{ ثم كلي من كل الثمرات } ، أي : بعضاً من كل ثمرة تشتهينها ، فإذا أكلتها ، { فاسلكي سبل ربك } ، أي : الطريق التي ألهمك ، وفهمك في عمل العسل ، { ذللاً } ، جمع ذلول ، وهي حال من السبل ؛ لأن الله ذللها لها ، وسهلها عليها ، أو من الضمير في : { فاسلكي } ، أي : وأتت ذلك منقادة لما أمرت به غير ممتنعة ، أو المراد فاسلكي ما أكلت في سبل ربك المذللة ، أي : في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النور المر عسلاً ، وهي أجوافك ومنافذ مأكلك ، أو أراد أنك إذا أكلت الثمار في المواضع البعيدة من بيوتك فاسلكي راجعة إلى بيوتك سبل ربك لا تتوعر عليك ولا تضلين فيها . فقد يحكى أنها ربما أجدب عليها ما حولها فتسافر إلى البلد البعيد في طلب النجعة . ويجوز أن يريد بقوله : { ثم كلي } ، اقصدي أكل الثمرات ، { فاسلكي } في طلبها من مظانها { سبل ربك } . واعلم أن ظاهر قوله : { أن اتخذي } ، { ثم كلي } ، { فاسلكي } : أمر . فمن الناس من قال لا يبعد أن يكون لهذه الحيوانات عقول يتوجه بها عليها من الله أمر ونهي ، ومنهم من أنكر ذلك وقال : المراد أنه سبحانه خلق فيها غرائز وطبائع توجب هذه الأحوال . وتمام الكلام فيه سيجيء في سورة النمل . أما حدوث العسل من النحل فالأصح عند الأطباء أن الله تعالى دبر هذا العالم على وجه يحدث في الهواء طل لطيف في الليالي ، ويقع على أوراق الأشجار ، فقد يكون كثيراً يجتمع منه أجزاء محسوسة ، وهي الترنجبين ونحوه ، وقد يكون قليلاً متفرقاً على الأوراق والأزهار ، وهو الذي ألهم الله تعالى هذا النحل فتلتقط تلك الذرّات بأفواهها ، وتأكلها وتغتذي بها ، فإذا شبعت التقطت مرة أخرى ، وذهبت بها ووضعتها في بيوتها ادخاراً لنفسها ، فإذا اجتمع في بيوتها شيء محسوس من تلك الأجزاء الطلية ، فذاك هو العسل . ولا يبعد أن يحصل لتلك الأجزاء في أفواهها نوع هضم وتغير ونضج لخاصية فيها ، فلذلك قال : { يخرج من بطونها } ، أي : من أفواهها . ومن الناس من زعم أن النحل تأكل من الأزهار الطيبة والأوراق العطرية ما شاءت ، ثم إنه تعالى يقلب تلك الأجسام في داخل بدنه عسلاً ، ثم إنه يقيء مرة أخرى ، فذلك هو العسل . قال العقلاء : والقول الأول أقرب إلى التجربة والقياس : فإن طبيعة الترنجبين قريبة من العسل في الطعم والشكل ، ولا شك أنه طل محدث في الهواء ، ويقع على أطراف الأشجار والأزهار ، فكذا العسل . وأيضاً النحل إنما تغتذي بالعسل ، ولهذا يترك منه بقية في بيوتها بعد الاشتيار . ولكن قوله تعالى : { يخرج من بطونها شراب } ، أي : ما يشرب ، يعضد القول الثاني . وقوله : { مختلف ألوانه } ، أي : منه أبيض وأصفر وأحمر وأسود ، بحسب اختلاف الأماكن ، وأمزجة النحل ، واختلاف الأزهار والأعشاب التي ترعى فيها . ثم وصفه بقوله : { فيه شفاء للناس } ؛ لأنه من جملة الأشفية والأدوية المشهورة النافعة ؛ ولذا يقع في أكثر المعاجين . وتنكير { شفاء } ؛ لتعظيم الشفاء الذي فيه ؛ أو لأن فيه بعض الشفاء ، فإن كل دواء كذلك . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً جاء إليه فقال : إن أخي يشتكي بطنه . فقال : اسقه العسل . فذهب ثم رجع فقال : قد سقيته فما نفع . فقال : اذهب فاسقه عسلاً ، فقد صدق الله وكذب بطن أخيك . فسقاه فشفاه الله فبرأ ، كأنما نشط من عقال . قال أهل المعاني : إنه صلى الله عليه وسلم كان عالماً بأنه سيظهر نفعه ، فلهذا قال : كذب بطن أخيك حين لم يظهر النفع في الحال . وعن عبد الله بن مسعود : العسل شفاء من كل داء ، والقرآن شفاء لما في الصدور ، فعليكم بالشفاءين : القرآن والعسل . واعلم أنه سبحانه ختم الآية الأولى بقوله : { لقوم يسمعون } ؛ لأن إنزال الماء من السماء وإحياء الأرض بسببه أمر مشاهد محسوس ، فمنكر ذلك فاقد الحس ، وإنما خص بالذكر حس السمع ؛ لأن لفظ القرآن المنبه على هذه الآية مسموع . وختم الآية الثانية بالعقل ؛ لأنه يحتاج إلى نوع تدبر ، فالمعرض عنه فاقد العقل دون الحس . وختم الثالثة بالتفكر ؛ لأن أمر النحل وقصتها العجيبة من انقيادها لأميرها واتخاذها البيوت على أشكال يعجز عنها الحاذق منا ، ثم تتبعها الزهر والطل ، ثم خروج ذلك من بطونها لعاباً أو قيئاً يقتضي فكرة بليغة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.