28- واحتفظ - أيها الرسول - بصحبة صحابتك من المؤمنين الذين يعبدون الله - وحده - في الصباح وفي العشي دائماً ، يريدون رضوانه ، ولا تنصرف عيناك عنهم إلى الجاحدين من الكفار لإرادة التمتع معهم بزينة الحياة الدنيا ، ولا تطع في طرد فقراء المؤمنين من مجلسك من جعلنا قلبه غافلا عن ذكرنا ، لسوء استعداده ، وصار عبداً لهواه ، وصار أمره في جميع أعماله بعيداً عن الصواب ، والنهي للنبي نهي لغيره ، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يريد الحياة الدنيا وزينتها ، ولكن كان اتجاه النهي إليه لكي يحترس غيره من استهواء الدنيا ، فإنه إذا فرض فيه إرادة الزينة للأبدان ؛ لفرض كل إنسان في نفسه ذلك ليحترس .
ثم ساقت السورة الكريمة لونا من الأدب السامى ، والتوجيه العالى ، حيث بينت أن أولى الناس بالرعاية والمجالسة هم المؤمنون الصادقون ، وأمرت النبى صلى الله عليه وسلم بأن يصبر نفسه معهم ، فقال - تعالى - : { واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا . . } وقد ذكر المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات منها : أنها نزلت فى أشراف قريش ، حين طلبوا من النبى صلى الله عليه وسلم أن يجلس معهم وحده ، ولا يجالسهم مع ضعفاء أصحابه كبلال وعمار وابن مسعود . وليفرد أولئك بمجلس على حدة ، فنهاه الله - تعالى - عن ذلك . . وأمره أن يصبر نفسه فى الجلوس مع هؤلاء الفقراء فقال : { واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } .
وصبر النفس معناه : حبسها وتثبيتها على الشئ ، يقال : صبرَت فُلانا أصْبِره صَبْراً ، أى : حبسته .
والغداة : أول النهار . والعشى . آخره .
والمعنى : عليك - أيها الرسول الكريم - أن تحبس نفسك وتعودها على مجالسة أصحابك { الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم } أى : يعبدونه ويتقربون إليه بشتى أنواع القربات ، فى الصباح والمساء ، ويداومون على ذلك ، دون أن يريدوا شيئا من وراء هذه العبادة ، سوى رضا الله - تعالى - عنهم ورحمته بهم .
وفى تخصيص الغداة والعشى بالذكر : إشعار بفضل العبادة فيهما : لأنهما محل الغفلة والاشتغال بالأمور الدنيوية غالبا .
ويصح أن يكون ذكر هذين الوقتين المقصود به مداومة العبادة . وإلى هذا المعنى أشار الآلوسى بقوله : قوله : { يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي } أى : يعبدونه دائما . وشاع استعمال مثل هذه العبارة للدوام . وهى نظير قولهم : ضرب زيد الظهر والبطن . يريدون به ضرب جميع البدن . وأبقى غير واحد اللفظين على ظاهرهما أى : يعبدونه فى طرفى النهار .
وقوله : { يريدون وجهه } مدح لهم بالإِخلاص والبعد عن الرياء والمباهاة . . فهم لا يتقربون إلى الله - تعالى - بالطاعات من أجل دينا يصيبونها . أو من أجل إرضاء الناس .
وإنما هم يبتغون بعبادتهم رضا الله - تعالى - وحده ، لا شيئا آخر من حظوظ الدنيا .
وقوله - سبحانه - { وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا . . } نهى له صلى الله عليه وسلم - عن الغفلة عنهم ، بعد أمره بحبس نفسه عليهم .
والفعل { تَعْدُ } بمعنى تصرف . يقال عداه عن الأمر عدوا إذا صرفه عنه وشغله .
أى : احبس نفسك مع هؤلاء المؤمنين الصادقين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه - سبحانه - ولا تصرف عيناك النظر عنهم ، وتتجاوزهم إلى غيرهم من الأغنياء ، طمعا فى إسلامهم .
فالمراد بإرادة الحياة الدنيا الحرص على مجالسة أهل الغنى والجاه حبا فى إيمانهم .
وجملة { تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا } فى موضع الحال من الضمير المضاف إليه فى قوله { عيناك } ، وإنما ساغ ذلك لأن المضاف هنا جزء من المضاف إليه .
وقوله - تعالى - { وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتبع هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً } نهى آخر مؤكد لما قبله من حبس نفسه صلى الله عليه وسلم على هؤلاء المؤمنين الفقراء ، وعدم صرف نظره عنهم إلى غيرهم من المتغطرسين الأغنياء .
والفرط - بضم الفاء والراء - : مجاوزة الحد ، ونبذ الحق والصواب ، واتباع الباطل والضلال . أى : ولا تطع - أيها الرسول الكريم - فى تنحية المؤمنين الفقراء عن مجلسك أقوال أولئك الغافلين عن طاعتنا وعبادتنا لاستحواذ الشيطان عليها ، والذين اتبعوا أهواءهم فآثروا الغى على الرشد . والذين كان أمرهم . فرطا أى : مخالفا للحق ، ومجاوزا للصواب ، ومؤديا للضياع والخسران .
قال ابن جرير - " بعد أن ذكر جملة من الأقوال فى معنى قوله - تعالى - : { فرطا } : وأولى الأقوال فى ذلك بالصواب قول من قال معناه : ضياعا وهلاكا . من قولهم : أفرط فلان فى هذا الأمر إفراطاً ، إذا أسرف فيه . وتجاوز قدره . وكذلك قوله : { وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً } . معناه : وكان أمر هذا الذى أغفلنا قلبه عن ذكرنا فى الرياء والكبر واحتقار أهل الإِيمان سرفا قد تجاوز حده ، فضيع بذلك الحق وهلك " .
فالآية الكريمة تسوق للناس توجيها حكيما فى بيان القيم الحقيقية للناس ؛ وهى أنها تتمثل فى الإِيمان والتقوى ، لا فى الغنى والجاه .
فالمؤمن الصادق فى إيمانه ، الكريم فى أخلاقه . . هو الذى يحرص على مخالطة أهل الإِيمان والتقوى . ولا يمنعه فقرهم من مجالستهم ومصاحبتهم ومؤانستهم والتواضع لهم ، والتقدم إليهم بما يسرهم ويشرح صدورهم .
ولقد ربى النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه على هذا الخلق الكريم ، روى الشيخان عن سهل بن سعد الساعدى قال : " مر رجل على النبى صلى الله عليه وسلم فقال لرجل عنده جالس : " ما رأيك فى هذا ؟ " فقال : رجل من أشرف الناس ، هذا والله حرىٌّ إن خطب أن يزوج ، وإن شفع أن يشفع . فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مرّ رجل آخر : فقال له صلى الله عليه وسلم : " ما رأيك فى هذا " ؟ فقال : يا رسول الله ، هذا رجل من فقراء المسلمين هذا والله حرى إن خطب أن لا يزوج ، وإن شفع ألا يشفع ، وإن قال أن لا يسمع لقوله . فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا خير من ملء الأرض مثل هذا " "
( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ، ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ، ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا ، واتبع هواه وكان أمره فرطا . وقل : الحق من ربكم . فمن شاء فليؤمن . ومن شاء فليكفر ) . .
يروي أنها نزلت في أشراف قريش ، حين طلبوا إلى الرسول [ ص ] أن يطرد فقراء المؤمنين من أمثال بلال وصهيب وعمار وخباب وابن مسعود إذا كان يطمع في إيمان رؤوس قريش . أو أن يجعل لهم مجلسا غير مجلس هؤلاء النفر ، لأن عليهم جبابا تفوح منها رائحة العرق ، فتؤذي السادة من كبراء قريش !
ويروى أن الرسول [ ص ] طمع في إيمانهم فحدثته نفسه فيما طلبوا إليه . فأنزل الله عز وجل : ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي . . . ) أنزلها تعلن عن القيم الحقيقية ، وتقيم الميزان الذي لا يخطيء . وبعد ذلك ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) فالإسلام لا يتملق أحدا ، ولا يزن الناس بموازين الجاهلية الأولى ، ولا أية جاهلية تقيم للناس ميزانا غير ميزانه .
( واصبر نفسك ) . . لا تمل ولا تستعجل ( مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) . . فالله غايتهم ، يتجهون إليه بالغداة والعشي ، لا يتحولون عنه ، ولا يبتغون إلا رضاه . وما يبتغونه أجل وأعلى من كل ما يبتغيه طلاب الحياة .
اصبر نفسك مع هؤلاء . صاحبهم وجالسهم وعلمهم . ففيهم الخير ، وعلى مثلهم تقوم الدعوات . فالدعوات لا تقوم على من يعتنقونها لأنها غالبة ؛ ومن يعتنقونها ليقودوا بها الأتباع ؛ ومن يعتنقونها ليحققوا بها الأطماع ، وليتجروا بها في سوق الدعوات تشتري منهم وتباع ! إنما تقوم الدعوات بهذه القلوب التي تتجه إلى الله خالصة له ، لا تبغي جاها ولا متاعا ولا انتفاعا ، إنما تبتغي وجهه وترجو رضاه .
( ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ) . . ولا يتحول اهتمامك عنهم إلى مظاهر الحياة التي يستمتع بها أصحاب الزينة . فهذه زينة الحياة( الدنيا )لا ترتفع إلى ذلك الأفق العالي الذي يتطلع إليه من يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه .
( ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا ، واتبع هواه ، وكان أمره فرطا ) . . لا تطعهم فيما يطلبون من تمييز بينهم وبين الفقراء . فلو ذكروا الله لطامنوا من كبريائهم ، وخففوا من غلوائهم ، وخفضوا من تلك الهامات المتشامخة ، واستشعروا جلال الله الذي تتساوى في ظله الرؤوس ؛ وأحسوا رابطة العقيدة التي يصبح بها الناس إخوة . ولكنهم إنما يتبعون أهواءهم . أهواء الجاهلية . ويحكمون مقاييسها في العباد . فهو وأقوالهم سفه ضائع لا يستحق إلا الإغفال جزاء ما غفلوا عن ذكر الله .
لقد جاء الإسلام ليسوي بين الرؤوس أمام الله . فلا تفاضل بينها بمال ولا نسب ولا جاه . فهذه قيم زائفة ، وقيم زائلة . إنما التفاضل بمكانها عند الله . ومكانها عند الله يوزن بقدر اتجاهها إليه وتجردها له . وما عدا هذا فهو الهوى والسفه والبطلان .
( ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا ) . . أغفلنا قلبه حين اتجه إلى ذاته ، وإلى ماله ، وإلى أبنائه ، وإلى متاعه ولذائذه وشهواته ، فلم يعد في قلبه متسع لله . والقلب الذي يشتغل بهذه الشواغل ، ويجعلها غاية حياته لا جرم يغفل عن ذكر الله ، فيزيده الله غفلة ، ويملي له فيما هو فيه ، حتى تفلت الأيام من بين يديه ، ويلقى ما أعده الله لأمثاله الذين يظلمون أنفسهم ، ويظلمون غيرهم :
{ واصبر نفسك } واحبسها وثبتها . { مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ } في مجامع أوقاتهم ، أو في طرفي النهار . وقرأ ابن عامر " بالغدوة " وفيه أن غدوة علم في الأكثر فتكون اللام فيه على تأويل التنكير . { يريدون وجهه } رضا الله وطاعته . { ولا تعدُ عيناك عنهم } ولا يجاوزهم نظرك إلى غيرهم ، وتعديته بعن لتضمينه معنى نبأ . وقرئ " ولا تعد عينيك " { ولا تعد } من أعداه وعداه . والمراد نهي الرسول صلى الله عليه وسلم أن يزدري بفقراء المؤمنين وتعلو عينه عن رثاثة زيهم طموحا إلى طراوة زي الأغنياء . { تريد زينة الحياة الدنيا } حال من الكاف في المشهورة ومن المستكن في الفعل في غيرها . { ولا تطع من أغفلنا قلبه } من جعلنا قلبه غافلا . { عن ذكرنا } كأمية بن خلف في دعائك إلى طرد الفقراء عن مجلسك لصناديد قريش . وفيه تنبيه على أن الداعي له إلى هذا الاستدعاء غفلة قلبه عن المعقولات وانهماكه في المحسوسات ، حتى خفي عليه أن الشرف بحلية النفس لا بزينة الجسد ، وأنه لو أطاعه كان مثله في الغباوة . والمعتزلة لما غاظهم إسناد الإغفال إلى الله تعالى قالوا : إنه مثل أجبنته إذا وجدته كذلك أو نسبته إليه ، أو من أغفل إبله إذا تركها بغير سمة أي لم نسمه بذكرنا كقلوب الذين كتبنا في قلوبهم الإيمان ، واحتجوا على أن المراد ليس ظاهر ما ذكر أولا بقوله : { واتبع هواه } وجوابه ما مر غير مرة . وقرئ { أغفلنا } بإسناد الفعل إلى القلب على معنى حسبنا قلبه غافلين عن ذكرنا إياه بالمؤاخذة . { وكان أمرُه فرطا } أي تقدما على الحق نبذا له وراء ظهره يقال : فرس فرط أي متقدم للخيل ومنه الفرط .