ثم أمر الله - تعالى - الدائنين أن يصبروا على المدينين الذين لا يجدون ما يؤدون منه ديونهم فقال - تعالى - : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } .
والعسرة : اسم من الإِعسار وهو تعذر الموجود من المال يقال : أعسر الرجل إذا صار إلى حالة العسرة وهي الحالة التي يتعسر فيها وجود المال .
والنظرة : اسم من الإِنظار بمعنى الإمهال . يقال : شنظره وانتظره وتنظره ، تأنى عليه وأمهله في الطلب .
والميسرة : مفعلة من اليسر الذي هو ضد الإِعسار . يقال : أيسر الرجل فهو موسر إذا اغتنى وكثر ماله وحسنت حاله .
والمعنى : وإن وجد مدين معسر فأمهلوه في أداء دينه إلى الوقت سالذي يتمكن فيه من سداد ما عليه من ديون ، ولا تكونوا كأهل الجاهلية الذين كان الواحد منهم إذا كان له دين على شخص وحل موعد الدين طالبه بشدة وقال له : إما أن تقضي وإما أن تربي أي تدفع زيادة على أصل الدين .
و ( كان ) هنا الظاهر أنها تامة بمعنى وجد أو حدث ، فتكتفى بفاعلها كسائر الأفعال . وقيل يجوز أن تكون ناقصة واسمها ضمير مستكن فيها يعود إلى المدين وإن لم يذكر وذلك على قراءة ( ذا عسرة ) بالنصب وقوله : ( فنظرة ) الفاء جواب الشرط . ونظرة خبر لمبتدأ محذوف أي فالأمر أو فالواجب أو مبتدأ محذوف الخبر أي فعليكم نظرة .
ثم حبب - سبحانه - إلى عباده التصدق بكل أو ببعض ما لهم من ديون على المدينين المعسرين فقال - تعالى - : { وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } .
أي : وأن تتركوا للمعسر كل أو بعض ما لكم عليه من ديون وتتصدقوا بها عليه ، فإن فعلكم هذا يكون أكثر ثواباً لكم من الأنظار .
وجواب الشرط في قوله : { إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } محذوف . أي إن كنتم تعلمون أن هذا التصدق خير لكم فلا تتباطؤا في فعله ، بل سارعوا إلى تنفيذه فإن التصدق بالدين على المعسر ثوابه جزيل عند الله - تعالى - .
وقد أورد بعض المفسرين جملة من الأحاديث النبوية التي تحض على إمهال المعسر ، والتجاوز عما عليه من ديون .
ومن ذلك ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من نفس عن غريمه أو محا عنه كان في ظل العرش يوم القيامة " .
وروى الطبراني عن أسعد بن زرارة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من سره أن يظله الله يوم لا ظل إلا ظله فليسير مع معسر أو ليضع عنه " .
وروى الإِمام أحمد عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أراد أن تستجاب دعوته وأن تكشف كربته فليفرج عن معسر " .
ويكمل السياق الأحكام المتعلقة بالدين في حالة الإعسار . . فليس السبيل هو ربا النسيئة : بالتأجيل مقابل الزيادة . . ولكنه هو الإنظار إلى ميسرة . والتحبيب في التصدق به لمن يريد مزيدا من الخير أوفى وأعلى :
( وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة . وأن تصدقوا خير لكم . . إن كنتم تعلمون ) . .
إنها السماحة الندية التي يحملها الإسلام للبشرية . إنه الظل الظليل الذي تأوي إليه البشرية المتعبة في هجير الأثرة والشح والطمع والتكالب والسعار . إنها الرحمة للدائن والمدين وللمجتمع الذي يظل الجميع !
ونحن نعرف أن هذه الكلمات لا تؤدي مفهوما " معقولا " في عقول المناكيد الناشئين في هجير الجاهلية المادية الحاضرة ! وأن مذاقها الحلو لا طعم له في حسهم المتحجر البليد ! - وبخاصة وحوش المرابين سواء كانوا أفرادا قابعين في زوايا الأرض يتلمظون للفرائس من المحاويج والمنكوبين الذين تحل بهم المصائب فيحتاجون للمال للطعام والكساء والدواء أو لدفن موتاهم في بعض الأحيان ، فلا يجدون في هذا العالم المادي الكز الضنين الشحيح من يمد لهم يد المعونة البيضاء ؛ فيلجأون مرغمين إلى أوكار الوحوش . فرائس سهلة تسعى إلى الفخاخ بأقدامها . تدفعها الحاجة وتزجيها الضرورة ! سواء كانوا أفرادا هكذا أو كانوا في صورة بيوت مالية ومصارف ربوية . فكلهم سواء . غير أن هؤلاء يجلسون في المكاتب الفخمة على المقاعد المريحة ؛ ووراءهم ركام من النظريات الاقتصادية ، والمؤلفات العلمية ، والأساتذة والمعاهد والجامعات ، والتشريعات والقوانين ، والشرطة والمحاكم والجيوش . . كلها قائمة لتبرير جريمتهم وحمايتها ، وأخذ من يجرؤ على التلكؤ في رد الفائدة الربوية إلى خزائنهم باسم القانون . . ! !
نحن نعرف أن هذه الكلمات لا تصل إلى تلك القلوب . . ولكنا نعرف أنها الحق . ونثق أن سعادة البشرية مرهونة بالاستماع إليها والأخذ بها :
( وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة . وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون ) .
وَاتَّقُواْ يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ( 281 )
إن المعسر - في الإسلام - لا يطارد من صاحب الدين ، أو من القانون والمحاكم . إنما ينظر حتى يوسر . . ثم إن المجتمع المسلم لا يترك هذا المعسر وعليه دين . فالله يدعو صاحب الدين أن يتصدق بدينه - إن تطوع بهذا الخير . وهو خير لنفسه كما هو خير للمدين . وهو خير للجماعة كلها ولحياتها المتكافلة . لو كان يعلم ما يعلمه الله من سريرة هذا الأمر !
ذلك أن إبطال الربا يفقد شطرا كبيرا من حكمته إذا كان الدائن سيروح يضايق المدين ، ويضيق عليه الخناق . وهو معسر لا يملك السداد . فهنا كان الأمر - في صورة شرط وجواب - بالانتظار حتى يوسر ويقدر على الوفاء . وكان بجانبه التحبيب في التصدق بالدين كله أو بعضه عند الإعسار .
على أن النصوص الأخرى تجعل لهذا المدين المعسر حظا من مصارف الزكاة ، ليؤدي دينه ، وييسر حياته : إنما الصدقات للفقراء والمساكين . . . والغارمين . . . وهم أصحاب الديون . الذين لم ينفقوا ديونهم على شهواتهم وعلى لذائذهم . إنما أنفقوها في الطيب النظيف . ثم قعدت بهم الظروف !
{ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىَ مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدّقُواْ خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ }
يعني جل ثناؤه بذلك : وإن كان ممن تقبضون منه من غرمائكم رءوس أموالكم ذو عسرة ، يعني معسرا برءوس أموالكم التي كانت لكم عليهم قبل الإرباء ، فأنظِروهم إلى ميسرتهم . وقوله : { ذُو عُسْرَةٍ } مرفوع بكان ، فالخبر متروك ، وهو ما ذكرنا ، وإنما صلح ترك خبرها من أجل أن النكرات تضمر لها العرب أخبارها ، ولو وجهت كان في هذا الموضع إلى أنها بمعنى الفعل المتكفي بنفسه التامّ ، لكان وجها صحيحا ، ولم يكن بها حاجة حينئذ إلى خبر . فيكون تأويل الكلام عند ذلك : وإن وجد ذو عسرة من غرمائكم برءوس أموالكم ، فنظرة إلى ميسرة .
وقد ذكر أن ذلك في قراءة أبيّ بن كعب : «وَإنْ كانَ ذا عُسْرَةٍ » بمعنى : وإن كان الغريم ذا عسرة فنظرة إلى ميسرة . وذلك وإن كان في العربية جائزا فغير جائزة القراءة به عندنا لخلافه خطوط مصاحف المسلمين .
وأما قوله : { فَنَظْرَةٌ إلى مَيْسِرَةٍ } فإنه يعني : فعليكم أن تنظروه إلى ميسرة ، كما قال : { فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضا أوْ بِهِ أذًى مِنْ رأسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صيَامٍ } وقد ذكرنا وجه رفع ما كان من نظائرها فيما مضى قبل ، فأغنى عن تكريره . والميسرة : المفعلة من اليسر ، مثل المرحمة والمشأمة .
ومعنى الكلام : وإن كان من غرمائكم ذو عسرة ، فعليكم أن تنظروه حتى يوسر بما ليس لكم ، فيصير من أهل اليسر به .
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني واصل بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن فضيل ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : { وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسِرَةٍ } قال : نزلت في الربا .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا هشام ، عن ابن سيرين : أن رجلاً خاصم رجلاً إلى شريح قال : فقضى عليه ، وأمر بحبسه . قال : فقال رجل عند شريح : إنه معسر ، والله يقول في كتابه : { وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسِرَةٍ } قال : فقال شريح : إنما ذلك في الربا ، وإن الله قال في كتابه : { إنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أنْ تُؤَدّوا الأماناتِ إِلى أهْلِها وَإذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أنْ تَحْكُمُوا بالعَدْلِ } ولا يأمرنا الله بشيء ثم يعذّبنا عليه .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم في قوله : { وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسِرَةٍ } قال : ذلك في الربا .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن الحسن : أن الربيع بن خُثَيْم كان له على رجل حقّ ، فكان يأتيه ويقوم على بابه ويقول : أي فلان إن كنت موسرا فأدّ ، وإن كنت معسرا فإلى ميسرة .
حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن محمد ، قال : جاء رجل إلى شريح ، فكلمه ، فجعل يقول : إنه معسر ، إنه معسر ، قال : فظننت أنه يكلمه في محبوس . فقال شريح : إن الربا كان في هذا الحيّ من الأنصار ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسِرَةٍ } وقال الله عزّ وجلّ : { إنّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أنْ تُؤَدّوا الأماناتِ إلى أهْلِها } فما كان الله عزّ وجلّ يأمرنا بأمر ثم يعذّبنا عليه ، أدّوا الأمانات إلى أهلها .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن سعيد ، عن قتادة في قوله : { وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } قال : فنظرة إلى ميسرة برأس ماله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسرَةٍ } إنما أمر في الربا أن ينظر المعسر ، وليست النظرة في الأمانة ، ولكن يؤدّي الأمانة إلى أهلها .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ } برأس المال ، { إلى مَيْسَرَةٍ } يقول : إلى غنى .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : { وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } هذا في شأن الربا .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سلمان ، قال : سمعت الضحاك في قوله : { وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } هذا في شأن الربا ، وكان أهل الجاهلية بها يتبايعون ، فلما أسلم من أسلم منهم ، أمروا أن يأخذوا رءوس أموالهم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : { وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } يعني المطلوب .
حدثني ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن جابر ، عن أبي جعفر في قوله : { وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } قال : الموت .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن جابر ، عن محمد بن عليّ ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا قبيصة بن عقبة ، قال : حدثنا سفيان ، عن المغيرة ، عن إبراهيم : { وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } قال : هذا في الربا .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا شريك ، عن منصور ، عن إبراهيم في الرجل يتزوّج إلى الميسرة ، قال : إلى الموت أو إلى فرقة .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا هشيم ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : { فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } . قال : ذلك في الربا .
حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا مندل ، عن ليث ، عن مجاهد : { فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسرَةٍ } . قال : يؤخره ولا يزد عليه ، وكان إذا حلّ دين أحدهم فلم يجد ما يعطيه زاد عليه وأخره .
وحدثنا أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا مندل ، عن ليث ، عن مجاهد : { وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسِرَةٍ } قال : يؤخره ولا يزد عليه .
وقال آخرون : هذه الآية عامة في كل من كان له قبل رجل معسر حق من أيّ وجهة كان ذلك الحق من دين حلال أو ربا . ذكر من قال ذلك :
حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، قال : من كان ذا عسرة فنظرة إلى ميسرة ، وأن تصدّقوا خير لكم¹ قال : وكذلك كل دين على مسلم ، فلا يحلّ لمسلم له دين على أخيه يعلم منه عسرة أن يسجنه ولا يطلبه حتى ييسره الله عليه ، وإنما جعل النظرة في الحلال فمن أجل ذلك كانت الديون على ذلك .
حدثني عليّ بن حرب ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : { وَإنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } قال : نزلت في الدين .
والصواب من القول في قوله : { وَإنْ كانَ دُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } أنه معنيّ به غرماء الذين كانوا أسلموا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولهم عليهم ديون قد أربوا فيها في الجاهلية ، فأدركهم الإسلام قبل أن يقبضوها منهم ، فأمر الله بوضع ما بقي من الربا بعد ما أسلموا ، وبقبض رءوس أموالهم ، ممن كان منهم من غرمائهم موسرا ، وإنظار من كان منهم معسرا برءوس أموالهم إلى ميسرتهم . فذلك حكم كل من أسلم وله ربا قد أربى على غريم له ، فإن الإسلام يبطل عن غريمه ما كان له عليه من قِبَل الربا ، ويلزمه أداء رأس ماله الذي كان أخذ منه ، أو لزمه من قبل الإرباء إليه إن كان موسرا ، وإن كان معسرا كان منظرا برأس مال صاحبه إلى ميسرته ، وكان الفضل على رأس المال مبطلاً عنه . غير أن الآية وإن كانت نزلت فيمن ذكرنا وإياهم عنى بها ، فإن الحكم الذي حكم الله به من إنظاره المعسر برأس مال المربي بعد بطول الرّبا عنه حكم واجب لكل من كان عليه دين لرجل قد حلّ عليه ، وهو بقضائه معسر في أنه منظر إلى ميسرته ، لأن دين كل ذي دين في مال غريمه وعلى غريمه قضاؤه منه لا في رقبته ، فإذا عدم ماله ، فلا سبيل له على رقبته بحبس ولا بيع ، وذلك أن مال ربّ الدين لن يخلو من أحد وجوه ثلاثة : إما أن يكون في رقبة غريمه ، أو في ذمته يقضيه من ماله ، أو في مال له بعينه¹ فإن يكن في مال له بعينه ، فمتى بطل ذلك المال وعدم ، فقد بطل دين ربّ المال ، وذلك ما لا يقوله أحد ويكون في رقبته ، فإن يكن كذلك فمتى عدمت نفسه ، فقد بطل دين ربّ الدين ، وإن خلف الغريم وفاء بحقه وأضعاف ذلك ، وذلك أيضا لا يقوله أحد ، فقد تبين إذ كان ذلك كذلك أن دين ربّ المال في ذمة غريمه يقضيه من ماله ، فإذا عدم ماله فلا سبيل له على رقبته ، لأنه قد عدم ما كان عليه أن يؤدى منه حقّ صاحبه لو كان موجودا ، وإذا لم يكن على رقبته سبيل لم يكن إلى حبسه بحقه وهو معدوم سبيل ، لأنه غير مانعه حقا له إلى قضائه سبيل ، فيعاقب بظلمه إياه بالحبس .
القول في تأويل قوله تعالى : { وأنْ تَصَدّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } .
يعني جلّ وعزّ بذلك : وأن تتصدّقوا برءوس أموالكم على هذا المعسر ، خير لكم أيها القوم من أن تنظروه إلى ميسرته لتقبضوا رءوس أموالكم منه إذا أيسر ، { إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } موضع الفضل في الصدقة ، وما أوجب الله من الثواب لمن وضع عن غريمه المعسر دينه .
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : وأن تصدّقوا برءوس أموالك على الغنيّ والفقير منهم خير لكم . ذكر من قال ذلك :
حدثني بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَإنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أمْوَالِكُمْ } والمال الذي لهم على ظهور الرجال جعل لهم رءوس أموالهم حين نزلت هذه الآية¹ فأما الربح والفضل فليس لهم ، ولا ينبغي لهم أن يأخذوا منه شيئا . { وأنْ تَصَدّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ } . يقول وإن تصدقوا بأصل المال ، خير لكم .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن سعيد عن قتادة : { وأنْ تَصَدّقُوا } أي برأس المال فهو خير لكم .
وحدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : { وأنْ تَصَدّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ } قال : من رءوس أموالكم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، عن سفيان ، عن المغيرة ، عن إبراهيم بمثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا قبيصة بن عقبة ، قال : حدثنا سفيان ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : { وأنْ تَصَدّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ } قال : أن تصدّقوا برءوس أموالكم .
وقال آخرون : معنى ذلك : وأن تصدقوا به على المعسر خير لكم¹ نحو ما قلنا في ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وأنْ تَصَدّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ } قال : وأن تصدّقوا برءوس أموالكم على الفقير فهو خير لكم ، فتصدّق به العباس .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسِرَةٍ وأنْ تَصَدّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ } يقول : وإن تصدّقت عليه برأس مالك فهو خير لك .
حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال أخبرنا عبيد قال : سمعت الضحاك في قوله : { وأنْ تَصَدّقُوا خَيْر لَكم } يعني على المعسر ، فأما الموسر فلا ، ولكن يؤخذ منه رأس المال ، والمعسر الأخذ منه حلال والصدقة عليه أفضل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك : وأن تصدّقوا برءوس أموالكم خير لكم من نظرة إلى ميسرة ، فاختار الله عزّ وجلّ الصدقة على النّظارة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسرَةٍ ، وأنْ تَصَدّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ } قال : من النظرة { إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } .
حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك : { فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسرَةٍ وأنْ تَصَدّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ } والنظرة واجبة ، وخير الله عزّ وجلّ الصدقة على النظرة ، والصدقة لكل معسر فأما الموسر فلا .
وأولى التأويلين بالصواب ، تأويل من قال معناه : وأن تصدّقوا على المعسر برءوس أموالكم خير لكم لأنه يلي ذكر حكمه في المعنيين ، وإلحاقه بالذي يليه أحبّ إليّ من إلحاقه بالذي بعد منه . وقد قيل : إن هذه الاَيات في أحكام الربا هن آخر آيات نزلت مِن القرآن . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن سعيد ، وحدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب : أن عمر بن الخطاب قال : كان آخر ما نزل من القرآن آية الربا ، وإن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قُبِض قبل أن يفسرها ، فدعوا الربا والريبة .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا داود ، عن عامر : أن عمر رضي الله عنه قام ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد : فإنه والله ما أدري ، لعلنا نأمركم بأمر لا يصلح لكم ، وما أدري لعلنا ننهاكم عن أمر يصلح لكم وإنه كان من آخر آيات القرآن تنزيلاً آيات الربا ، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبنيه لنا ، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم .
حدثني أبو زيد عمر بن شبة ، قال : حدثنا قبيصة ، قال : حدثنا سفيان الثوري ، عن عاصم ، عن الأحول ، عن الشعبي ، عن ابن عباس ، قال : آخر ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الربا ، وإنا لنأمر بالشيء لا ندري لعلّ به بأسا ، وننهى عن الشيء لعله ليس به بأس .