الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{وَإِن كَانَ ذُو عُسۡرَةٖ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيۡسَرَةٖۚ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيۡرٞ لَّكُمۡ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (280)

279

{ وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ } رفع الكلام باسم كان ولم يأتِ لها بخبر وذلك جائز في النكرة . يقول العرب : إنّ كان رجلٌ صالح فأكرمه ، وقيل : كان لمعنى وقع الحدث وحينئذ لا يحتاج إلى الخبر .

وقرأ أُبي وابن مسعود وابن عباس : إنّ كان ذا عسرة على إضمار الإسم وان الغريم أو المطلوب ذا عسرة . وقرأ آبان بن عثمان : ومن كان ذا عسرة لهذه الغلّة . وقرأ الأّعمش : وإن كان معسر وهو دليل قراءة العامّة .

والعسرة : الفقر والضيق والشدّة . وقرأ أبو جعفر : عسرة بضم السين ، وهما لغتان . { فَنَظِرَةٌ } أمر في صيغة الخبر ، والفاء فيه لجواب الشرط تقديره : فعليه نظرة ، أي قال : واجب نظره بالنصب على معنى فلينظر نظرة لكان صواباً كقوله فضرب الرقاب ، والنظرة : الإنظار .

وقرأ أبو رجاء والحسن وقتادة : فناظرة بكسر الضاد ورفع الراء والهاء أي منتظرة . وقرأ عطاء بن أبي رباح : فنظرة ساكنة الضاء وهي مصدر يجوز أن يكون من النظر والانتظار جميعاً . { إِلَى مَيْسَرَةٍ } قرأ عطاء وشيبة ونافع وحميد بن محيص : { مَيْسَرَةٍ } بضم السين والتنوين . وقرأ عمر وعلي وأبو رجاء والحسن وقتادة وعبد الله بن مسلم وأبو جعفر وأبن كثير وابن عامر وعاصم والأعمش وحمزة والكسائي وخلف وأبو عمرو ويعقوب وأيوب : { مَيْسَرَةٍ } بالتنوين وفتح السين وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم لأنّها اللغة السائرة . وقرأ مجاهد وأبو سراح الهذلي : ( ميسرة ) بضم السين مضافاً هو مثله روى زيد عن يعقوب ، وروى الأعمش عن عاصم عن زرّ عن عبد الله أنّه كان يقرأها : فناظروه إلى ميسورة ، وكلّها لغات معناها اليسار والغنى والسعة . { وَأَن تَصَدَّقُواْ } رؤوس أموالكم على المعسر فلا تطالبونه بها { خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } وقرأ عاصم : تصدّقوا بتخفيف الصاد . الباقون بتشديده .

ذكر حكم الآية

أمر الله تعالى بانظار المعسر فمتى ما أعسر الرجل وتبيّن أعساره ، فلا سبيل لرب المال إلى مطالبته بماله إلى أن يظهر يساره ، فإذا ظهر يساره كان عليه توفير الحق إلى ربّ المال وعلم أنّ الحقوق [ تخلف ] وكلّ حق لزم الإنسان عوضاً عن مال حصل في يده مثل قرض أو ابتياع سلعة ، فإذا ادّعى الإعسار لزمته البيّنة على الإعسار ؛ لأنّ الأصل فيه استغناؤه بحصول ما صار في يده ، وكلّ حق لزمه من غير حصول مال في يده كالمهر والضمان ، فإذا أدّعى الإعسار لزم ربّ المال أمامه البيّنة على كونه موسراً لأن الأصل في الناس الفقر ، وإذا لم يعلم له حالة استغناء كان الحكم فيه البقاء على أصل ما كان عليه إلى أن يتبيّن يساره .

وقال الحسن : إذا قال : أنا معدم ، فالقول قوله مع يمينه وعلى غرامه إظهار ماله ببيّنة أو عيان .

وكان أبو حنيفة يرى أن يحبس شهرين أو ثلاثة ثم يسأل عنه في السرّ ، فإنّ تبيّن أنّه معسر خلّى عنه .

ودليل مَنْ قال : لا يحبس ، حديث أبي سعيد الخدري قال : " أصيب رجل في ثمار فكثر دينه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " خذوا ما وجدتم ليس لكم إلاّ ذلك " .

وكان أبو هريرة على قضاء المدينة فأتاه رجل بغريم فقال : أريد أن تحبسه .

قال : هل تعلم له عين مال نأخذه منه فنعطيك ؟

قال : لا ، قال : فهل تعلم له أصل مال فنبيعه ونعطيك ؟

قال : لا ، قال : فما تريد ، قال : أريد أن تحبسه ، قال : لكنّي ادعه يطلب لك ولنفسه وعياله فإذا أيسر لزمه قضاء الدين " .

سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم : " مَنْ مشى إلى غريمه بحقّه صلت عليه دواب الأرض ونون الماء وكتب الله عزّ وجلّ بكلّ خطوة شجرة يغرس له في الجنّة وذنباً يغفر له فإنّ لم يفعل ومطل فهو متعدّ " .

أبو الزياد الأعرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الظلم مطل الغنى فإذا اتبع أحدكم على ملىء فليتبع " .

في فضل إنظار المعسر

زيد بن أسلم عن أبي صالح عن أبي هريرة : إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مَنْ أنظر معسراً أو وضع له ، أظلّه الله في ظلّ عرشه يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه " ، وعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

" مَنْ أحب أن يستجاب دعوته ويكشف كربته فلييسّر على المعسر " .

ربعي بن خراش عن حذيفة بن اليمان قال : أتى الله عزّ وجلّ بعبده يوم القيامة فقال أي ربّ ما عملت لك خيراً قط أُريدك به إلاّ إنّك رزقتني مالاً فكنت أتوسّع على المعسر . وأنظر المعسر ، فيقول الله عزّ وجلّ : أنا أحق بذلك منك فتجاوزوا عن عبدي .

قال : فقال أبو مسعود الانصاري : فاشهد على رسول الله أنّه سمعه منه .

الأعمش عن أبي داود عن بريدة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " مَنْ أنظر معسراً كان له بكل يوم صدقة ثم قال بعد ذلك : " مَنْ أنظر معسراً كان له بكلّ يوم مثل الذي أنظره صدقة " قال : فقلت : يارسول الله قلت : مَنْ أنظر معسراً فله بكلّ يوم صدقة ، ثم قلت : من أنظر معسراً كان له بكلّ يوم مثل الذي أنظره صدقة .

قال : «إن قولي بكل يوم صدقة قبل الأجل ، وقولي بكل يوم مثل الذي أنظره صدقة بعد الأجل " وعن سعيد بن أبي سعيد عن أخيه عن أبيه : أن جابر بن عبد الله خرج إلى غريم له يتقاضاه فقال هاهنا ( حقّي ) ، فقالوا : لا فتنحّى فلم يلبث أن خرج مستحيياً منه فقال : ما حملك على أن تحبسني حقّي وتغيّب وجهك عنّي ؟

قال : العسرة ، قال : قال الله : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ } ، فأخرج كتابه فمحاه .

فصل في الدَّين

جعفر بن محمد عن أبيه عن عبد الله بن جعفر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنّ الله عزّ وجلّ مع الدائن حتّى يقضي دينه مالم يكن فيما يكره الله عزّ وجلّ " قال : فكان عبد الله بن جعفر يقول لخازنه : أذهب فخذ لنا بدين فإني أكره أن أبيت ليلة إلاّ والله عزّ وجلّ معي منذ سمعت هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .

عطاء بن يسّار عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مَنْ أدان ديناً وهو ينوي أن لا يؤدّيه فهو سارق " .

عثمان بن عبد الله عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه : " إنّ رجلاً أتى به النبيّ صلى الله عليه وسلم ليصلّي عليه ، فقال : " صلّوا على صاحبكم فإنّ عليه ديناً " قال أبو قتادة : فأنا أكفل به ، قال : " بالوفاء " ، قال بالوفاء فصلّى عليه وكان عليه ثمانية عشر درهماً أو سبعة عشر درهما " .

وعن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أعوذ بالله من الكفر والدين " فقال رجل : يارسول الله يعدل الدين بالكفر ؟

قال : " نعم " .

وعن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

" الدين راية الله في الأرض ، فإذا أراد أن يذلّ عبده ابتلاه بالدين وجعله في عنقه " وعن الأعرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من خطيئة أعظم عند الله بعد الكبائر من أن يموت الرجل وعليه أموال الناس ديناً في عنقه لا يوجد لها قضاء " .

يزيد بن أبي خالد عن ابن أيوب عن أنس بن مالك : إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إياكم والدين فإنّه هم بالليل ومذلّة بالنهار " .