدة ، فنهاه الله - تعالى - عن ذلك . . وأمره أن يصبر نفسه فى الجلوس مع هؤلاء الفقراء فقال : { واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } .
وصبر النفس معناه : حبسها وتثبيتها على الشئ ، يقال : صبرَت فُلانا أصْبِره صَبْراً ، أى : حبسته .
والغداة : أول النهار . والعشى . آخره .
والمعنى : عليك - أيها الرسول الكريم - أن تحبس نفسك وتعودها على مجالسة أصحابك { الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم } أى : يعبدونه ويتقربون إليه بشتى أنواع القربات ، فى الصباح والمساء ، ويداومون على ذلك ، دون أن يريدوا شيئا من وراء هذه العبادة ، سوى رضا الله - تعالى - عنهم ورحمته بهم .
وفى تخصيص الغداة والعشى بالذكر : إشعار بفضل العبادة فيهما : لأنهما محل الغفلة والاشتغال بالأمور الدنيوية غالبا .
ويصح أن يكون ذكر هذين الوقتين المقصود به مداومة العبادة . وإلى هذا المعنى أشار الآلوسى بقوله : قوله : { يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي } أى : يعبدونه دائما . وشاع استعمال مثل هذه العبارة للدوام . وهى نظير قولهم : ضرب زيد الظهر والبطن . يريدون به ضرب جميع البدن . وأبقى غير واحد اللفظين على ظاهرهما أى : يعبدونه فى طرفى النهار .
وقوله : { يريدون وجهه } مدح لهم بالإِخلاص والبعد عن الرياء والمباهاة . . فهم لا يتقربون إلى الله - تعالى - بالطاعات من أجل دينا يصيبونها . أو من أجل إرضاء الناس .
وإنما هم يبتغون بعبادتهم رضا الله - تعالى - وحده ، لا شيئا آخر من حظوظ الدنيا .
وقوله - سبحانه - { وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا . . } نهى له صلى الله عليه وسلم - عن الغفلة عنهم ، بعد أمره بحبس نفسه عليهم .
والفعل { تَعْدُ } بمعنى تصرف . يقال عداه عن الأمر عدوا إذا صرفه عنه وشغله .
أى : احبس نفسك مع هؤلاء المؤمنين الصادقين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه - سبحانه - ولا تصرف عيناك النظر عنهم ، وتتجاوزهم إلى غيرهم من الأغنياء ، طمعا فى إسلامهم .
فالمراد بإرادة الحياة الدنيا الحرص على مجالسة أهل الغنى والجاه حبا فى إيمانهم .
وجملة { تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا } فى موضع الحال من الضمير المضاف إليه فى قوله { عيناك } ، وإنما ساغ ذلك لأن المضاف هنا جزء من المضاف إليه .
وقوله - تعالى - { وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتبع هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً } نهى آخر مؤكد لما قبله من حبس نفسه صلى الله عليه وسلم على هؤلاء المؤمنين الفقراء ، وعدم صرف نظره عنهم إلى غيرهم من المتغطرسين الأغنياء .
والفرط - بضم الفاء والراء - : مجاوزة الحد ، ونبذ الحق والصواب ، واتباع الباطل والضلال . أى : ولا تطع - أيها الرسول الكريم - فى تنحية المؤمنين الفقراء عن مجلسك أقوال أولئك الغافلين عن طاعتنا وعبادتنا لاستحواذ الشيطان عليها ، والذين اتبعوا أهواءهم فآثروا الغى على الرشد . والذين كان أمرهم . فرطا أى : مخالفا للحق ، ومجاوزا للصواب ، ومؤديا للضياع والخسران .
قال ابن جرير - " بعد أن ذكر جملة من الأقوال فى معنى قوله - تعالى - : { فرطا } : وأولى الأقوال فى ذلك بالصواب قول من قال معناه : ضياعا وهلاكا . من قولهم : أفرط فلان فى هذا الأمر إفراطاً ، إذا أسرف فيه . وتجاوز قدره . وكذلك قوله : { وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً } . معناه : وكان أمر هذا الذى أغفلنا قلبه عن ذكرنا فى الرياء والكبر واحتقار أهل الإِيمان سرفا قد تجاوز حده ، فضيع بذلك الحق وهلك " .
فالآية الكريمة تسوق للناس توجيها حكيما فى بيان القيم الحقيقية للناس ؛ وهى أنها تتمثل فى الإِيمان والتقوى ، لا فى الغنى والجاه .
فالمؤمن الصادق فى إيمانه ، الكريم فى أخلاقه . . هو الذى يحرص على مخالطة أهل الإِيمان والتقوى . ولا يمنعه فقرهم من مجالستهم ومصاحبتهم ومؤانستهم والتواضع لهم ، والتقدم إليهم بما يسرهم ويشرح صدورهم .
ولقد ربى النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه على هذا الخلق الكريم ، روى الشيخان عن سهل بن سعد الساعدى قال : " مر رجل على النبى صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس : " ما رأيك فى هذا ؟ " فقال : رجل من أشرف الناس ، هذا والله حرىٌّ إن خطب أن يزوج ، وإن شفع أن يشفع . فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مرّ رجل آخر : فقال له صلى الله عليه وسلم : " ما رأيك فى هذا " ؟ فقال : يا رسول الله ، هذا رجل من فقراء المسلمين هذا والله حرى إن خطب أن لا يزوج ، وإن شفع ألا يشفع ، وإن قال أن لا يسمع لقوله . فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا خير من ملء الأرض مثل هذا " "
( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ، ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ، ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا ، واتبع هواه وكان أمره فرطا . وقل : الحق من ربكم . فمن شاء فليؤمن . ومن شاء فليكفر ) . .
يروي أنها نزلت في أشراف قريش ، حين طلبوا إلى الرسول [ ص ] أن يطرد فقراء المؤمنين من أمثال بلال وصهيب وعمار وخباب وابن مسعود إذا كان يطمع في إيمان رؤوس قريش . أو أن يجعل لهم مجلسا غير مجلس هؤلاء النفر ، لأن عليهم جبابا تفوح منها رائحة العرق ، فتؤذي السادة من كبراء قريش !
ويروى أن الرسول [ ص ] طمع في إيمانهم فحدثته نفسه فيما طلبوا إليه . فأنزل الله عز وجل : ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي . . . ) أنزلها تعلن عن القيم الحقيقية ، وتقيم الميزان الذي لا يخطيء . وبعد ذلك ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) فالإسلام لا يتملق أحدا ، ولا يزن الناس بموازين الجاهلية الأولى ، ولا أية جاهلية تقيم للناس ميزانا غير ميزانه .
( واصبر نفسك ) . . لا تمل ولا تستعجل ( مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) . . فالله غايتهم ، يتجهون إليه بالغداة والعشي ، لا يتحولون عنه ، ولا يبتغون إلا رضاه . وما يبتغونه أجل وأعلى من كل ما يبتغيه طلاب الحياة .
اصبر نفسك مع هؤلاء . صاحبهم وجالسهم وعلمهم . ففيهم الخير ، وعلى مثلهم تقوم الدعوات . فالدعوات لا تقوم على من يعتنقونها لأنها غالبة ؛ ومن يعتنقونها ليقودوا بها الأتباع ؛ ومن يعتنقونها ليحققوا بها الأطماع ، وليتجروا بها في سوق الدعوات تشتري منهم وتباع ! إنما تقوم الدعوات بهذه القلوب التي تتجه إلى الله خالصة له ، لا تبغي جاها ولا متاعا ولا انتفاعا ، إنما تبتغي وجهه وترجو رضاه .
( ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ) . . ولا يتحول اهتمامك عنهم إلى مظاهر الحياة التي يستمتع بها أصحاب الزينة . فهذه زينة الحياة( الدنيا )لا ترتفع إلى ذلك الأفق العالي الذي يتطلع إليه من يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه .
( ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا ، واتبع هواه ، وكان أمره فرطا ) . . لا تطعهم فيما يطلبون من تمييز بينهم وبين الفقراء . فلو ذكروا الله لطامنوا من كبريائهم ، وخففوا من غلوائهم ، وخفضوا من تلك الهامات المتشامخة ، واستشعروا جلال الله الذي تتساوى في ظله الرؤوس ؛ وأحسوا رابطة العقيدة التي يصبح بها الناس إخوة . ولكنهم إنما يتبعون أهواءهم . أهواء الجاهلية . ويحكمون مقاييسها في العباد . فهو وأقوالهم سفه ضائع لا يستحق إلا الإغفال جزاء ما غفلوا عن ذكر الله .
لقد جاء الإسلام ليسوي بين الرؤوس أمام الله . فلا تفاضل بينها بمال ولا نسب ولا جاه . فهذه قيم زائفة ، وقيم زائلة . إنما التفاضل بمكانها عند الله . ومكانها عند الله يوزن بقدر اتجاهها إليه وتجردها له . وما عدا هذا فهو الهوى والسفه والبطلان .
( ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا ) . . أغفلنا قلبه حين اتجه إلى ذاته ، وإلى ماله ، وإلى أبنائه ، وإلى متاعه ولذائذه وشهواته ، فلم يعد في قلبه متسع لله . والقلب الذي يشتغل بهذه الشواغل ، ويجعلها غاية حياته لا جرم يغفل عن ذكر الله ، فيزيده الله غفلة ، ويملي له فيما هو فيه ، حتى تفلت الأيام من بين يديه ، ويلقى ما أعده الله لأمثاله الذين يظلمون أنفسهم ، ويظلمون غيرهم :
سبب هذه الآية أن عظماء الكفار قيل من أهل مكة ، وقيل عيينة بن حصن وأصحابه والأول أصوب ، لأن السورة مكية ، قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أبعدت هؤلاء عن نفسك لجالسناك وصحبناك ، يريدون عمار بن ياسر وصهيب بن سنان وسلمان الفارسي وابن مسعود وغيرهم من الفقراء كبلال ونحوه ، وقالوا إن ريح جبابهم{[7787]} تؤذينا ، فنزلت الآية بسبب ذلك ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إليهم وجلس بينهم ، وقال الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معه{[7788]} ، وروي أنه قال لهم رحباً بالذي عاتبني فيهم ربي ، وروى سلمان أن المؤلفة قلوبهم ، عيينة بن حصن والأقرع بن حابس وذويهم ، قالوا ما ذكر ، فنزلت الآية{[7789]} في ذلك .
قال القاضي أبو محمد : فالآية على هذا مدنية ، ويشبه أن تكون الآية مكية ، وفعل المؤلفة قريش فرد بالآية عليهم ، { واصبر } معناه احبس ، ومنه المصبورة التي جاء فيها الحديث : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صبر الحيوان{[7790]} ، أي حبسه للرمي ونحوه ، وقرأ الجمهور «بالغداة » ، وقرأ ابن عامر «بالغدوة » وهي قراءة نصر بن عاصم ومالك بن دينار وأبي عبد الرحمن والحسن ، وهي في الخط على القراءتين بالواو ، فمن يقرأها «بالغداة » يكتبها «بالغدوة » كما تكتب «الصلوة والزكوة » ، وفي قراءة من قرأ «بالغدوة » ضعف لأن «غدوة » اسم معروف فحقه أن لا تدخل عليه الألف واللام ووجه القراءة بذلك أنهم ألحقوها ضرباً من التنكير إذ قالوا حيث غدوة يريدون الغدوات فحسن دخول الألف واللام كقولهم الفينة وفينة اسم معرف ، والإشارة بقوله { يدعون ربهم بالغداة والعشي } إلى الصلوات الخمس . قاله ابن عمر ومجاهد وإبراهيم ، وقال قتادة المراد صلاة الفجر ، وصلاة العصر .
قال القاضي أبو محمد : ويدخل في الآية من يدعو في غير صلاة ، ومن يجتمع لمذاكرة علم ، وقد روى عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «لذكر الله بالغداة والعشي أفضل من حطم السيوف في سبيل الله ، ومن إعطاء المال سحاً »{[7791]} ، وقرأ أبو عبد الرحمن «بالغدو » دون هاء ، وقرأ ابن أبي عبلة «بالغدوات » «والعشيات » على الجمع ، وقوله { ولا تعد عيناك } أي لا تتجاوز عنهم إلى أبناء الدنيا والملابس من الكفار ، وقرأ الحسن «ولا تُعَدِّ عينيك » بضم التاء وفتح العين وشد الدال المكسورة ، أي لا تجاوزها أنت عليهم ، وروي عنه «ولا تُعْد عينك » بضم التاء وسكون العين{[7792]} ، وقوله { من أغفلنا } قيل إنه أراد بذلك معيناً وهو عيينة بن حصن ، والأقرع قاله خباب ، وقيل إنما أراد من هذه صفته ، وإنما المراد أولاً كفار قريش ، لأن الآية ، وقرأ الجمهور «أغفلنا قلبَه »{[7793]} بنصب الباء على معنى جعلناه غافلاً ، وقرأ عمرو بن فائد وموسى الأسواري «أغفلنا قلبه » على معنى أهمل ذكرنا وتركه ، قال ابن جني المعنى من ظننا غافلين عنه ، وذكر أبو عمرو الداني أنها قراءة عمرو بن عبيد و «الفرط » يحتمل أن يكون بمعنى التفريط والتضييع ، أي أمره الذي يجب أن يلتزم ، ويحتمل أن يكون بمعنى الإفراط والإسراف ، أي أمره وهواه الذي هو بسبيله ، وقد فسره المتأولون بالعبارتين : أعني التضييع والإسراف ، وعبر خباب عنه بالهلاك ، وداود بالندامة ، وابن زيد بالخلاف للحق ، وهذا كله تفسير بالمعنى .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم} يعني: يعبدون ربهم، يعنى بالصلاة له،
{بالغداوة والعشي}، طرفي النهار،
{يريدون وجهه}، يعني: يبتغون بصلاتهم وصومهم وجه ربهم،
{ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا}... {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا}، يعني: القرآن،
{وكان أمره} الذي يذكر من شرفه وحسبه، {فرطا}، يعني: ضائعا في القيامة...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"وَاصْبِرْ" يا محمد "نَفْسَكَ مَعَ "أصحابك "الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ والعَشِيّ" بذكرهم إياه بالتسبيح والتحميد والتهليل والدعاء والأعمال الصالحة من الصلوات المفروضة وغيرها "يُرِيدُونَ" بفعلهم ذلك "وَجْهَهُ" لا يريدون عرضا من عرض الدنيا...
وقوله: "وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ"، يقول جلّ ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم: ولا تصرف عيناك عن هؤلاء الذين أمرتك يا محمد أن تصبر نفسك معهم إلى غيرهم من الكفار، ولا تجاوزهم إليه، وأصله من قولهم: عدوت ذلك، فأنا أعدوه: إذا جاوزته... قال ابن زيد، في قوله: "واصْبِرْ نَفْسِكَ..."، قال: قال القوم للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إنا نستحيي أن نجالس فلانا وفلانا وفلانا، فجانبهم يا محمد، وجالس أشراف العرب، فنزل القرآن "وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاة والعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ" ولا تحقرهم...
وقوله: "تُرِيدُ زِينَة الحَياةَ الدّنيْا" يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: لا تعدُ عيناك عن هؤلاء المؤمنين الذين يدعون ربهم إلى أشراف المشركين، تبغي بمجالستهم الشرف والفخر... وقوله: "وَلا تُطعْ مَنْ أغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتّبَعَ هَوَاهُ" يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: ولا تطع يا محمد من شغلنا قلبه من الكفار الذين سألوك طرد الرهط الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ عنك، عن ذكرنا، بالكفر وغلبة الشقاء عليه، واتبع هواه، وترك اتباع أمر الله ونهيه، وآثر هوى نفسه على طاعة ربه...
وأما قوله: "وكانَ أمْرُهُ فُرُطا" فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله؛ فقال بعضهم: معناه: وكان أمره ضياعا... وقال آخرون: بل معناه: وكان أمره ندما... وقال آخرون: بل معناه: هلاكا... وقال آخرون: بل معناه: خلافا للحق... وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: معناه: ضياعا وهلاكا، من قولهم: أفرط فلان في هذا الأمر إفراطا: إذا أسرف فيه وتجاوز قدره، وكذلك قوله: "وكانَ أمْرُهُ فُرُطا" معناه: وكان أمر هذا الذي أغفلنا قلبه عن ذكرنا في الرياء والكبر، واحتقار أهل الإيمان، سرفا قد تجاوز حدّه، فَضَيّع بذلك الحقّ وهلك...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{واصبر نفسك مع الذين يدعون بالغداة والعشي}... فيه الأمر بالجلوس لهم بالغدوات والعشيات للتذكير وتعليم العلم على ما تعارف الناس الجلوس للناس كذلك في هذين الوقتين؛ إذ ذانك الوقتان خاليان عن الأشغال التي تشغلهم عن ذلك:"الغَداةَ والعَشِيُّ" لما لم يجعل عليهم بعد صلاة الغداة صلاة وكذلك العصر للذكر الذي ذكرنا وتعليم ما يحتاجون في ليلهم ونهارهم. أو أن يكون ذلك كناية عن صلاة الفجر والعصر لما جاء لهما من فضل ووعد لم يجيء في غيرهما من الصلوات... {ولا تعد عيناك عنهم} قيل: ولا تتعد عنهم إلى غيرهم وقيل: لا تصرف، ولا ترفع عينيك عنهم ولا تجاوزهم إلى غيرهم {تريد زينة الحياة الدنيا} هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: إن كان على تأويل أهل التأويل أنهم سألوه أن يتخذ لهم مجلسا دون أولئك فيكون تأويل قوله: {تريد زينة الحياة الدنيا} أي تريد أولئك الذين يطلبون منك مجلسا على حدة، يريدون بذلك زينة الحياة الدنيا لا يريدون بذلك وجه الله. والثاني: لو فعلت ما سألوك كان فعل ذلك فعل من يريد زينة الحياة الدنيا، لأن المجلس الذي يحضره الأشراف والرؤساء إنما يراد به زينة الحياة الدنيا، والله أعلم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وقال قوم من رؤساء الكفرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: نحِّ هؤلاء الموالي... وهم: صهيب وعمار وخباب وغيرهم من فقراء المسلمين، حتى نجالسك... فنزلت: {واصبر نَفْسَكَ}: وأحبسها معهم وثبتها...
{بالغداة والعشى} دائبين على الدعاء في كل وقت...
[ولا تعد] يقال: عداه إذا جاوزه، ومنه قولهم: عدا طوره. وجاءني القوم عدا زيداً، وإنما عدي بعن لتضمين عدا معنى نبا وعلا، في قولك: نبت عنه عينه وعلت عنه عينه: إذا اقتحمته ولم تعلق به...
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزدري بفقراء المؤمنين، وأن تنبو عينه عن رثاثة زيهم طموحاً إلى زيّ الأغنياء وحسن شارتهم، {تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا} في موضع الحال {مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ} من جعلنا قلبه غافلاً عن الذكر بالخذلان... {فُرُطًا}: متقدّماً للحق والصواب نابذاً له وراء ظهره من قولهم «فرس فرط»: متقدّم للخيل.
... {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه} يدل على أن شر أحوال الإنسان أن يكون قلبه خاليا عن ذكر الحق ويكون مملوءا من الهوى الداعي إلى الاشتغال بالخلق. وتحقيق القول أن ذكر الله نور وذكر غيره ظلمة... فالإعراض عن الحق هو المراد بقوله: {أغفلنا قلبه عن ذكرنا} والإقبال على الخلق هو المراد بقوله: {واتبع هواه}...
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
فإذا أراد العبد أن يقتدي برجل فلينظر: هل هو من أهل الذكر أو من الغافلين؟ وهل الحاكم عليه الهوى أو الوحي؟ فإن كان الحاكم عليه هو الهوى وهو من أهل الغفلة، كان أمره فرطا.
ومعنى «الفرط» قد فسر بالتضييع، أي: أمره الذي يجب أن يلزمه ويقوم به، وبه رشده وفلاحه، ضائع، قد فرط فيه.
وفسر بالإسراف، أي: قد أفرط. وفسر بالإهلاك، وفسر بالخلاف للحق. وكلها أقوال متقاربة.
والمقصود: أن الله سبحانه وتعالى نهى عن طاعة من جمع هذه الصفات. فينبغي للرجل أن ينظر في شيخه وقدوته ومتبوعه، فإن وجده كذلك فليبعد منه، وإن وجده ممن غلب عليه ذكر الله تعالى -عز وجل – واتباع السنة، وأمره غير مفروط عليه، بل هو حازم في أمره فليستمسك بغرزه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما بالغ في أمره صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمجالسة المسلمين، نهاه عن الالتفات إلى الغافلين، و أكد الإعراض عن الناكبين فقال تعالى: {ولا تطع من أغفلنا} بعظمتنا {قلبه} أي جعلناه غافلاً، لأن الفعل فيه لنا لا له {عن ذكرنا} بتلك الزينة. ولما كان التقدير: فغفل، لأن عظمتنا لا يغلبها شيء فلا يكون إلا ما نريد، عطف على فعل المطاوعة قوله تعالى: {واتبع هواه} بالميل إلى ما استدرجناه به منها والأنفة من مجالسة أوليائنا الذين أكرمناهم بالحماية منها لأن ذكر الله مطلع الأنوار، فإذا أفلت الأنوار تراكمت الظلمة فجاء الهوى فأقبل على الخلق {وكان أمره فرطاً} أي متجاوزاً للحد مسرفاً فيه متقدماً على الحق، فيكون الحق منبوذاً به وراء الظهر مفرطاً فيه بالتقصير فإن ربك سبحانه سينجي أتباعك على ضعفهم منهم كما أنجى أصحاب الكهف، ويزيدك بأن يعليهم عليهم ويدفع الجبابرة في أيديهم لأنهم مقبلون على الله معرضون عما سواه، وغيرهم مقبل على غيره معرض عنه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذا الدرس كله تقرير للقيم في ميزان العقيدة. إن القيم الحقيقية ليست هي المال، وليست هي الجاه، وليست هي السلطان. كذلك ليست هي اللذائذ والمتاع في هذه الحياة.. إن هذه كلها قيم زائفة وقيم زائلة. والإسلام لا يحرم الطيب منها؛ ولكنه لا يجعل منها غاية لحياة الإنسان. فمن شاء أن يتمتع بها فليتمتع، ولكن ليذكر الله الذي أنعم بها. وليشكره على النعمة بالعمل الصالح، فالباقيات الصالحات خير وأبقى.
وهو يبدأ بتوجيه الرسول [صلى الله عليهوسلم] أن يصبر نفسه مع الذين يتجهون إلى الله؛ وأن يغفل ويهمل
الذين يغفلون عن ذكر الله. ثم يضرب للفريقين مثلا رجلين:أحدهما يعتز بما أوتي من مال وعزة ومتاع. والآخر يعتز بالإيمان الخالص، ويرجو عند ربه ما هو خير. ثم يعقب بمثل يضرب للحياة الدنيا كلها، فإذا هي قصيرة زائلة كالهشيم تذروه الرياح. وينتهي من ذلك كله بتقرير الحقيقة الباقية: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا، والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا)..
(واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا، ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا، واتبع هواه وكان أمره فرطا. وقل: الحق من ربكم. فمن شاء فليؤمن. ومن شاء فليكفر)..
يروي أنها نزلت في أشراف قريش، حين طلبوا إلى الرسول [صلى الله عليهوسلم] أن يطرد فقراء المؤمنين من أمثال بلال وصهيب وعمار وخباب وابن مسعود إذا كان يطمع في إيمان رؤوس قريش. أو أن يجعل لهم مجلسا غير مجلس هؤلاء النفر، لأن عليهم جبابا تفوح منها رائحة العرق، فتؤذي السادة من كبراء قريش!
ويروى أن الرسول [صلى الله عليهوسلم] طمع في إيمانهم فحدثته نفسه فيما طلبوا إليه. فأنزل الله عز وجل: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي...) أنزلها تعلن عن القيم الحقيقية، وتقيم الميزان الذي لا يخطئ. وبعد ذلك (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) فالإسلام لا يتملق أحدا، ولا يزن الناس بموازين الجاهلية الأولى، ولا أية جاهلية تقيم للناس ميزانا غير ميزانه.
(واصبر نفسك).. لا تمل ولا تستعجل (مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه).. فالله غايتهم، يتجهون إليه بالغداة والعشي، لا يتحولون عنه، ولا يبتغون إلا رضاه. وما يبتغونه أجل وأعلى من كل ما يبتغيه طلاب الحياة.
اصبر نفسك مع هؤلاء. صاحبهم وجالسهم وعلمهم. ففيهم الخير، وعلى مثلهم تقوم الدعوات. فالدعوات لا تقوم على من يعتنقونها لأنها غالبة؛ ومن يعتنقونها ليقودوا بها الأتباع؛ ومن يعتنقونها ليحققوا بها الأطماع، وليتجروا بها في سوق الدعوات تشتري منهم وتباع! إنما تقوم الدعوات بهذه القلوب التي تتجه إلى الله خالصة له، لا تبغي جاها ولا متاعا ولا انتفاعا، إنما تبتغي وجهه وترجو رضاه.
(ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا).. ولا يتحول اهتمامك عنهم إلى مظاهر الحياة التي يستمتع بها أصحاب الزينة. فهذه زينة الحياة (الدنيا) لا ترتفع إلى ذلك الأفق العالي الذي يتطلع إليه من يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه.
(ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا، واتبع هواه، وكان أمره فرطا).. لا تطعهم فيما يطلبون من تمييز بينهم وبين الفقراء. فلو ذكروا الله لطامنوا من كبريائهم، وخففوا من غلوائهم، وخفضوا من تلك الهامات المتشامخة، واستشعروا جلال الله الذي تتساوى في ظله الرؤوس؛ وأحسوا رابطة العقيدة التي يصبح بها الناس إخوة. ولكنهم إنما يتبعون أهواءهم. أهواء الجاهلية. ويحكمون مقاييسها في العباد. فهو وأقوالهم سفه ضائع لا يستحق إلا الإغفال جزاء ما غفلوا عن ذكر الله.
لقد جاء الإسلام ليسوي بين الرؤوس أمام الله. فلا تفاضل بينها بمال ولا نسب ولا جاه. فهذه قيم زائفة، وقيم زائلة. إنما التفاضل بمكانها عند الله. ومكانها عند الله يوزن بقدر اتجاهها إليه وتجردها له. وما عدا هذا فهو الهوى والسفه والبطلان.
(ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا).. أغفلنا قلبه حين اتجه إلى ذاته، وإلى ماله، وإلى أبنائه، وإلى متاعه ولذائذه وشهواته، فلم يعد في قلبه متسع لله. والقلب الذي يشتغل بهذه الشواغل، ويجعلها غاية حياته لا جرم يغفل عن ذكر الله، فيزيده الله غفلة، ويملي له فيما هو فيه، حتى تفلت الأيام من بين يديه، ويلقى ما أعده الله لأمثاله الذين يظلمون أنفسهم، ويظلمون غيرهم
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا}.
هذا من ذيول الجواب عن مسألتهم عن أهل الكهف، فهو مشارك لقوله: {واتل ما أوحى إليك من كتاب} وتقدم في سورة الأنعام (52) عند قوله تعالى: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} أن سادة المشركين كانوا زعموا أنه لولا أن من المؤمنين ناساً أهل خصاصة في الدنيا وأرقاء لا يدانوهم ولا يستأهلون الجلوس معهم لأتَوْا إلى مجالسة النبي واستمعوا القرآن، فاقترحوا عليْه أن يطردهم من حوله إذا غشيه سادة قريش، فرد الله عليهم بما في سورة الأنعام وما في هذه السورة.
وما هنا آكدُ إذْ أمرَه بملازمتهم بقوله:"واصبر نفسك"، أي: احبسها معهم حبس ملازمة. والصبر: الشد بالمكان بحيث لا يفارقه. ومنه سميت المَصْبورة وهي الدابة تشد لتُجعل غَرضاً للرمي. ولتضمين فعل (اصبر) معنى الملازمة علق به ظرف (مع).
و {الغداة} قرأه الجمهور بألف بعد الدال: اسم الوقت الذي بين الفجر وطلوع الشمس. والعَشي: المساء. والمقصود أنهم يدعون الله دعاءً متخللاً سائر اليوم والليلة. والدعاء: المناجاة والطلب. والمراد به ما يشمل الصلوات.
والتعبير عنهم بالموصول للإيماء إلى تعليل الأمر بملازمتهم، أي لأنهم أحرياء بذلك لأجل إقبالهم على الله فهم الأجدر بالمقارنة والمصاحبة...
وجملة {يريدون وجهه} في موضع الحال. ووجه الله: مجاز في إقباله على العبد.
ثم أكّد الأمر بمواصلتهم بالنهي عن أقل إعراض عنهم.
وظاهر {ولا تعد عيناك عنهم} نَهْي العينين عن أن تَعْدُوَا عن الذين يدعون ربهم، أي أن تُجاوزاهم، أي تبعُدَا عنهم. والمقصود: الإعراض، ولذلك ضمن فعل العَدْو معنى الإعراض، فعدي إلى المفعول ب (عن) وكان حقه أن يتعدى إليه بنفسه يقال: عداه، إذا جاوزه. ومعنى نهي العينين نهي صاحبهما، فيؤول إلى معنى: ولا تعدّي عينيك عنهم. وهو إيجاز بديع.
وجملة {تريد زينة الحياة الدنيا} حال من كاف الخطاب، لأن المضاف جزء من المضاف إليه، أي لا تكن إرادة الزينة سبب الإعراض عنهم لأنهم لا زينة لهم من بزة وسمت.
وهذا الكلام تعريض بحماقة سادة المشركين الذين جعلوا همهم وعنايتهم بالأمور الظاهرة وأهملوا الاعتبار بالحقائق والمكارم النفسية فاستكبروا عن مجالسة أهل الفضل والعقول الراجحة والقلوب النيرة وجعلوا همّهم الصور الظاهرة.
{ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا}
هذا نهي جامع عن ملابسة شيء مما يأمره به المشركون. والمقصود من النهي تأسيس قاعدة لأعمال الرسول والمسلمين تُجاه رغائب المشركين وتأييس المشركين من نوال شيء مما رغبوه من النبي صلى الله عليه وسلم.
وما صدق (مَن) كل من اتصف بالصلة، وقيل نزلت في أمية بن خَلَف الجُمَحي، دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى طرد فقراء المسلمين عن مجلسه حين يجلس إليه هو وأضرابه من سادة قريش.
والمراد بإغفال القلب جعله غافلاً عن الفكر في الوحدانية حتى راج فيه الإشراك، فإن ذلك ناشئ عن خلقة عقول ضيفة التبصر مسوقة بالهوى والإلف.
وأصل الإغفال: إيجاد الغفلة، وهي الذهول عن تذكر الشيء، وأريد بها هنا غفلة خاصة، وهي الغفلة المستمرة المستفادة من جعل الإغفال من الله تعالى كناية عن كونه في خِلقة تلك القلوب، وما بالطبع لا يتخلف.
وقد اعتضد هذا المعنى بجملة {واتبع هواه}، فإن اتباع الهوى يكون عن بصيرة لا عن ذهول، فالغفلة خلقة في قلوبهم، واتباع الهوى كسب من قدرتهم.
والفُرُط بضمتين: الظلم والاعتداء. وهو مشتق من الفُروط وهو السبق لأن الظلم سبْق في الشر.
وزيادة فعل الكون للدلالة على تمكن الخبر من الاسم، أي حالة تمكن الإفراط والاعتداء على الحق.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
يبدو في كل هذا تلقين جليل مستمر المدى ومبدأ من مبادئ القرآن المحكمة يلمح فيهما في الوقت نفسه عدم إقرار الفروق الاجتماعية كظاهرة واجبة الرعاية في المجتمع الإسلامي. وإذا لحظنا أنه كان لهذه الظاهرة اعتبار عظيم في حياة الأمم وتقاليدها على اختلافها في عصر النبي صلى الله عليه وسلم بدت روعة الهدف القرآني والمبدأ المحكم والتلقين الجليل اللذين ينطويان فيه، وبدا في هذا دليل لمن يعوزه الدليل على أن القرآن وحي من الله ينزل بما فيه الحق والحكمة ليصحح موقفا من المحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجنح إليه...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
الرساليون قوة الإسلام الحقيقية: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشيِّ} إنها كناية عن التزام الموقف الرسالي للمؤمنين الضعفاء، الذين آمنوا بالله وبالرسول من موقع اليقين، واتبعوا النبي من موقع الإخلاص، وانفتحوا على الله سبحانه من خلال وعيهم لحقيقة العبودية في وجودهم أمام الألوهية في ذات الله، فابتهلوا إليه في حالات الخشوع، ودعوه في مواقف الخضوع، فهم يمثلون القوّة الحقيقية للإسلام في حركته، لأنهم الذين يعيشون فكره بعمقٍ وروحانيته بصفاءٍ، ويتحركون في خطّه بإخلاصٍ، ويواجهون التحديات في ساحة الصراع بقوّةٍ. وهؤلاء هم الامتداد الرسالي في حركة الحاضر والمستقبل، لأنّ الرسالة لا تمثّل في وعيهم الفرصة السانحة للحصول على الامتيازات الاجتماعية أو المنافع الشخصية، بل تمثل في حركتهم الانطلاقة الواسعة نحو المسؤولية القائمة على أساس التضحية بكل شيءٍ في سبيل الله من أجل خدمة الحياة والإنسان، في ما يريد الله للعاملين أن يحققوه من ذلك. وهكذا يريد الله من رسوله، ومن كل داعيةٍ، أن يحبس نفسه مع هؤلاء، ويقربهم إليه، ويعيش معهم، ويصبر على مشاكلهم، ويتحمّل سلبياتهم، لأنهم يعيشون مع الله في حياتهم وهو ما يمثله انقطاعهم إليه في الدعاء، في مواقع عبادته في الصباح والمساء {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} ولعله كنايةٌ عن إرادتهم لله وحده في كل وجهتهم في الحياة، سواءٌ في التزامهم الفكري أو العاطفي أو العملي، أو في اتجاههم للحصول على رضاه ومحبته، فهم في التزامهم وعملهم لا يلتفتون إلى غيره، فالله هو غاية الغايات في حياتهم، فمنه تتحرك بداية الحياة في كل خطواتهم، وإليه ينتهي كل هدف وكل أمر... وهذا هو الخط الذي يريد للدعاة أن يلتزموه في اختيار المجتمع الذي يكونون جزءاً منه، أو يلتزمون حركته، أو يتعاطفون معه. إنه المجتمع الذي يخلص أفراده لله في الفكر والروح والممارسة، لأنه هو الذي يعطي لهم النمو الروحي من خلال الأجواء الروحية، ويحقق لهم الشعور بالثقة والثبات في الموقف من خلال القوة التي يعيشها المؤمنون ويمارسونها في داخله، وبذلك يكون المجتمع قوةً لهم كما يكونون قوةً له، من خلال ما يعطونه من فكر أو يثيرونه في داخله من مشاعر وأجواء وقضايا...
التقوى أساس في التفاضل ولكن المسألة في هذا الجو ليست مسألة مجلسٍ لهؤلاء أو مجلسٍ لأولئك، ليكون ذلك أساساً لحل المشكلة التي أثارها الأشراف المترفون، بل هي مسألة القيمة الإسلامية الروحية التي أرادها الله للمجتمع في دائرة العلاقات الإنسانية، وهي المساواة بين الأفراد في الحقوق والواجبات في ساحة القانون، واعتبار التقوى التي تمثل الإيمان العملي هي الأساس في التفاضل، بعيداً عن أيّ موقع طبقي أو ماليّ أو اجتماعي، أو غير ذلك... فإن الاستجابة لهؤلاء تعني الإقرار لهم بالنظرة الفوقية التي ينظرون بها إلى المؤمنين الفقراء، واعتبار الامتيازات التي يدعونها لأنفسهم حقاً شرعياً لهم على الآخرين، ما يؤدي إلى التنازل عن حركة القيمة الروحية الإنسانية في حياة الناس، وهذا ما لا يمكن الموافقة عليه، ولهذا كان جوّ الآية يوحي بالرفض لهؤلاء الأشراف، والإهمال لهم والبعد عنهم في مواجهة رفضهم للمساواة مع المستضعفين المؤمنين، تأكيداً على أن قيمة الإيمان المنفتح على الله من موقع الإخلاص هي أعلى من كل قيمة أخرى، وعلى أن مهمة الرسول، أو الداعية، أن يلتزم خط المخلصين من المؤمنين ويرعاهم، لأنهم الأساس في انطلاقة المجتمع الإسلامي نحو التوازن والتكامل على خط الإسلام، لأن الإيمان يمثل في وجدانهم القناعة الفكرية والروحية التي يعيشون الحياة من أجلها، بينما يمثل الإيمان للمترفين الموقع الاجتماعي القويّ الذي فرض نفسه على الساحة، ويريدون أن يتخذوا لأنفسهم مكاناً داخله، ليضيفوا على امتيازاتهم القديمة امتيازات جديدة، من خلال ما يمثله الإسلام من مركز قوّة جديد، ولهذا فهم يتعاملون معه من مواقع الخارج عن عمق الذات، بينما يتعامل المؤمنون المستضعفون معه من مواقع العمق الداخلي للذات. وهذا ما يجعل المترفين يبحثون في بعض أحكام الإسلام عمّا يتخذونه وسيلة لتبرير ترفهم ولهوهم وعبثهم... ولو كان ذلك بطريقة التحريف واللعب على النصوص، بينما يبحث المؤمنون عن أفضل الطرق لتطبيق أحكام الله، ولتغيير أوضاعهم وعاداتهم وتقاليدهم من خلال ذلك، وللاحتياط في تركيز المواقف على خط الشريعة، بعيداً عما إذا كان ذلك منفعةً لهم أو لا...
وربما يتصور البعض من العاملين أن الاندماج في المجتمع المترف يساعد على ربح مواقع متقدمة للإسلام، وذلك لما يفتح لهم، من خلالهم، من آفاقٍ ثقافيةٍ واجتماعيةٍ وسياسيةٍ، مما يعطي الإسلام قوّةً جديدةً في مواجهة الكفر. وقد يساهم إلى جانب ذلك في الاستفادة من إمكاناتهم الاقتصادية في تشجيع المشاريع الخيرية العامة، التي يقوم بها العاملون من أجل حل المشاكل الاجتماعية المعقّدة، ما ينعكس إيجاباً على حياة المستضعفين الذين يستفيدون من الخدمات التي تقدمها تلك المشاريع لهم. ولكن هذا التصور ليس دقيقاً، بل يحمل بعض الخلل في تفاصيله، لأن المسألة التي يثيرها القرآن الكريم، في ما نريد أن نستوحيه من علاقات الداعية بالناس، هي قضية عدم الاندماج في المجتمع المترف اللاهي، البعيد عن روحية الإيمان وفكره، وإهمال المجتمع المؤمن المستضعف الذي يحمل مسؤولية الدعوة في خط الإسلام، لأن ذلك يؤدي إلى كثير من السلبيات على صعيد مصداقية الداعية، ومسؤوليته الإسلامية، وروحانيته الإيمانية، وتحوّله إلى شخصية اجتماعية، تتحرك من خلال قيم المجتمع المنحرف، وتمنحها شرعيةً إسلامية من خلال الموقع الرسمي...