المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَجَآءُو عَلَىٰ قَمِيصِهِۦ بِدَمٖ كَذِبٖۚ قَالَ بَلۡ سَوَّلَتۡ لَكُمۡ أَنفُسُكُمۡ أَمۡرٗاۖ فَصَبۡرٞ جَمِيلٞۖ وَٱللَّهُ ٱلۡمُسۡتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ} (18)

18- وأحضروا قميصه وعليه دم يشهد بادعائهم ، إذ زعموا أنه دم يوسف ليصدقهم أبوهم ، ولكنه قال : إن الذئب لم يأكله كما زعمتم ، بل قد سولت لكم أنفسكم أمراً عظيماً فأقدمتم عليه ، فشأني صبر جميل لا يصحبه الجزع على ما أصابني منكم ، والله - وحده - الذي يُطْلَب منه العون على ما تزعمون وتدعون من الباطل .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَجَآءُو عَلَىٰ قَمِيصِهِۦ بِدَمٖ كَذِبٖۚ قَالَ بَلۡ سَوَّلَتۡ لَكُمۡ أَنفُسُكُمۡ أَمۡرٗاۖ فَصَبۡرٞ جَمِيلٞۖ وَٱللَّهُ ٱلۡمُسۡتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ} (18)

ولكنهم لم يكتفوا بهذا التباكى وبهذا القول ، بل أضافوا إلى ذلك تمويها آخر حكاه القرآن في قوله : { وَجَآءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ . . . } أى : بدم ذى كذب ، فهو مصدر بتقدير مضافه ، أو وصف الدم بالمصدر مبالغة ، حتى لكأنه الكذب بعينه ، والمصدر هنا بمعنى المفعول ، كالخلق بمعنى المخلوق ، أى : بدم مكذوب .

والمعنى : وبعد أن ألفوا بيوسف في الجب ، واحتفظوا بقميصه معهم ، ووضعوا على هذا القميص دما مصطنعا ليس من جسم يوسف ، وإنما من جمس شئ آخر قد يكون ظبيا وقد يكون خلافه .

وقال - سبحانه - { على قَمِيصِهِ } للإِشعار بأنه دم موضوع على ظاهر القميص وضعا متكلفا مصطنعا ، ولو كان من أثر افتراس الذئب لصاحبه ، لظهر التمزق والتخريق في القميص ، ولتغلغل الدم في قطعة منه .

ولقد أدرك يعقوب - عليه السلام - من قسمات وجوههم ، ومن دلائل حالهم ، ومن نداء قلبه المفجوع أن يوسف لم يأكله الذئب ، وأن هؤلاء المتباكين هم الذين دبروا له مكيدة ما ، وأنهم قد اصطنعوا هذه الحيلة المكشوفة مخادعة له ، ولذا جابههم بقوله : { قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً . . . } .

والتسويل : التسهيل والتزيين . يقال : سولت لفلان نفسه هذا الفعل أى زينته وحسنته له ، وصورته له في صورة الشئ الحسن مع أنه قبيح .

أى : قال يعقوب لأبنائه بأسى ولوعة بعد أن فعلوا ما عفلوا وقالوا ما قالوا : قال لهم ليس الأمر كما زعمتم من أن يوسف قد أكله الذئب ، وإنما الحق أن نفوسكم الحاقدة عليه هي التي زينت لكم أن تفعلوا معه فعلا سيئا قبيحا ، ستكشف الأيام عنه بإذن ربى ومشيئته .

ونكر الأمر في قوله : { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً } لاحتماله عدة أشياء مما يمكن أن يؤذوا به يوسف ، كالقتل ، أو التغريب ، أو البيع في الأسواق لأنه لم يكن يعلم على سبيل اليقين ما فعلوه به .

وفى هذا التنكير والإِبهام - أيضا - ما فيه من تهويل والتشنيع لما اقترفوه في حق أخيهم .

وقوله { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } أى : فصبرى صبر جميل ، وهو الذي لا شكوى فيه لأحد سوى الله - تعالى - ولا رجاء معه إلا منه - سبحانه - .

ثم أضاف إلى ذلك وقوله : { والله المستعان على مَا تَصِفُونَ } أى : والله - تعالى - هو الذي أستعين به على احتمال ما تصفون من أن ابنىيوسف قد أكله الذئب .

أو المعنى : والله - تعالى - وحده هو المطلوب عونه على إظهار حقيقة ما تصفون ، وإثبات كونه كذبا ، وأن يوسف مازال حيا ، وأنه - سبحانه - سيجمعنى به في الوقت الذي يشاؤه .

قال الآلوسى : " أخرج ابن أبى حاتم وأبو الشيخ عن قتادة : أن إخوة يوسف - بعد أن ألقوا به في الجب - أخذوا ظبيا فذبحوه ، ولطخوا بدمه قميصه ، ولما جاءوا به إلى أبيهم جعل يقلبه ويقول : تا الله ما رأيت كاليوم ئبا أحلم من هذا الذئب ! ! أكل ابنى ولم يمزق عليه قميصه . . " .

وقال القرطبى : " استدل الفقهاء بهذه الآية في إعمال الأمارات في مسائل الفقه كالقسامة وغيرها ، وأجمعوا على أن يعقوب - عليه السلام - قد استدل على كذب أبنائه بصحة القميص ، وهكذا يجب على الحاكم أن يلحظ الأمارات والعلامات . . . " .

وقال الشيخ القاسمى ما ملخصه : " وفى الآية من الفوائد : أن الحسد يدعو إلى المكر بالمحسود وبمن يراعيه . . . وأن الحاسد إذا ادعى النصح والحفظ والمحبة ، لم يصدق ، وأن من طلب مراده بمعصية الله - تعالى - فصحه الله - عز وجل - ، وأن القدر كائن ، وأن الحذر لا ينجى منه . . . " .

وإلى هنا نجد الآيات الكريمة قد حكت لنا بأسلوبها البليغ ، وتصويرها المؤثر ، ما تآمر به إخوة يوسف عليه ، وما اقترحوه لتنفيذ مكرهم ، وما قاله لهم أوسطهم عقلا ورأيا ، وما تحايلوا به على أبيهم لكى يصلوا إلى مآربهم ، وما رد به عليهم أبوهم ، وما قالوه له بعد أن نفذوا جريمتهم في أخيهم . بأن ألقوا به في الجب . .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَجَآءُو عَلَىٰ قَمِيصِهِۦ بِدَمٖ كَذِبٖۚ قَالَ بَلۡ سَوَّلَتۡ لَكُمۡ أَنفُسُكُمۡ أَمۡرٗاۖ فَصَبۡرٞ جَمِيلٞۖ وَٱللَّهُ ٱلۡمُسۡتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ} (18)

وأدرك يعقوب من دلائل الحال ، ومن نداء قلبه ، أن يوسف لم يأكله الذئب ، وأنهم دبروا له مكيدة ما . وأنهم يلفقون له قصة لم تقع ، ويصفون له حالا لم تكن ، فواجههم بأن نفوسهم قد حسنت لهم أمرا منكرا وذللته ويسرت لهم ارتكابه ؛ وأنه سيصبر متحملا متجملا لا يجزع ولا يفزع ولا يشكو ، مستعينا بالله على ما يلفقونه من حيل وأكاذيب :

( قال : بل سولت لكم أنفسكم أمرا ، فصبر جميل ، والله المستعان على ما تصفون ) .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَجَآءُو عَلَىٰ قَمِيصِهِۦ بِدَمٖ كَذِبٖۚ قَالَ بَلۡ سَوَّلَتۡ لَكُمۡ أَنفُسُكُمۡ أَمۡرٗاۖ فَصَبۡرٞ جَمِيلٞۖ وَٱللَّهُ ٱلۡمُسۡتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ} (18)

{ وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } أي : مكذوب مفترى . وهذا من الأفعال التي يؤكدون بها ما تمالئوا عليه من المكيدة ، وهو أنهم عمدوا إلى سَخْلة - فيما ذكره مجاهد ، والسدي ، وغير واحد - فذبحوها ، ولطخوا ثوب يوسف بدمها ، موهمين أن هذا قميصه الذي أكله فيه الذئب ، وقد أصابه من دمه ، ولكنهم نسوا أن يخرقوه ، فلهذا لم يَرُج هذا الصنيع على نبي الله يعقوب ، بل قال لهم معرضًا عن كلامهم إلى ما وقع في نفسه من تمالئهم عليه : { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } أي : فسأصبر صبرًا جميلا على هذا الأمر الذي قد اتفقتم عليه ، حتى يفرجه الله بعونه ولطفه ، { وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } أي : على ما تذكرون من الكذب والمحال .

وقال الثوري ، عن سِمَاك ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس : { وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } قال : لو أكله السبع لخرق القميص . وكذا قال الشعبي ، والحسن ، وقتادة ، وغير واحد .

وقال مجاهد : الصبر الجميل : الذي لا جزع فيه .

وروى هُشَيْم ، عن عبد الرحمن بن يحيى ، عن حبَّان بن أبي جَبَلة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } فقال : " صبر لا شكوى{[15087]} فيه " وهذا مرسل{[15088]} .

وقال عبد الرزاق : قال الثوري عن بعض أصحابه أنه قال : ثلاث من الصبر : ألا تحدث بوجعك ، ولا بمصيبتك ، ولا تزكي نفسك{[15089]} .

وذكر البخاري هاهنا حديث عائشة ، رضي الله عنها ، في الإفك حتى ذكر قولها : والله لا أجد لي ولكم مثلا إلا أبا يوسف{[15090]} { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } {[15091]} .


[15087]:- في ت : "لا قوى".
[15088]:- تفسير الطبري (15/585).
[15089]:- تفسير عبد الرزاق (1/277).
[15090]:- في ت : "إلا يعقوب" وفي أ : "إلا أبا يوسف إذ قال".
[15091]:- صحيح البخاري برقم (4690).
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَجَآءُو عَلَىٰ قَمِيصِهِۦ بِدَمٖ كَذِبٖۚ قَالَ بَلۡ سَوَّلَتۡ لَكُمۡ أَنفُسُكُمۡ أَمۡرٗاۖ فَصَبۡرٞ جَمِيلٞۖ وَٱللَّهُ ٱلۡمُسۡتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ} (18)

وقوله تعالى : { وجاءوا على قميصه بدم كذب } الآية ، روي أنهم أخذوا سخلة{[6599]} أو جدياً فذبحوه ولطخوا به قميص يوسف ، وقالوا ليعقوب : هذا قميصه ، فأخذه ولطخ به وجهه وبكى ، ثم تأمله فلم ير خرقاً ولا أثر ناب .

فاستدل بذلك على كذبهم ، وقال لهم : متى كان الذئب حليماً ، يأكل يوسف ولا يخرق قميصه ؟ - قص هذا القصص ابن عباس وغيره ، وأجمعوا على أنه استدل على كذبهم لصحة القميص - واستند الفقهاء إلى هذا في إعمال الأمارات في مسائل كالقسامة بها - في قول مالك - إلى غير ذلك .

قال الشافعي : كان في القميص ثلاث آيات : دلالته على كذبهم وشهادته في قده ، ورد بصر يعقوب به{[6600]} . وروي أنهم ذهبوا فأخذوا ذئباً فلطخوا فاه بالدم وساقوه وقالوا ليعقوب ، هذا أكل يوسف ، فدعاه يعقوب فأقعى وتكلم بتكذيبهم .

ووصف الدم ب { كذب } إما على معنى بدم ذي كذب ، وإما أن يكون بمعنى مكذوب عليه ، كما قد جاء المعقول بدل العقل في قول الشاعر :

[ الكامل ]

حتى إذا لم يتركوا لعظامه*** لحماً ولا لفؤادِهِ معقولا{[6601]}

فكذلك يجيء التكذيب مكان المكذوب .

قال القاضي أبو محمد : هذا كلام الطبري ، ولا شاهد له فيه عندي ، لأن نفي المعقول يقتضي نفي العقل ، ولا يحتاج إلى بدل ، وإنما «الدم الكذب » عندي وصف بالمصدر على جهة المبالغة .

وقرأ الحسن : «بدم كذب » بدال غير معجمة ، ومعناه الطري ونحوه ، وليست هذه القراءة قوية{[6602]} .

ثم قال لهم يعقوب لما بان كذبهم : { بل سولت لكم أنفسكم أمراً } أي رضيت وجعلت سولاً ومراداً54 { أمراً } أي صنعاً قبيحاً بيوسف . وقوله : { فصبر جميل } رفع إما على حذف الابتداء وإما على حذف الخبر : إما على تقدير : فشأني صبر جميل ، وإما على تقدير فصبر جميل أمثل . وذكر أن الأشهب وعيسى بن عمر قرأ بالنصب : «فصبراً جميلاً » على إضمار فعل ، وكذلك هي في مصحف أبيّ ومصحف أنس بن مالك - وهي قراءة ضعيفة عند سيبويه ولا يصلح النصب في مثل هذا إلا مع الأمر ، ولذا يحسن النصب في قول الشاعر [ الرجز ]

. . . . . . . . صبرا جميلاً فكلانا مبتلى*** وينشد أيضاً بالرفع ويروى «صبر جميل » ، على نداء الجمل المذكور في قوله : [ الرجز ]

شكى إليّ جملي طول السرى*** يا جملي ليس إليّ المشتكى

صبر جميل فكلانا مبتلى*** وإنما تصح قراءة النصب على أن تقدر يعقوب عليه السلام رجع إلى مخاطبة نفسه أثناء مخاطبة بنيه .

وجميل الصبر ألا تقع شكوى إلى بشر ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «من بث لم يصبر صبراً جميلاً »{[6603]} .

وقوله : { والله المستعان على ما تصفون } تسليم لأمر الله تعالى وتوكل عليه ، والتقدير على احتمال ما تصفون .


[6599]:السخلة: الذكر والأنثى من ولد الضأن والمعز ساعة يولد، والجمع: سخل، وسخال، وسخلان. (المعجم الوسيط).
[6600]:قال القرطبي: "هذا مردود، فإن القميص الذي جاءوا عليه بالدم غير القميص الذي قُدّ، وغير القميص الذي أتاه البشير به، وقد قيل: إن القميص الذي قد هو القميص الذي أتي به فارتد بصيرا". هذا وقد اختلف العلماء في إعراب {على قميصه}، فقال الزمخشري: محله النصب على الظرف كأنه قيل: وجاءوا فوق قميصه بدم، كما تقول: "جاء على جماله بأحمال"، ورد أبو حيان ذلك بقوله: ولا يساعد المعنى على نصب [على] على الظرف بمعنى فوق، لأن العامل فيه إذ ذاك [جاءوا] وليس الفوق ظرفا لهم، بل يستحيل أن يكون ظرفا لهم، وقال الحوفي: [على] متعلق ب[جاءوا]، ورده أبو حيان أيضا، وقال أبو البقاء: {على قميصه} في موضع نصب حالا من [دم]، لأن التقرير: جاءوا بدم كذب على قميصه، وعلق على ذلك أبو حيان بقوله: والمعنى يرشد إليه وإن كان هناك خلاف في جواز تقديم الحال على المجرور بالحرف غير الزائد، ومن أجاز ذلك استدل عليه بشواهد كثيرة من لسان العرب.
[6601]:البيت للراعي النميري، قاله من قصيدة يمدح بها عبد الملك بن مروان ويشكو من جباة الزكاة، وقد وردت في (جمهرة أشعار العرب) لابن أبي الخطاب القرشي، ومعنى البيت مع البيت الذي قبله: إن جباة الزكاة ضربوا رئيس القوم بالسياط الأصبحية حتى لم يتركوا على عظامه لحما، ولا أبقوا في فوائده عقلا. كذلك أورد الفراء البيت في (معاني القرآن) في أثناء شرحه للآية الكريمة، قال: "وقوله: {وجاءوا على قميصه بدم كذب} معناه: مكذوب، والعرب تقول للكذب: مكذوب، وليس له عقد رأي، ومعقود رأي، فيجعلون المصدر في كثير من الكلام مفعولا، قال الشاعر: إن أخا المجلود من صبرا، وقال آخر: حتى إذا لم يتركوا... البيت".
[6602]:قال أبو الفتح بن جني في "المحتسب 1- 335": "أصل هذا من الكذب وهو الفوف، يعني البياض الذي يخرج على أظفار الأحداث، فكأنه دم قد أثر على قميصه فلحقته أعراض كالنقش عليه".
[6603]:الصبر الجميل هو الذي لا شكوى فيه، ألا ترى إلى قوله تعالى: {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله}.