75- جعل الله مثلا يوضح فساد ما عليه المشركون ، بعبد مملوك لا يقدر على فعل شيء ، وبحرّ رزقه الله رزقاً طيباً حلالا ، فهو يتصرف فيه ، وينفق منه في السر والجهر . هل يستوي العبيد الذين لا يقدرون على شيء ، والأحرار الذين يملكون ويتصرفون فيما يملكون ؟ إن الله ملك كل شيء ، فهو يتصرف في ملكوته كما يريد ، وغيره لا يملك أي شيء فلا يستحق أن يُعبد ويُحمد ، الثناء كله حق لله وحده ، والتنزيه له وحده ، وله العلو وحده ؛ لأن كل خير صدر عنه ، وكل جميل مرده إليه ، ولا يفعل هؤلاء ما يفعلون عن علم ، وإنما يفعلون ما يفعلون تقليداً لرؤسائهم ، بل أكثرهم لا يعلمون ، فيضيفون نعمه إلى غيره ، ويعبدونه من دونه .
ثم وضح لهم - سبحانه - كيف تضرب الأمثال ، فساق مثلين حكيمين يدلان على وحدانية الله - تعالى - وقدرته . .
أما المثل الأول : فيتجلى في قوله - عز وجل - : { ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ . . } ، أي : ذكر الله - تعالى - وبين ووضح لكم مثلا تستدلون به على وحدانيته - سبحانه - : وهو أن هناك عبدا رقيقا مملوكا لغيره ، وهذا العبد لا يقدر على شيء من التصرفات حتى ولو كانت قليلة .
وقوله - سبحانه - : { عبدا } ، بدل من { مثلا } ، و { مملوكا } ، صفة للعبد . ووصف - سبحانه - العبد بأنه مملوك ؛ ليحصل الامتياز بينه وبين الحر ؛ لأن كليهما يشترك في كونه عبدا لله - تعالى - . ووصفه أيضا - بأنه لا يقدر على شيء ؛ للتمييز بينه وبين المكاتب والعبد المأذون له في التصرف ؛ لأنهما يقدران على بعض التصرفات . هذا هو الجانب الأول من المثل ، أما الجانب الثاني : فيتجلى في قوله - تعالى - : { وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً . . . } . قال الألوسي : " و " من " في قوله : { ومن رزقناه } ، نكرة موصوفة ، ليطابق عبدا ، فإنه نكرة موصوفة - أيضا - ، وقيل : إنها موصولة ، والأول اختيار الأكثرين ، أي : حرا رزقناه بطريق الملك ، والالتفات إلى التكلم - في { رزقناه } ؛ للإِشعار باختلاف حال ضرب المثل والرزق . . . " .
أي : ذكر الله - تعالى - لكم لتتعظوا وتتفكروا ، حال رجلين : أحدهما : عبد مملوك لا يقدر على شيء . والثاني حر مالك رزقه الله - تعالى - رزقا واسعا حلالا حسنا ، { فهو } ، أي : هذا الحر ينفق على غيره من هذا الرزق الحسن { سرا وجهرا } ، واختار - سبحانه - ضمير العظمة في قوله : { رزقناه } ؛ للإِشعار بكثره هذا الرزق وعظمته ، ويزيده كثرة وعظمة قوله - تعالى - بعد ذلك : { مِنَّا } ، أي : من عندنا وحدنا ، وليس من عند غيرنا . ووصف - سبحانه - الرزق بالحسن ؛ للإشارة إلى أنه مع كثرته فهو حلال طيب مستحسن في الشرع وفي نظر الناس .
وقال - سبحانه - : { فهو ينفق } بصيغة الجملة الاسمية ، للدلالة على ثبوت هذا الإنفاق ودوامه .
وقوله : { سرا وجهرا } ، منصوبان على المصدر ، أي : إنفاق سر وجهر ، أو على الحالية ، أي : فهو ينفق منه في حالتي السر والجهر . والمراد أنه إنسان كريم ، لا يبخل بشيء مما رزقه الله ، بل ينفق منه في عموم الأحوال ، وعلى من تحسن معه النفقة سرا ، وعلى من تحسن معه النفقة جهرا . هذان هما الجانبان المتقابلان في هذا المثل ، والفرق بينهما واضح وعظيم عند كل ذي قلب سليم ، ولذا جاء بعدهما بالاستفهام الإِنكاري التوبيخى فقال : { هل يستوون } ؟ أي : هل يستوي في عرفكم أو في عرف أي عاقل ، هذا العبد المملوك العاجز الذي لا يقدر على شيء . . مع هذا الإنسان الحر المالك الذي رزقه الله - سبحانه - رزقا واسعا حلالا ، فشكر الله عليه ، واستعمله في وجوه الخير . إن مما لا شك فيه أنهما لا يستويان حتى في نظر من عنده أدنى شيء من عقل .
ومادام الأمر كذلك ، فكيف سويتم - أيها المشركون الجهلاء - في العبادة ، بين الخالق الرازق الذي يملك كل شيء ، وبين غيره من المعبودات الباطلة التي لا تسمع ولا تبصر ، ولا تعقل ، ولا تملك شيئا .
وقال - سبحانه - : { هل يستوون } ، مع أن المتقدم اثنان ؛ لأن المراد جنس العبيد والأحرار ، المدلول عليهما بقوله : { عبدا } ، وبقوله : { ومن رزقناه } . فالمقصود بالمثل كل من اتصف بهذه الأوصاف المذكورة من الجنسين المذكورين ، لا فردان معينان .
وقوله : { الحمد لله } ، ثناء منه - سبحانه - على ذاته ، حيث ساق - سبحانه - هذه الأمثال الواضحة للتمييز بين الحق والباطل ، أي : قل - أيها الانسان المؤمن العاقل - : { الحمد } كله { لله } - تعالى - على إرشاده لعباده المؤمنين ، وتعليمهم كيف يقذفون بحقهم على باطل أعدائهم فإذا هو زاهق .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ، أي : بل أكثر هؤلاء الكافرين الضالين لا يعلمون كيف يميزون بين الحق والباطل ؛ لانطماس بصائرهم ، واستيلاء الجحود والحسد والعناد على قلوبهم .
وقال - سبحانه - { بل أكثرهم . . } ؛ للإِشعار بأن من هؤلاء الكافرين من يعلم الحق ويعرفه كما يعرف أبناءه ، ولكن الهوى والغرور والتقليد الباطل . . حال بينه وبين اتباع الحق . هذا هو المثال الأول الذي ذكره الله - تعالى - للاستدلال على بطلان التسوية بين عبادة الله - تعالى - الخالق لكل شيء والمالك لكل شيء . . وبين عبادة غيره من الأصنام والجمادات التي لا تخلق شيئا ، ولا تملك شيئا ، ولا تضر ولا تنفع .
ثم يضرب لهم مثلين للسيد المالك الرازق وللمملوك العاجز الذي لا يملك ولا يكسب . لتقريب الحقيقة الكبرى التي غفلوا عنها . حقيقة أن ليس لله مثال ، وما يجوز أن يسووا في العبادة بين الله وأحد من خلقه وكلهم لهم عبيد :
( ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ، ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا . هل يستوون ؟ الحمد لله . بل أكثرهم لا يعلمون . )
والمثل الأول مأخوذ من واقعهم ، فقد كان لهم عبيد مملوكون ، لا يملكون شيئا ولا يقدرون على شيء . وهم لا يسوون بين العبد المملوك العاجز والسيد المالك المتصرف . فكيف يسوون بين سيد العباد ومالكهم وبين أحد أو شيء مما خلق . وكل مخلوقاته له عبيد ؟
ثم علمهم كيف يضرب ، فضرب مثلا لنفسه ولمن عبد دونه فقال : { ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو يُنفق منه سرا وجهرا هل يستوون } ، مثل ما يشرك به بالمملوك العاجز عن التصرف رأسا ، ومثل نفسه بالحر المالك الذي رزقه الله مالا كثيرا ، فهو يتصرف فيه وينفق منه كيف يشاء ، واحتج بامتناع الاشتراك والتسوية بينهما مع تشاركهما في الجنسية والمخلوقية ، على امتناع التسوية بين الأصنام التي هي أعجز المخلوقات ، وبين الله الغني القادر على الإطلاق . وقيل : هو تمثيل للكافر المخذول والمؤمن الموفق ، وتقييد العبد بالمملوكية للتمييز عن الحر ، فإنه أيضا عبد الله ، وبسلب القدرة للتمييز عن المكاتب والمأذون ، وجعله قسيما للمالك المتصرف ، يدل على أن : المملوك لا يملك ، والأظهر أن : { من } ، نكرة موصوفة ليطابق { عبدا } ، وجمع الضمير في : { يستوون } ؛ لأنه للجنسين ، فإن المعنى : هل يستوي الأحرار والعبيد ؟ { الحمد لله } ، كل الحمد له ، لا يستحقه غيره ، فضلا عن العبادة ؛ لأنه مولى النعم كلها . { بل أكثرهم لا يعلمون } ، فيضيفون نعمة إلى غيره ، ويعبدونه لأجلها .
أعقب زجرهم عن أن يشبّهوا الله بخلقه أو أن يشبّهوا الخلق بربّهم بتمثيل حالهم في ذلك بحال من مثل عبداً بسيّده في الإنفاق ، فجملة { ضرب الله مثلاً عبداً } الخ مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن قوله تعالى : { ويعبدون من دون الله ما لا يملك رزقاً من السموات والأرض شيئاً ولا يستطيعون } [ سورة النحل : 73 ] .
فشبّه حال أصنامهم في العجز عن رزقهم بحال مملوك لا يقدر على تصرّف في نفسه ولا يملك مالاً ، وشبّه شأن الله تعالى في رَزقه إيّاهم بحال الغنيّ المالك أمر نفسه بما شاء من إنفاق وغيره ، ومعرفة الحالين المشبّهتين يدلّ عليها المقام ، والمقصود نفي المماثلة بين الحالتيْن ، فكيف يزعمون مماثلة أصنامهم لله تعالى في الإلهية ، ولذلك أعقب بجملة { هل يستوون } .
وذيّل هذا التمثيل بقوله تعالى : { بل أكثرهم لا يعلمون } كما في سورة إبراهيم ( 26 ) { ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة } إلى قوله تعالى : { ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة } الآية ، فإن المقصود في المقامين متّحد ، والاختلافُ في الأسلوب إنما يومىء إلى الفرق بين المقصود أولاً والمقصود ثانياً كما أشرنا إليه هنالك .
والعبد : الإنسان الذي يملكه إنسان آخر بالأسر أو بالشّراء أو بالإرث .
وقد وُصف { عبداً } هنا بقوله : { مملوكاً } تأكيداً للمعنى المقصود وإشعاراً لما في لفظ عبد من معنى المملوكية المقتضية أنه لا يتصرّف في عمله تصرف الحرّية .
وانتصب { عبداً } على البدلية من قوله تعالى : { مثلاً } وهو على تقدير مضاف ، أي حال بعد ، لأن المثل هو للهيئة المنتزعة من مجموع هذه الصّفات . وجملة { لا يقدر على شيء } صفة { عبداً } ، أي عاجزاً عن كلّ ما يقدر عليه الناس ، كأن يكون أعمى وزمناً وأصمّ ، بحيث يكون أقل العبيد فائدة .
فهذا مَثَل لأصنامهم ، كما قال تعالى : { والذين تدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون أموات غير أحياء } [ سورة النحل : 20 ] ، وقوله تعالى : { إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً } [ سورة العنكبوت : 17 ] .
ومن } موصولة ما صدْقها حُرّ ، بقرينة أنه وقع في مقابلة عبد مملوك ، وأنه وصف بالرزق الحسن فهو ينفق منه سرّاً وجهراً ، أي كيف شاء . وهذا من تصرّفات الأحرار ، لأن العبيد لا يملكون رزقاً في عرف العرب . وأما حكم تملّك العبد مالاً في الإسلام فذلك يرجع إلى أدلّة أخرى من أصول الشريعة الإسلامية ولا علاقة لهذه الآية به .
والرزق : هنا اسم للشيء المرزوق به .
والحَسن : الذي لا يشوبه قبح في نوعه مثل قِلّة وجدان وقت الحاجة ، أو إسراع فسادٍ إليه كسوس البُرّ ، أو رداءة كالحشف . ووجه الشبه هو المعنى الحاصل في حال المشبّه به من الحقارة وعدم أهليّة التصرّف والعجز عن كل عمل ، ومن حال الحرية والغنى والتصرّف كيف يشاء .
وجعلت جملة { فهو ينفق منه } مفرّعة على التي قبلها دون أن تجعل صفة للرزق للدّلالة على أن مضمون كلتا الجملتين مقصودٌ لذاته كمالٌ في موصوفه ، فكونه صاحب رزق حَسَن كمال ، وكونه يتصرّف في رزقه بالإعطاء كمال آخر ، وكلاهما بضدّ نقائص المملوك الذي لا يقدر على شيء من الإنفاق ولا ما ينفق منه .
وجعل المسند فعلاً للدّلالة على التقوّي ، أي ينفق إنفاقاً ثابتاً . وجعل الفعل مضارعاً للدّلالة على التجدّد والتكرر . أي ينفق ويزيد .
و { سراً وجهراً } حالان من ضمير { ينفق } ، وهما مصدران مؤوّلان بالصّفة ، أي مُسرّاً وجاهراً بإنفاقه . والمقصود من ذكرهما تعميم الإنفاق ، كناية عن استقلال التصرّف وعدم الوقاية من مانع إيّاه عن الإنفاق .
وهذا مثَل لغنى الله تعالى وجوده على الناس .
وجملة { هل يستوون } بيان لجملة { ضرب الله مثلاً } ، فبُيّن غرض التشبيه بأنّ المثل مراد منه عدم تساوي الحالتين ليستدلّ به على عدم مساواة أصحاب الحالة الأولى لصاحب الصّفة المشبّهة بالحالة الثانية .
والاستفهام مستعمل في الإنكار .
وأما جملة { الحمد لله } فمعترضة بين الاستفهام المفيد للنفي وبين الإضراب ب { بل } الانتقالية . والمقصود من هذه الجملة أنه تبيّن من المثل اختصاص الله بالإنعام فوجب أن يختصّ بالشكر وأن أصنامهم لا تستحقّ أن تشكر .
ولما كان الحمد مظهراً من مظاهر الشكر في مظهر النّطق جعل كناية عن الشكر هنا ، إذ كان الكلام على إخلال المشركين بواجب الشكر إذْ أثنوا على الأصنام وتركوا الثناء على الله ، وفي الحديث « الحمدُ رأس الشّكر »{[260]} .
جيء بهذه الجملة البليغة الدّلالة المفيدة انحصار الحمد في مِلْك الله تعالى ، وهو إما حصر ادّعائي لأن الحمد إنما يكون على نعمة ، وغير الله إذا أنعم فإنما إنعامه مظهر لنعمة الله تعالى التي جرت على يديه ، كما تقدم في صدر سورة الفاتحة ، وإما قصر إضافي قصرَ إفراد للردّ على المشركين إذ قسموا حمدهم بين الله وبين آلهتهم .
ومناسبة هذا الاعتراض هنا تقدُّم قوله تعالى : { وبنعمت الله هم يكفرون } [ سورة النحل : 72 ] { ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقاً } [ سورة النحل : 73 ] . فلما ضرب لهم المثل المبيّن لخطئهم وأعقب بجملة { هل يستوون } ثُني عنان الكلام إلى الحمد لله لا للأصنام .
وجملة { بل أكثرهم لا يعلمون } إضراب للانتقال من الاستدلال عليهم إلى تجهيلهم في عقيدتهم .
وأسند نفي العلم إلى أكثرهم لأن منهم من يعلم الحقّ ويكابر استبقاء للسيادة واستجلاباً لطاعة دهمائهم ، فهذا ذَمّ لأكثرهم بالصراحة وهو ذمّ لأقلّهم بوصمة المكابرة والعناد بطريق التعريض .
وهذا نظير قوله تعالى في سورة الزمر ( 29 ) { ضرب الله مثلاً رجلاً فيه شركاء متشاكسون ورجلاً سلَما لرجل هل يستويان مثلاً الحمدُ لله بل أكثرهم لا يعلمون } وإنما جاءت صيغة الجمع في قوله تعالى { هل يستوون } لمراعاة أصحاب الهيئة المشبّهة ، لأنها أصنام كثيرة كل واحد منها مشبّه بعبد مملوك لا يقدر على شيء ، فصيغة الجمع هنا تجريد للتمثيلية ، أي هل يستوي أولئك مع الإله الحقّ القادر المتصرّف . وإنما أجري ضمير جمعهم على صيغة جمع العالم تغليباً لجانب أحد التمثيلين وهو جانب الإله القادر .