ثم بين - سبحانه - ما كان يجب عليهم أن يفعلوه ، فقال : { وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ الصلاة وَيُؤْتُواْ الزكاة وَذَلِكَ دِينُ القيمة }
والواو فى قوله - تعالى - { وَمَآ أمروا } للحال ، فهذه الجملة حالية ، والمقصود منها بيان أن هؤلاء الضالين ، قد بلغوا النهاية فى قبح الأفعال ، وفى فساد العقول ، إذ أنهم تفرقوا واختلفوا وأعرضوا عن الهدى ، فى حال أنهم لم يؤمروا إلا بما فيه صلاحهم .
وقوله : { حنفاء } من الحَنف ، وهو الميل من الدين الباطل إلى الدين الحق . كما أن الجنف هو الميل من الحق إلى الباطل .
أي : أن هؤلاء الكافرين من أهل الكتاب تفرقوا واختلفوا فى شأن الحق ، والحال ، أنهم لم يؤمروا إلا بعبادة الله - تعالى - وحده ، مخلصين له الطاعة ، ومائلين عن الأديان الباطلة إلى الدين الحق ، مؤمنين بجميع الرسل بدون تفرقة بينهم ، إذ ملتهم جميعا واحدة ، ولم يؤمروا - أيضا - إلا بإقامة الصلاة فى أوقاتها بخشوع وإخلاص لله رب العالمين ، وبإيتاء الزكاة التى تطهرهم وتزكيهم .
{ وذلك } الذى أمرناهم به من إخلاص العبادة لنا ، ومن أداء فرائضنا { دِينُ القيمة } أى : دين الملة المستقيمة القيمة ، أو دين الكتب القيمة .
ولفظ " القيمة " بزنة فيعلة - من القوامة ، وهى غاية الاستقامة ، وهذا اللفظ صفة لموصوف محذوف .
على أن الدين في أصله واضح والعقيدة في ذاتها بسيطة :
( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة )وهذه هي قاعدة دين الله على الإطلاق :
عبادة الله وحده ، وإخلاص الدين له ، والميل عن الشرك وأهله ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة : ( وذلك دين القيمة ) . . عقيدة خالصة في الضمير ، وعبادة لله ، تترجم عن هذه العقيدة ، وإنفاق للمال في سبيل الله ، وهو الزكاة . . فمن حقق هذه القواعد ، فقد حقق الإيمان كما أمر به أهل الكتاب ، وكما هو في دين الله على الإطلاق . دين واحد . وعقيدة واحدة ، تتوالى بها الرسالات ، ويتوافى عليها الرسل . . دين لا غموض فيه ولا تعقيد . وعقيدة لا تدعو إلى تفرق ولا خلاف ، وهي بهذه النصاعة ، وبهذه البساطة ، وبهذا التيسير . فأين هذا من تلك التصورات المعقدة ، وذلك الجدل الكثير ?
وقوله : { وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } كقوله { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] ؛ ولهذا قال : حنفاء ، أي : مُتَحنفين عن الشرك إلى التوحيد . كقوله : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] وقد تقدم تقرير الحنيف في سورة " الأنعام " {[30367]} بما أغنى عن إعادته هاهنا .
{ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ } وهي أشرف عبادات البدن ، { وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ } وهي الإحسان إلى الفقراء{[30368]} والمحاويج . { وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } أي : الملة القائمة العادلة ، أو : الأمة المستقيمة المعتدلة .
وقد استدل كثير من الأئمة ، كالزهري والشافعي ، بهذه الآية الكريمة على أن الأعمال داخلة في الإيمان ؛ ولهذا قال : { وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ }
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَآ أُمِرُوَاْ إِلاّ لِيَعْبُدُواْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ حُنَفَآءَ وَيُقِيمُواْ الصّلاَةَ وَيُؤْتُواْ الزّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيّمَةِ } .
يقول تعالى ذكره : وما أمر الله هؤلاء اليهود والنصارى الذين هم أهل الكتاب إلا أن يعبدوا الله مخلصين له الدين ، يقول : مفردين له الطاعة ، لا يخلطون طاعتهم ربهم بشرك ، فأشركت اليهود بربها بقولهم : إن عُزَيرا ابن الله ، والنصارى بقولهم في المسيح مثل ذلك ، وجحودهم نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم .
وقوله : ( حُنَفاءَ ) قد مضى بياننا في معنى الحنيفية قبل ، بشواهده المُغنية عن إعادتها ، غير أنا نذكر بعض ما لم نذكر قبل من الأخبار في ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : { مخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ حُنَفاءَ } يقول : حجاجا مسلمين غير مشركين ، يقول : { وَيُقِيمُوا الصّلاةَ وَيُؤْتُوا الزّكَاة } ويَحُجّوا { وذَلكَ دِينُ الْقَيّمَةِ } .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَما أُمِرُوا إلاّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصينَ له الدّينَ حُنَفاءَ } والحنيفية : الختان ، وتحريم الأمهات والبنات والأخوات والعمات ، والخالات ، والمناسك .
وقوله : { وَيُقِيمُوا الصّلاةَ وَيُؤْتُوا الزّكاةَ } يقول : وليقيموا الصلاة ، وليؤتوا الزكاة .
وقوله : { وَذَلكَ دِينُ الْقَيّمَةِ } يعني أن هذا الذي ذكر أنه أمر به هؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين ، هو الدين القيّمة ، ويعني بالقيّمة : المستقيمة العادلة ، وأضيف الدين إلى القيّمة ، والدين هو القَيّم ، وهو من نعته لاختلاف لفظيهما . وهي في قراءة عبد الله فيما أرى فيما ذُكر لنا : " وَذَلكَ الدّينُ الْقَيّمَةِ " ، وأُنّثت القيّمة ، لأنها جعلت صفة للملة ، كأنه قيل : وذلك الملة القيّمة ، دون اليهودية والنصرانية . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله { وَذَلكَ دِينُ الْقَيّمَةِ } هو الدين الذي بعث الله به رسوله ، وشرع لنفسه ، ورضي به .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : { كُتُبٌ قَيّمَةٌ } { وَذَلكَ دِينُ الْقَيّمَةِ } قال : هو واحد قيّمة : مستقيمة معتدلة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.