المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{ٱللَّهُ ٱلَّذِي رَفَعَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيۡرِ عَمَدٖ تَرَوۡنَهَاۖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلّٞ يَجۡرِي لِأَجَلٖ مُّسَمّٗىۚ يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَ يُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُم بِلِقَآءِ رَبِّكُمۡ تُوقِنُونَ} (2)

2- إن الذي أنزل هذا الكتاب هو الله الذي رفع ما ترون من سموات تجرى فيها النجوم بغير أعمدة تُرى ولا يعلمها إلا الله ، وإن كان قد ربط بينها وبين الأرض بروابط لا تنقطع إلا أن يشاء الله ، وذلل الشمس والقمر بسلطانه لمنفعتكم ، وهما يدوران بانتظام لزمن قدّره الله سبحانه وتعالي ، وهو سبحانه يُدَبِّر كل شيء في السماوات والأرض ، ويُبَيِّن لكم آياته الكونية رجاء أن توقنوا بالوحدانية .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ٱللَّهُ ٱلَّذِي رَفَعَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيۡرِ عَمَدٖ تَرَوۡنَهَاۖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلّٞ يَجۡرِي لِأَجَلٖ مُّسَمّٗىۚ يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَ يُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُم بِلِقَآءِ رَبِّكُمۡ تُوقِنُونَ} (2)

ثم أقام - سبحانه - الأدلة المتنوعة ، عن طريق المشاهدة - على كمال قدرته ، وعلى وجوب إخلاص العبادة له فقال - تعالى - { الله الذي رَفَعَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } .

والعمد : جمع عماد ، وهو ما تقام عليه القبة أو البيت .

وجملة { ترونها } في محل نصب حال من السموات .

أى : الله - سبحانه - هو الذي رفع هذه السموات الهائلة في صنعها وفى ضخامتها ، بغير مستند يسندها ، وبغير أعمدة تعتمد عليها ، وأنتم ترون ذلك بأعينكم بجلاء ووضوح .

والمراد بقوله { رفع } أى خلقها مرتفعة منذ البداية ، وليس المراد أنه - سبحانه - رفعها بعد أن كانت منخفضة .

ولا شك أن خلق السموات على هذه الصورة من أكبر الأدلة على أن لهذا الكون خالقاً قادراً حكيماً ، هو المستحق للعبادة والطاعة .

وقوله - سبحانه - { ثُمَّ استوى عَلَى العرش } معطوف على ما قبله ، وهو دليل آخر على قدرة الله - تعالى - عن طريق الغائب الهائل الذي تتقاصر دونه المدارك بعد أن أقام الأدلة على ذلك عن طريق الحاضر المشاهد .

وعرش الله - تعالى - مما لا يعلمه البشر إلا بالاسم - كما يقول الراغب - .

وقد ذكر لفظ العرش في إحدى وعشرين آية ، كما ذكر الاستواء على العرش في سبع آيات من القرآن الكريم .

والمعنى : ثم استوى على العرش استواء يليق بذاته - تعالى - بلا كيف ولا انحصار ولا تشبيه ولا تمثيل ، لاستحالة اتصافه - سبحانه - بصفات المحدثين .

قال الإِمام مالك - رحمه الله - : " الكيف غير معقول ، والاستواء غير مجهول ، والإِيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة " .

ثم بين - سبحانه - بعض مظاهر نعمه على عباده فقال : { وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى } . والتسخير : التذليل والخضوع .

أى : أن من مظاهر فضله أنه - سبحانه - سخر ذلك وأخضع لقدتره الشمس والقمر ، بأن جعلهما طائعين لما أراده منهما من السير في منازل معينة ، ولأجل معين محدد لا يتجاوزانه ولا يتعديانه . بل يقفان عند نهاية المدة التي حددها - سبحانه - لوقوفهما وأفولهما .

قال - تعالى - { لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ الليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { يُدَبِّرُ الأمر يُفَصِّلُ الآيات لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } وتدبير الأمرك تصريفه على أحسن الوجوه وأحكمها وأكملها .

والآيات : جمع آية . والمراد بها هنا : ما يشمل الآيات القرآنية ، والبراهين الكونية الداغلة على وحدانيته وقدرته - سبحانه - .

أى : أنه - سبحانه - يقضى ويقدر ويتصرف في أمر خلقه على أكمل الوجوه وأنه - سبحانه - ينزل آياته القرآنية واضحة مفصلة ، ويسوق الأدلة الدالة على وحدانيته وقدرته بطرق متعددة ، وبوجوه متنوعة .

وقد فعل - سبحانه - ما فعل - من رفعه السماء بلا عمد ، ومن تسخيره للشمس والقمر ، ومن تدبيره لأمور خلقه ، ومن تفصيله للآيات لعكلم عن طريق التأمل والتفكير فيما خلق ، توقنون بلقائه ، وتعتقدون أن من قدر على إيجاد هذه المخلوقات العظيمة ، لا يعجزه أن يعيدكم إلى الحياة بعد موتكم ، لكى يحاسبكم على أعمالكم .

وقال - سبحانه - { يدبر } و { يفصل } بصيغة المضارع . وقال قبل ذلك { رَفَعَ السماوات } و { وَسَخَّرَ الشمس والقمر } بصيغة الماضى . لأن التدبير للأمور ، والتفصيل للآيات ، يتجددان بتجدد تعلق قدرته - سبحانه - بالمقدورات .

وأما رفع السماوات ، وتسخير الشمس والقمر ، فهى أمور قد تمت واستقرت دفعة واحدة .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{ٱللَّهُ ٱلَّذِي رَفَعَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيۡرِ عَمَدٖ تَرَوۡنَهَاۖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلّٞ يَجۡرِي لِأَجَلٖ مُّسَمّٗىۚ يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَ يُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُم بِلِقَآءِ رَبِّكُمۡ تُوقِنُونَ} (2)

هذا هو الافتتاح الذي يلخص موضوع السورة كله ، ويشير إلى جملة قضاياها . ومن ثم يبدأ في استعراض آيات القدرة ، وعجائب الكون الدالة على قدرة الخالق وحكمته وتدبيره ، الناطقة بأن من مقتضيات هذه الحكمة أن يكون هناك وحي لتبصير الناس ؛ وأن يكون هناك بعث لحساب الناس . وأن من مقتضيات تلك القدرة أن تكون مستطيعة بعث الناس ورجعهم إلى الخالق الذي بدأهم وبدأ الكون كله قبلهم . وسخره لهم ليبلوهم فيما آتاهم .

وتبدأ الريشة المعجزة في رسم المشاهد الكونية الضخمة . . لمسة في السماوات ، ولمسة في الأرضين . ولمسات في مشاهد الأرض وكوامن الحياة . .

ثم التعجيب من قوم ينكرون البعث بعد هذه الآيات الضخام ، ويستعجلون عذاب الله ، ويطلبون آية غير هذه الآيات :

( الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ، ثم استوى على العرش ، وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسسمى ، يدبر الأمر ، يفصل الآيات ، لعلكم بلقاء ربكم توقنون ) .

( وهو الذي مد الأرض ، وجعل فيها رواسي وأنهارا ، ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين ، يغشي الليل النهار . إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) .

( وفي الأرض قطع متجاورات ، وجنات من أعناب ، وزرع ، ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل . إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ) .

( وإن تعجب فعجب قولهم : أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد ? أولئك الذين كفروا بربهم . وأولئك الأغلال في أعناقهم ، وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم ، وإن ربك لشديد العقاب . ويقول الذين كفروا : لولا أنزل عليه آية من ربه ، إنما أنت منذر ولكل قوم هاد ) .

والسماوات - أيا كان مدلولها وأيا كان ما يدركه الناس من لفظها في شتى العصور - معروضة على الأنظار ، هائلة - ولا شك - حين يخلو الناس إلى تأملها لحظة . وهي هكذا لا تستند إلى شيء . مرفوعة ( بغير عمد مكشوفة ترونها ) . .

هذه هي اللمسة الأولى في مجالي الكون الهائلة وهي بذاتها اللمسة الأولى للوجدان الإنساني ، وهو يقف أمام هذا المشهد الهائل يتملاه ؛ ويدرك أنه ما من أحد يقدر على رفعها بلا عمد - أو حتى بعمد - إلا الله ؛ وقصارى ما يرفعه الناس بعمد أو بغير عمد تلك البنيان الصغيرة الهزيلة القابعة في ركن ضيق من الأرض لا تتعداه . ثم يتحدث الناس عما في تلك البنيان من عظمة ومن قدرة ومن إتقان ، غافلين عما يشملهم ويعلوهم من سماوات مرفوعة بغير عمد ؛ وعما وراءها من القدرة الحقة والعظمة الحقة ، والإتقان الذي لا يتطاول إليه خيال إنسان !

ومن هذا المنظور الهائل الذي يراه الناس ، إلى المغيب الهائل الذي تتقاصر دونه المدارك والأبصار : ( ثم استوى على العرش ) . .

فإن كان علو فهذا أعلى . وإن كانت عظمة فهذا أعظم . وهو الاستعلاء المطلق ، يرسمه في صورة على طريقة القرآن في تقريب الأمور المطلقة لمدارك البشر المحدودة .

وهي لمسة أخرى هائلة من لمسات الريشة المعجزة . لمسة في العلو المطلق إلى جانب اللمسة الأولى في العلو المنظور ، تتجاوران وتتسقان في السياق . .

ومن الاستعلاء المطلق إلى التسخير . تسخير الشمس والقمر . تسخير العلو المنظور للناس على ما فيه من عظمة أخاذة ، أخذت بألبابهم في اللمسة الأولى ، ثم إذا هي مسخرة بعد ذلك لله الكبير المتعال .

ونقف لحظة أمام التقابلات المتداخلة في المشهد قبل أن نمضي معه إلى غايته . فإذا نحن أمام ارتفاع في الفضاء المنظور يقابله ارتفاع في الغيب المجهول . وإذا نحن أمام استعلاء يقابله التسخير . وإذا نحن أمام الشمس والقمر يتقابلان في الجنس : نجم وكوكب ، ويتقابلان في الأوان ، بالليل والنهار . .

ثم نمضي مع السياق . . فمع الاستعلاء والتسخير الحكمة والتدبير :

( كل يجري لأجل مسمى ) . .

وإلى حدود مرسومة ، ووفق ناموس مقدر . سواء في جريانهما في فلكيهما دورة سنوية ودورة يومية . أو جريانهما في مداريهما لا يتعديانه ولا ينحرفان عنه . أو جريانهما إلى الأمد المقدر لهما قبل أن يحول هذا الكون المنظور .

( يدبر الأمر ) . .

الأمر كله ، على هذا النحو من التدبير الذي يسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى . . والذي يمسك بالأفلاك الهائلة والأجرام السابحة في الفضاء فيجريها لأجل لا تتعداه ، لا شك عظيم التدبير جليل التقدير .

ومن تدبيره الأمر أنه ( يفصل الآيات ) وينظمها وينسقها ، ويعرض كلا منها في حينه ، ولعلته ، ولغايته ( لعلكم بلقاء ربكم توقنون ) حين ترون الآيات مفصلة منسقة ، ومن ورائها آيات الكون ، تلك التي أبدعتها يد الخالق أول مرة ، وصورت لكم آيات القرآن ما وراء إبداعها من تدبير وتقدير وإحكام . . ذلك كله يوحي بأن لا بد من عودة إلى الخالق بعد الحياة الدنيا ، لتقدير أعمال البشر ، ومجازاتهم عليها . فذلك من كمال التقدير الذي توحي به حكمة الخلق الأول عن حكمة وتدبير .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{ٱللَّهُ ٱلَّذِي رَفَعَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيۡرِ عَمَدٖ تَرَوۡنَهَاۖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلّٞ يَجۡرِي لِأَجَلٖ مُّسَمّٗىۚ يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَ يُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُم بِلِقَآءِ رَبِّكُمۡ تُوقِنُونَ} (2)

يخبر الله تعالى عن كمال قدرته وعظيم سلطانه : أنه الذي بإذنه وأمره رَفَع السماوات بغير عمَد ، بل بإذنه وأمره{[15412]} وتسخيره رفعها عن الأرض بُعدًا لا تنال ولا يدرك مداها ، فالسماء الدنيا محيطة

بجميع الأرض وما حولها من الماء والهواء من جميع نواحيها وجهاتها{[15413]} وأرجائها ، مرتفعة عليها من كل جانب على السواء ، وبعد ما بينها وبين الأرض من كل ناحية مسيرة خمسمائة عام ، وسمكها في نفسها مسيرة خمسمائة عام . ثم السماء الثانية محيطة بالسماء الدنيا وما حوت ، وبينها وبينها من البعد مسيرة خمسمائة عام ، وسمكها خمسمائة عام ، ثم السماء الثالثة محيطة{[15414]} بالثانية ، بما فيها ، وبينها{[15415]} وبينها خمسمائة عام ، وسمكها خمسمائة عام ، وكذا الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة ، كما قال [ الله ]{[15416]} تعالى : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنزلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا } [ الطلاق : 12 ] وفي الحديث : " ما السماواتُ السبع وما فيهنّ وما بينهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فَلاة ، والكرسي في العرش كتلك{[15417]} الحلقة في تلك الفلاة{[15418]} وفي رواية : " والعرش لا يقدر قدره إلا الله ، عز وجل ، وجاء عن بعض السلف أن بعد ما بين العرش إلى الأرض مسيرة خمسين ألف سنة ، وبعد ما بين قطريه مسيرة خمسين ألف سنة ، وهو من ياقوتة حمراء .

وقوله : { بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } روي عن ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة : أنهم : قالوا : لها عَمَد ولكن لا ترى .

وقال إياس بن معاوية : السماء على الأرض مثل القبة ، يعني بلا عمد . وكذا روي عن قتادة ، وهذا هو اللائق بالسياق . والظاهر من قوله تعالى : { وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ } [ الحج : 65 ] فعلى هذا يكون قوله : { ترونها } تأكيدا لنفي ذلك ، أي : هي مرفوعة بغير عمد كما ترونها . هذا هو الأكمل في القدرة . وفي شعر أمية بن أبي الصلت الذي آمن شعره وكفر قلبه ، كما ورد في الحديث{[15419]} ويروى لزيد بن عمرو بن نفيل ، رحمه الله ورضي عنه :

وأنتَ الذي مِنْ فَضْل مَنٍّ وَرَحْمَة *** بَعَثتَ إلى مُوسَى رَسُولا مُنَاديا

فقلت له : فاذهَبْ وهارونَ فادعُوَا *** إلى الله فرْعَونَ الذي كانَ طَاغيا

وَقُولا له : هَلْ أنتَ سَوّيت هَذه *** بلا [ وتَد حَتَّى اطمأنت{[15420]} كَمَا هيا

وقُولا له : أأنتَ رَفَّعتَ هَذه *** بلا ]{[15421]} عَمَد أرْفِقْ إذَا بَِك بانيَا ؟

وَقُولا لَه : هَل أنتَ سَوَّيت وَسْطَهَا *** مُنيرًا إذا ما جَنَّك الليَّل هاديا

وقُولا له : مَنْ يُرْسِلُ الشَّمس غُدوةً *** فيُصبحَ ما مَسَّتْ مِنَ الأرضِ ضَاحيا?

وَقُولا له : مَن يُنْبِت الحَبَّ في الثَّرَى *** فيُصبحَ مِنْه العُشب يَهَْتُّز رَابيا?

وَيُْخِرجُ منْه حَبَّه في رءوسه *** فَفِي ذَاكَ آياتٌ لِمنْ كَانَ وَاعيَا{[15422]}

وقوله : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } تقدم تفسير ذلك في سورة " الأعراف " {[15423]} وأنه يُمَرَّر{[15424]} كما جاء من غير تكييف ، ولا تشبيه ، ولا تعطيل ، ولا تمثيل ، تعالى الله علوا كبيرا .

وقوله : { وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأجَلٍ مُسَمًّى } قيل : المراد أنهما يجريان إلى انقطاعهما بقيام الساعة ، كما في قوله تعالى : { وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [ يس : 38 ] .

وقيل : المراد إلى مستقرهما ، وهو تحت العرش مما يلي بطن الأرض من الجانب الآخر ، فإنهما وسائر الكواكب إذا وصلوا هنالك ، يكونون أبعد ما يكون{[15425]} عن العرش ؛ لأنه على الصحيح الذي تقومُ عليه الأدلة ، قبة مما يلي العالم من هذا الوجه ، وليس بمحيط كسائر الأفلاك ؛ لأنه{[15426]} له قوائم وحملة يحملونه . ولا يتصوّر هذا في الفلك المستدير ، وهذا واضح لمن تَدَبَّر ما وَرَدَتْ به الآيات والأحاديث الصحيحة ، ولله الحمد والمنة .

وذكر الشمس والقمر ؛ لأنهما أظهر الكواكب السيارة السبعة ، التي هي أشرف وأعظم .

من الثوابت ، فإذا كان قد سخر هذه ، فَلأن يدخل في التسخير سائرُ الكواكب بطريق الأولى والأحرى ، كما نبه{[15427]} بقوله تعالى : { لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [ فصلت : 37 ] مع أنه قد صرح بذلك بقوله{[15428]} { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ الأعراف : 54 ] .

وقوله : { يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } أي : يوضح{[15429]} الآيات والدلالات الدالة على أنه لا إله إلا هو ، وأنه يعيد الخلق إذا شاء كما ابتدأ خلقه .


[15412]:- في ت ، أ : "بل بأمره وبإذنه".
[15413]:- في ت ، أ : "جهاتها ونواحيها".
[15414]:- في ت : "تحيط".
[15415]:- في أ : "بينهما".
[15416]:- زيادة من أ.
[15417]:- في أ : "كمثل".
[15418]:- سبق الكلام على هذا الحديث والذي بعده مفصلا عند تفسير الآية : 255 من سورة البقرة.
[15419]:- رواه ابن عبد البر في التمهيد (4/7) من طريق أبي بكر الهذلي عن عكرمة قال : قلت لابن عباس : أرأيت ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في أمية بن أبي الصلت : "آمن شعره وكفر قلبه ؟" قال : هو حق فما أنكرتم من ذلك ؟... الحديث.
[15420]:- في ت أ : "استقلت" ، والمثبت من سيرة ابن هشام.
[15421]:- زيادة من ت ، أ ، وسيرة ابن هشام.
[15422]:- الأبيات في السيرة النبوية لابن هشام (1/228).
[15423]:- انظر : تفسير الآية : 54.
[15424]:- في ت : "يمر".
[15425]:- في ت ، أ : "ما يكون".
[15426]:- في ت ، أ : "لآن".
[15427]:- في ت : "بينه".
[15428]:- في ت : "في قوله".
[15429]:- في ت ، أ : "نوضح".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ٱللَّهُ ٱلَّذِي رَفَعَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيۡرِ عَمَدٖ تَرَوۡنَهَاۖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلّٞ يَجۡرِي لِأَجَلٖ مُّسَمّٗىۚ يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَ يُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُم بِلِقَآءِ رَبِّكُمۡ تُوقِنُونَ} (2)

وقوله تعالى : { الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها } الآية ، لما تضمن قوله : { ولكن أكثر الناس لا يؤمنون } توبيخ الكفرة ، عقب ذلك بذكر الله الذي ينبغي أن يوقن به ، ويذكر الأدلة الداعية إلى الإيمان به .

والضمير في قوله : { ترونها } قالت فرقة : هو عائد على { السماوات } . ف { ترونها } - على هذا - في موضع الحال ، وقال جمهور الناس : لا عمد للسماوات البتة ، وقالت فرقة : الضمير عائد على العمد ، ف { ترونها } - على هذا - صفة للعمد ، وقالت هذه الفرقة : للسماوات عمد غير مرئية - قاله مجاهد وقتادة - وقال ابن عباس : وما يدريك أنها بعمد لا ترى ؟ وحكى بعضهم : أن العمد جبل قاف المحيط بالأرض ، والسماء عليها كالقبة .

قال القاضي أبو محمد : وهذا كله ضعيف ، والحق أن لا «عمد » جملة ، إذ العمد يحتاج إلى العمد ويتسلسل الأمر ، فلا بد من وقوفه على القدرة ، وهذا هو الظاهر من قوله تعالى : { ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه }{[6881]} [ الحج : 65 ] ونحو هذا من الآيات ، وقال إياس بن معاوية : السماء مقببة على الأرض مثل القبة .

وفي مصحف أبيّ : «ترونه » بتذكير الضمير ، و «العمد » : اسم جمع عمود ، والباب في جمعه : «عمد » - بضم الحروف الثلاثة كرسول ورسل ، وشهاب وشهب وغيره ، ومن هذه الكلمة قول النابغة : [ البسيط ]

وخيس الجن إني قد أذنت لهم***يبنون تدمر بالصفّاح والعمد{[6882]}

وقال الطبري : «العَمد » - بفتح العين - جمع عمود ، كما جمع الأديم أدماً .

قال القاضي أبو محمد : وليس كما قال ، وفي كتاب سيبويه : إن الأدم اسم جمع ، وكذلك نص اللغويون على العمد ، ولكن أبا عبيدة ذكر الأمر غير متيقن فاتبعه الطبري .

وقرأ يحيى بن وثاب «بغير عُمُد » بضم العين والميم .

وقوله : { ثم } هي - هنا - لعطف الجمل لا للترتيب ، لأن الاستواء على العرش قبل «رفع السماوات » ، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه قال : «كان الله ولم يكن شيء قبله . وكان عرشه على الماء ثم خلق السماوات والأرض »{[6883]} .

وقد تقدم القول في كلام الناس في «الاستواء »{[6884]} ، واختصاره : أن أبا المعالي رجح أنه { استوى } بقهره وغلبته ، وقال القاضي ابن الطيب وغيره : { استوى } - في هذا الموضع - بمعنى استولى ، والاستيلاء قد يكون دون قهر . فهذا فرق ما بين القولين ، وقال سفيان : فعل فعلاً سماه استواء . وقال الفراء : { استوى } - في هذا الموضع - كما تقول العرب : فعل زيد كذا ثم استوى إلى يكلمني ، بمعنى أقبل وقصد . وحكي لي عن أبي الفضل بن النحوي أنه قال : { العرش } - في هذا الموضع - مصدر عرش ، مكانه أراد جميع المخلوقات ، وذكر أبو منصور عن الخليل : أن العرش : الملك ، وهذا يؤيد منزع أبي الفضل بن النحوي إذ قال : العرش مصدر ، وهذا خلاف ما مشى عليه الناس من أن العرش هو أعظم المخلوقات وهو الشخص الذي كان على الماء والذي بين يديه الكرسي ؛ وأيضاً فينبغي النظر على أبي الفضل في معنى الاستواء قريباً مما هو على قول الجميع . وفي البخاري عن مجاهد أنه قال : المعنى : علا على العرش .

قال القاضي أبو محمد : وكذلك هي عبارة الطبري{[6885]} ، والنظر الصحيح يدفع هذه العبارة .

وقوله : { وسخر } تنبيه على القدرة ، و { الشمس والقمر } في ضمن ذكرهما ذكر الكواكب - وكذلك قال : { كل يجري } أي كل ما هو في معنى الشمس والقمر من التسخير ، و { كل } لفظة تقتضي الإضافة ظاهرة أو مقدرة ، و «الأجل المسمى » هو انقضاء الدنيا وفساد هذه البنية ، وقيل : يريد بقوله : { لأجل مسمى } الحدود التي لا تتحداها هذه المخلوقات أن تجري على رسوم معلومة{[6886]} .

وقوله : { يدبر } بمعنى : يبرم - وينفذ - وعبر بالتدبير تقريباً لأفهام الناس ، إذ التدبير إنما هو النظر في أدبار الأمور وعواقبها ، وذلك من صفة البشر ، و { الأمر } عام في جميع الأمور وما ينقضي في كل أوان في السماوات والأرضين وقال مجاهد : { يدبر الأمر } معناه : يقضيه وحده .

وقرأ الجمهور : «يفصل » وقرأ الحسن بنون العظمة ، ورواها الخفاف وعبد الوهاب عن أبي عمرو وهبيرة عن حفص ، قال المهدوي : ولم يختلف في { يدبر } ، وقال أبو عمرو الداني : إن الحسن قرأ «نفصل » و «ندبر » بالنون فيهما ، والنظر يقتضي أن قوله : { يفصل } ليس على حد قوله : { يدبر } من تعديد الآيات بل لما تعددت الآيات وفي جملتها يدبر الأمر ، أخبر أنه يفصلها لعل الكفرة يوقنون بالبعث ، و { الآيات } هنا إشارة إلى ما ذكر في الآية وبعدها .


[6881]:من الآية (65) من سورة (الحج).
[6882]:ويروى: وخيس، بمعنى: ذلل، وتدمر: بلد بالشام بناها سيدنا سليمان عليه السلام، والصفاح: حجارة عراض رقاق. والعمد: جمع عمود.
[6883]:أخرجه البخاري في كتاب (بدء الخلق) ، والترمذي في التفسير، والإمام أحمد في مسنده (2 – 312، 501) و (4ـ431)، ولفظه كما جاء في البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال: (دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعقلت ناقتي بالباب، فأتاه ناس من تميم، فقال: اقبلوا البشرى يا بني تميم، قالوا: قد بشرتنا فأعطنا، مرتين، ثم دخل عليه ناس من أهل اليمن، فقال: أقبلوا البشرى يأهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم، قالوا: قد قبلنا يا رسول الله، قالوا: جئناك نسألك عن هذا الأمر، قال: كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السموات والأرض، فنادى مناد: ذهبت ناقتك يا ابن الحصين، فانطلقت فإذا هي يقطع دونها السراب، فوالله لوددت أني كنت تركتها.
[6884]:عند تفسير قوله تعالى في الآية (54) من سورة الأعراف: {إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش}.
[6885]:في القرطبي : "وحكى أبو عمر بن عبد البر عن أبي عبيدة في قوله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} قال: علا، وقال الشاعر: فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة وقد حلق النجم اليماني فاستوى أي: علا وارتفع". وعلو الله تعالى عبارة عن علو مجده وصفاته وملكوته، أي: ليس فوقه فيما يجب له من معاني الجلال أحد.
[6886]:هذا رأي ابن عباس، نقل في القرطبي عنه قوله: "أراد بالأجل المسمى درجاتهما ومنازلهما التي ينتهيان إليها لا يتجاوزانها".
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{ٱللَّهُ ٱلَّذِي رَفَعَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ بِغَيۡرِ عَمَدٖ تَرَوۡنَهَاۖ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ وَسَخَّرَ ٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَۖ كُلّٞ يَجۡرِي لِأَجَلٖ مُّسَمّٗىۚ يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَ يُفَصِّلُ ٱلۡأٓيَٰتِ لَعَلَّكُم بِلِقَآءِ رَبِّكُمۡ تُوقِنُونَ} (2)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره:"الله" يا محمد هو الذي رفع السموات السبع بغير عمد ترونها، فجعلها للأرض سقفا مسموكا. والعمد جمع عمود، وهي السواري، وما يُعْمد به البناء...

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "رَفَعَ السّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها"؛ فقال بعضهم: تأويل ذلك: الله الذي رفع السموات بعمَد لا ترونها...

وقال آخرون: بل هي مرفوعة بغير عمد...

وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال كما قال الله تعالى: "اللّهُ الّذِي رَفَعَ السّمَوَاتِ بغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها "فهي مرفوعة بغير عمد نراها، كما قال ربنا جلّ ثناؤه، ولا خبر بغير ذلك، ولا حجة يجب التسليم لها بقول سواه.

وأما قوله: "ثُمّ اسْتَوَى على العَرْشِ" فإنه يعني: علا عليه...

وقوله: "وسَخّرَ الشّمْسَ والقَمَرَ" يقول: وأجرى الشمس والقمر في السماء، فسخرهما فيها لمصالح خلقه، وذللهما لمنافعهم، ليعلموا بجريهما فيها عدد السنين والحساب، ويفصلوا به بين الليل والنهار.

وقوله: "كُلّ يَجْرِي لأَجَل مسَمّى" يقول جلّ ثناؤه: كل ذلك يجري في السماء لأجل مسمى: أي لوقت معلوم، وذلك إلى فناء الدنيا وقيام القيامة التي عندها تكوّر الشمس، ويُخسف القمر وتنكدر النجوم، وحذف ذلك من الكلام لفهم السامعين من أهل لسان من نزل بلسانه القرآن معناه، وأنّ «كلّ» لا بدّ لها من إضافة إلى ما تحيط به...

وقوله: "يُدَبّرُ الأمْرَ" يقول تعالى ذكره: يقضي الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها أمور الدنيا والآخرة كلها، ويدبر ذلك كله وحده، بغير شريك ولا ظهير ولا معين سبحانه...

وقوله: "يُفَصّلُ الآياتِ" يقول: يفصل لكم ربكم آيات كتابه، فيبينها لكم احتجاجا بها عليكم أيها الناس، "لَعَلّكُمْ بِلِقاءِ رَبّكُمْ تُوقِنُونَ" يقول: لتوقنوا بلقاء الله، والمعاد إليه، فتصدّقوا بوعده ووعيده، وتنزجروا عن عبادة الآلهة والأوثان، وتخلصوا له العبادة إذا تيقنتم ذلك...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

(الله الذي رفع السماوات) قوله: (رفع) أي أنشأها مرفوعة، لا أنها كانت موضوعة فرفعها، (عمد) على ما أخبر، ولكن اللطف والأعجوبة في ما يمسكها بعمد لا ترى كاللطف والأعجوبة في ما يمسكها بغير عمد... وفيه دلالة قدرته على البعث لأنه ذكر هذا، ثم قال: (لعلكم بلقاء ربكم توقنون): إن من قدر على رفع السماء مع سعتها وبعدها بلا عمد لقادر على إعادة الخلق وبعثهم وإحيائهم بعد الموت. بل رفعُ السماء مع سعتها وبعدها بلا عمد أكبر من إعادة الشيء بعد فنائه، إذ في الشاهد من قد يقدر على إعادة أشياء بعد فنائها، ولا يقدر على رفع سقف ذي سعة وبعد بغير عمد...

(يُفَصِّلُ الآيَاتِ) يحتمل: يبين الحجج والبراهين، ويحتمل (يُفَصِّلُ الآيَاتِ) أي آيات القرآن أنزلها بالتفاريق لا مجموعة. (لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) هو ما ذكرنا أن ما ذكر من الآيات والتدبير ورفع السماء بلا عمد دلالة البعث والإحياء بعد الموت...

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

دلَّ على صفاته وذاته بما أخبر به من آياته، ومن جملتها رفعُ السمواتِ وليس تحتها عمادٌ يَشُدُّها، ولا أوتادٌ تُمْسِكها. وأخبر في غير هذه المواضع أنه زَيَّنَ السماءَ بكواكبها، وخصَّ الأرض بجوانبها ومناكبها. و {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}: أي احتوى على مُلْكِه احتواءَ قُدْرَةٍ وتدبير. والعرشُ هو المُلْكُ حيث يقال: أندكَّ عرشُ فلان إذا زال مُلْكُه.

{وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ كُلٌ يَجْرِى لأِجَلٍ مُّسَمّىً}. كلٌّ يجري في فَلَكٍ. ويدلُّ كل جزء من ذلك على أنه فِعلُ في مُلْكِه غير مشترك...

أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :

{يدبّر الأمر} أمر ملكوته من الإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة وغير ذلك...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

فلما أثبت سبحانه لهذا الكتاب أنه المختص بكونه حقاً فثبت أنه أعظم الأدلة والآيات، شرع يذكر ما أشار إليه بقوله: {وكأين من آية} من الآيات المحسوسة الظاهرة الدالة على كون آيات الكتاب حقاً بما لها في أنفسها من الثبات، والدلالة بما لفاعلها من القدرة والاختيار -على أنه قادر على كل شيء، وأن ما أخبر به من البعث حق لما له من الحكمة، والدالة- بما للتعبير عنها من الإعجاز -على كونها من عند الله، وبدأ بما بدأ به في تلك من آيات السماوات لشرفها ولأنها أدل، فقال: {الله} أي الملك الأعظم الذي له جميع صفات الكمال وحده {الذي رفع السماوات} بعد إيجادها من عدم- كما أنتم بذلك مقرون؛ والرفع: وضع الشيء في جهة العلو سواء كان بالنقل أو بالاختراع، كائنة {بغير عمد} جمع عماد كأهب وإهاب أو عمود، والعمود: جسم مستطيل يمنع المرتفع أن يميل، وأصله منع الميل {ترونها} أي مرئية حاملة لهذه الأجرام العظام التي مثلها لا تحمل في مجاري عاداتكم إلا بعد تناسبها في العظم، هذا على أن {ترونها} صفة، ويجوز -ولعله أحسن- أن يكون على تقدير سؤال من كأنه قال: ما دليل أنها بغير عمد؟ فقيل: المشاهدة التي لا أجلى منها.

ولما كان رفع السماوات بعد خلق الأرض وقبل تسويتها، ذكر أنه شرع في تدبير ما للكونين من المنافع وما فيهما من الأعراض والجواهر، وأشار إلى عظمة ذلك التدبير بأداة التراخي فقال: {ثم استوى على العرش} قال الرازي في لوامع البرهان: وخص العرش لأنه أعلى خلقه وصفوته ومنظره الأعلى وموضع تسبيحه ومظهر ملكه ومبدأ وحيه ومحل قربه، ولم ينسب شيئاً من خلقه كنسبته، فقال تعالى: {ذو العرش} كما قال {ذو الجلال} و "ذو "كلمة لحق واتصال وظهور ومبدأ، وقال الرماني: والاستواء: الاستيلاء بالاقتدار ونفوذ السلطان، وأصله: استوى التدبير، كما أن أصل القيام الانتصاب، ثم يقال: قائم بالتدبير -انتهى. وعبر ب "ثم" لبعد هذه الرتبة عن الأطماع وعلوها عما يستطاع، فليس هناك ترتيب ولا مهلة حتى يفهم أن ما قبل كان على غير ذلك، والمراد أنه أخذ في التدبير لما خلق كما هو شأن الملوك إذا استووا على عروشهم، أي لم يكن لهم مدافع، وإن لم يكن هناك جلوس أصلاً، وذلك لأن روح الملك التدبير وهو أعدل أحواله والله أعلم {وسخر} أي ذلل تذليلاً عظيماً {الشمس} أي التي هي آية النهار {والقمر} أي الذي هو آية الليل لما فيهما من الحكم والمنافع والمصالح التي بها صلاح البلاد والعباد، ودخلت اللام فيهما وكل واحد منهما لا ثاني له لما في الاسم من معنى الصفة، إذ لو وجد مثل لهما لم يتوقف في إطلاق الاسم عليه، ولا كذلك زيد وعمرو. والتسخير: التهيئة لذلك المعنى المسخر له ليكون بنفسه من غير معاناة صاحبه فيما يحتاج إليه كتسخير النار للإنضاج والماء للجريان {كل} أي من الكوكبين {يجري}.

ولما كان السياق للتدبير، علم أن المراد بجريهما لذلك، وهو تنقلهما في المنازل والدرجات التي يتحول بها الفصول، ويتغير النبات وتضبط الأوقات، وكلما كان التدبير أسرع، علم أن صاحبه أعلم ولا سيما إن كان أحكم، فكان الموضع للام لا لإلى، فعلل بقوله: {لأجل} أي لأجل اختصاصه بأجل {مسمى} هذي أجلها سنة، وذاك أجله شهر؛ والأجل: الوقت المضروب لحدوث أمر وانقطاعه.

ولما كان كل من ذلك مشتملاً من الآيات على ما يجل عن الحصر مع كونه في غاية الإحكام، استأنف خبراً هو كالتنبيه على ما فيما مضى من الحكمة، فقال مبيناً للاستواء على العرش بعد أن أشار إلى عظمة هذا الخبر بما في صلة الموصول من الأوصاف العظيمة: {يدبر الأمر} أي في المعاش والمعاد وما ينظمهما بأن يفعل فيه فعل من ينظر في أدباره وعواقبه ليأتي محكماً يجل عن أن يرام بنقض، بل هو بالحقيقة الذي يعلم أدبار الأمور وعواقبها، لا يشغله شأن عن شأن، مع أن هذا العالم- من أعلى العرش إلى ما تحت الثرى -محتو عل أجناس وأنواع وفصول وأصناف وأشخاص لا يحيط بها سواه، وذلك دال قطعاً على أنه سبحانه في ذاته وصفاته متعال عن مشابهة المحدثات واحد أحد صمد ليس له كفواً أحد.

ولما كان هذا بياناً عظيماً لا لبس فيه، قال {يفصل الآيات} أي التي برز إلى الوجود تدبيرها، الدالة على وحدانيته وكمال حكمته، المشتملة عليها مبدعاته، فيفرقها ويباين بينها مباينة لا لبس فيها، تقريباً لعقولكم وتدريباً لفهومكم، لتعلموا أنها فعل الواحد المختار، لا فعل الطبائع ولا غيرها من الأسباب التي أبدعها، وإلا فكانت على نسق واحد، وجمعها لما تقدم من الإشارة إلى كثرتها بقوله: {وكأين من آية في السماوات والأرض} فكأن هذه الألف واللام لذلك المنكر هناك.

ولما كان التدبير وهذا التفصيل دالاًّ على تمام القدرة وغاية الحكمة، وكان البعث لفصل القضاء والحكم بالعدل وإظهار العظمة هو محط الحكمة، علل بقوله: {لعلكم بلقاء ربكم} أي لتكون حالكم حال من يرجى له بما ينظر من الدلالات الإيقان بلقاء الموجد له المحسن إليه بجميع ما تحتاجه التربية {توقنون} أي تعلمون ذلك من غير شك استدلالاً بالقدرة على ابتداء الخلق على القدرة على ما جرت العادة بأنه أهون من الابتداء وهو الإعادة، وأنه لا تتم الحكمة إلا بذلك.

إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :

{لأجل مسَمًّى} لمدة معينةٍ فيها تتم دورتُه كالسنة للشمس والشهر للقمر، فإن كلاًّ منهما يجري كلَّ يوم على مدار معينٍ من المدارات اليوميةِ أو لمدة تنتهي فيها حركاتُهما...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

هذا هو الافتتاح الذي يلخص موضوع السورة كله، ويشير إلى جملة قضاياها. ومن ثم يبدأ في استعراض آيات القدرة، وعجائب الكون الدالة على قدرة الخالق وحكمته وتدبيره، الناطقة بأن من مقتضيات هذه الحكمة أن يكون هناك وحي لتبصير الناس؛ وأن يكون هناك بعث لحساب الناس. وأن من مقتضيات تلك القدرة أن تكون مستطيعة بعث الناس ورجعهم إلى الخالق الذي بدأهم وبدأ الكون كله قبلهم. وسخره لهم ليبلوهم فيما آتاهم.

وتبدأ الريشة المعجزة في رسم المشاهد الكونية الضخمة.. لمسة في السماوات، ولمسة في الأرضين. ولمسات في مشاهد الأرض وكوامن الحياة..

ثم التعجيب من قوم ينكرون البعث بعد هذه الآيات الضخام، ويستعجلون عذاب الله، ويطلبون آية غير هذه الآيات:

(الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها، ثم استوى على العرش، وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى، يدبر الأمر، يفصل الآيات، لعلكم بلقاء ربكم توقنون)...

والسماوات -أيا كان مدلولها وأيا كان ما يدركه الناس من لفظها في شتى العصور- معروضة على الأنظار، هائلة -ولا شك- حين يخلو الناس إلى تأملها لحظة، وهي هكذا لا تستند إلى شيء، مرفوعة (بغير عمد مكشوفة ترونها)..

هذه هي اللمسة الأولى في مجالي الكون الهائلة وهي بذاتها اللمسة الأولى للوجدان الإنساني، وهو يقف أمام هذا المشهد الهائل يتملاه؛ ويدرك أنه ما من أحد يقدر على رفعها بلا عمد -أو حتى بعمد- إلا الله؛ وقصارى ما يرفعه الناس بعمد أو بغير عمد تلك البنيان الصغيرة الهزيلة القابعة في ركن ضيق من الأرض لا تتعداه. ثم يتحدث الناس عما في تلك البنيان من عظمة ومن قدرة ومن إتقان، غافلين عما يشملهم ويعلوهم من سماوات مرفوعة بغير عمد؛ وعما وراءها من القدرة الحقة والعظمة الحقة، والإتقان الذي لا يتطاول إليه خيال إنسان!

ومن هذا المنظور الهائل الذي يراه الناس، إلى المغيب الهائل الذي تتقاصر دونه المدارك والأبصار: (ثم استوى على العرش)..

فإن كان علو فهذا أعلى. وإن كانت عظمة فهذا أعظم. وهو الاستعلاء المطلق، يرسمه في صورة على طريقة القرآن في تقريب الأمور المطلقة لمدارك البشر المحدودة.

وهي لمسة أخرى هائلة من لمسات الريشة المعجزة. لمسة في العلو المطلق إلى جانب اللمسة الأولى في العلو المنظور، تتجاوران وتتسقان في السياق..

ومن الاستعلاء المطلق إلى التسخير. تسخير الشمس والقمر. تسخير العلو المنظور للناس على ما فيه من عظمة أخاذة، أخذت بألبابهم في اللمسة الأولى، ثم إذا هي مسخرة بعد ذلك لله الكبير المتعال.

ونقف لحظة أمام التقابلات المتداخلة في المشهد قبل أن نمضي معه إلى غايته. فإذا نحن أمام ارتفاع في الفضاء المنظور يقابله ارتفاع في الغيب المجهول. وإذا نحن أمام استعلاء يقابله التسخير. وإذا نحن أمام الشمس والقمر يتقابلان في الجنس: نجم وكوكب، ويتقابلان في الأوان، بالليل والنهار..

ثم نمضي مع السياق.. فمع الاستعلاء والتسخير الحكمة والتدبير:

(كل يجري لأجل مسمى)..

وإلى حدود مرسومة، ووفق ناموس مقدر. سواء في جريانهما في فلكيهما دورة سنوية ودورة يومية. أو جريانهما في مداريهما لا يتعديانه ولا ينحرفان عنه. أو جريانهما إلى الأمد المقدر لهما قبل أن يحول هذا الكون المنظور.

(يدبر الأمر)..

الأمر كله، على هذا النحو من التدبير الذي يسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى.. والذي يمسك بالأفلاك الهائلة والأجرام السابحة في الفضاء فيجريها لأجل لا تتعداه، لا شك عظيم التدبير جليل التقدير.

ومن تدبيره الأمر أنه (يفصل الآيات) وينظمها وينسقها، ويعرض كلا منها في حينه، ولعلته، ولغايته (لعلكم بلقاء ربكم توقنون) حين ترون الآيات مفصلة منسقة، ومن ورائها آيات الكون، تلك التي أبدعتها يد الخالق أول مرة، وصورت لكم آيات القرآن ما وراء إبداعها من تدبير وتقدير وإحكام.. ذلك كله يوحي بأن لا بد من عودة إلى الخالق بعد الحياة الدنيا، لتقدير أعمال البشر، ومجازاتهم عليها. فذلك من كمال التقدير الذي توحي به حكمة الخلق الأول عن حكمة وتدبير.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

... تدبير الأمر يشمل تقدير الخلق الأول والثاني فهو إشارة إلى التصرف بالتكوين للعقول والعوالم، وتفصيل الآيات مشير إلى التصرف بإقامة الأدلة والبراهين، وشأن مجموع الأمرين أن يفيد اهتداء الناس إلى اليقين بأن بعد هذه الحياة حياة أخرى، لأن النظر بالعقل في المصنوعات وتدبيرها يهدي إلى ذلك، وتفصيلَ الآيات والأدلة ينبه العقول ويعينها على ذلك الاهتداءِ ويقرّبه.

وهذا قريب من قوله في سورة يونس: {يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذّكرون إليه مرجعكم جميعاً وعد الله حقاً إنه يبدأُ الخلق ثم يعيده} [يونس: 3]. وهذا من إدماج غرض في أثناء غرض آخر لأن الكلام جار على إثبات الوحدانية. وفي أدلة الوحدانية دلالة على البعث أيضاً.

وصيغ {يدبر} و {يفصل} بالمضارع عكس قوله: {الله الذي رفع السماوات} لأن التدبير والتفصيل متجدّد متكرر بتجدد تعلق القدرة بالمقدورات. وأما رفع السماوات وتسخير الشمس والقمر فقد تم واستقرّ دفعة واحدة.

التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :

وتحدث كتاب الله عما أبدعه بديع السماوات والأرض من مختلف الأكوان في العالم العلوي والعالم السفلي، داعيا كل الناس على اختلاف الألوان والأجناس، إلى تأمل آياته الكونية، تمهيدا للإيمان بآياته الدينية، فقال تعالى: {الله الذي رفع السماوات بغير عمد، ترونها، ثم استوى على العرش، وسخر الشمس والقمر، كل يجري لأجل مسمى، يدبر الأمر، يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون، وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا، ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين، يغشي الليل النهار، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون، وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان تسقى بماء واحد، ونفضل بعضها على بعض في الأكل، إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون}. ففي هذه الآيات الكريمة عرض سريع وخاطف لمظاهر متنوعة من صنع الله العجيب، وظواهر دقيقة من تدبيره المحكم، مما يبعث على التفكر والتدبر كل من عنده عقل أو فكر. والوحي الإلهي الذي امتاز به الإسلام لا يتهيب أن يحتكم دائما إلى العقل الناضج والفكر السليم، وأن يعتمد عليهما، بل هو واثق بانتصاره أمام فحصهما، مطمئن إلى إقناعه لهما، لأنه منبثق من صميم الفطرة الأصيلة التي فطر الله الناس عليها، ولا يوجد أي تعارض أو تناقض بينه وبينها {إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}{إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون}.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{يُفَصِّلُ الآيَاتِ} الكونية على رأي بعض التفاسير وذلك في فصل الأشياء بعضها عن بعض، وتمييزها في خصائصها ودقائقها، بحيث لا تختلط الأشياء فيها ولا ترتبك الظواهر والموجودات، أو الآيات المنزلة من عند الله كما في تفسير بعضٍ آخر وذلك بتوضيحها وكشف حقائقها وخصائصها، بحيث لا تخفى على أحدٍ، ولا يشتبه أمرها على الناس، ليعرفوا، من خلال ذلك، كيف يعرفون الله بعظمته وحكمته وتدبيره، وكيف يؤمنون به في وحيه ورسالته، لينتهي ذلك بهم إلى استلهام تدبير الله في منع العبث في انتهاء الحياة إلى اللاهدف واللامعنى الذي يتحدث عنه المنكرون للآخرة...