غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ فَٱسۡلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلٗاۚ يَخۡرُجُ مِنۢ بُطُونِهَا شَرَابٞ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ فِيهِ شِفَآءٞ لِّلنَّاسِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (69)

61

{ ثم كلي من كل الثمرات } ، أي : بعضاً من كل ثمرة تشتهينها ، فإذا أكلتها ، { فاسلكي سبل ربك } ، أي : الطريق التي ألهمك ، وفهمك في عمل العسل ، { ذللاً } ، جمع ذلول ، وهي حال من السبل ؛ لأن الله ذللها لها ، وسهلها عليها ، أو من الضمير في : { فاسلكي } ، أي : وأتت ذلك منقادة لما أمرت به غير ممتنعة ، أو المراد فاسلكي ما أكلت في سبل ربك المذللة ، أي : في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النور المر عسلاً ، وهي أجوافك ومنافذ مأكلك ، أو أراد أنك إذا أكلت الثمار في المواضع البعيدة من بيوتك فاسلكي راجعة إلى بيوتك سبل ربك لا تتوعر عليك ولا تضلين فيها . فقد يحكى أنها ربما أجدب عليها ما حولها فتسافر إلى البلد البعيد في طلب النجعة . ويجوز أن يريد بقوله : { ثم كلي } ، اقصدي أكل الثمرات ، { فاسلكي } في طلبها من مظانها { سبل ربك } . واعلم أن ظاهر قوله : { أن اتخذي } ، { ثم كلي } ، { فاسلكي } : أمر . فمن الناس من قال لا يبعد أن يكون لهذه الحيوانات عقول يتوجه بها عليها من الله أمر ونهي ، ومنهم من أنكر ذلك وقال : المراد أنه سبحانه خلق فيها غرائز وطبائع توجب هذه الأحوال . وتمام الكلام فيه سيجيء في سورة النمل . أما حدوث العسل من النحل فالأصح عند الأطباء أن الله تعالى دبر هذا العالم على وجه يحدث في الهواء طل لطيف في الليالي ، ويقع على أوراق الأشجار ، فقد يكون كثيراً يجتمع منه أجزاء محسوسة ، وهي الترنجبين ونحوه ، وقد يكون قليلاً متفرقاً على الأوراق والأزهار ، وهو الذي ألهم الله تعالى هذا النحل فتلتقط تلك الذرّات بأفواهها ، وتأكلها وتغتذي بها ، فإذا شبعت التقطت مرة أخرى ، وذهبت بها ووضعتها في بيوتها ادخاراً لنفسها ، فإذا اجتمع في بيوتها شيء محسوس من تلك الأجزاء الطلية ، فذاك هو العسل . ولا يبعد أن يحصل لتلك الأجزاء في أفواهها نوع هضم وتغير ونضج لخاصية فيها ، فلذلك قال : { يخرج من بطونها } ، أي : من أفواهها . ومن الناس من زعم أن النحل تأكل من الأزهار الطيبة والأوراق العطرية ما شاءت ، ثم إنه تعالى يقلب تلك الأجسام في داخل بدنه عسلاً ، ثم إنه يقيء مرة أخرى ، فذلك هو العسل . قال العقلاء : والقول الأول أقرب إلى التجربة والقياس : فإن طبيعة الترنجبين قريبة من العسل في الطعم والشكل ، ولا شك أنه طل محدث في الهواء ، ويقع على أطراف الأشجار والأزهار ، فكذا العسل . وأيضاً النحل إنما تغتذي بالعسل ، ولهذا يترك منه بقية في بيوتها بعد الاشتيار . ولكن قوله تعالى : { يخرج من بطونها شراب } ، أي : ما يشرب ، يعضد القول الثاني . وقوله : { مختلف ألوانه } ، أي : منه أبيض وأصفر وأحمر وأسود ، بحسب اختلاف الأماكن ، وأمزجة النحل ، واختلاف الأزهار والأعشاب التي ترعى فيها . ثم وصفه بقوله : { فيه شفاء للناس } ؛ لأنه من جملة الأشفية والأدوية المشهورة النافعة ؛ ولذا يقع في أكثر المعاجين . وتنكير { شفاء } ؛ لتعظيم الشفاء الذي فيه ؛ أو لأن فيه بعض الشفاء ، فإن كل دواء كذلك . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً جاء إليه فقال : إن أخي يشتكي بطنه . فقال : اسقه العسل . فذهب ثم رجع فقال : قد سقيته فما نفع . فقال : اذهب فاسقه عسلاً ، فقد صدق الله وكذب بطن أخيك . فسقاه فشفاه الله فبرأ ، كأنما نشط من عقال . قال أهل المعاني : إنه صلى الله عليه وسلم كان عالماً بأنه سيظهر نفعه ، فلهذا قال : كذب بطن أخيك حين لم يظهر النفع في الحال . وعن عبد الله بن مسعود : العسل شفاء من كل داء ، والقرآن شفاء لما في الصدور ، فعليكم بالشفاءين : القرآن والعسل . واعلم أنه سبحانه ختم الآية الأولى بقوله : { لقوم يسمعون } ؛ لأن إنزال الماء من السماء وإحياء الأرض بسببه أمر مشاهد محسوس ، فمنكر ذلك فاقد الحس ، وإنما خص بالذكر حس السمع ؛ لأن لفظ القرآن المنبه على هذه الآية مسموع . وختم الآية الثانية بالعقل ؛ لأنه يحتاج إلى نوع تدبر ، فالمعرض عنه فاقد العقل دون الحس . وختم الثالثة بالتفكر ؛ لأن أمر النحل وقصتها العجيبة من انقيادها لأميرها واتخاذها البيوت على أشكال يعجز عنها الحاذق منا ، ثم تتبعها الزهر والطل ، ثم خروج ذلك من بطونها لعاباً أو قيئاً يقتضي فكرة بليغة .

/خ70