غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{سُبۡحَٰنَ ٱلَّذِيٓ أَسۡرَىٰ بِعَبۡدِهِۦ لَيۡلٗا مِّنَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ إِلَى ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡأَقۡصَا ٱلَّذِي بَٰرَكۡنَا حَوۡلَهُۥ لِنُرِيَهُۥ مِنۡ ءَايَٰتِنَآۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡبَصِيرُ} (1)

مقدمة السورة:

بسم الله الرحمن الرحيم .

الجزء الخامس عشر من أجزاء القرآن . ( سورة بني اسرائيل مكية ، إلا قوله : " وإن كادوا ليفتنونك " ، إلى قوله : " وقل جاء الحق " . حروفها : ستة آلاف وأربعة مائة وستون . كلمها : ألف وخمسمائة وثلاثة وستون . آياتها مائة وإحدى عشر ) .

1

التفسير : لما عزم على نبيه في خواتيم النحل جوامع مكارم الأخلاق حكى طرفاً مما خصه به من المعجزات فقال : { سبحان الذي } وهو اسم علم للتسبيح وقد مر إعرابه في قوله : { سبحانك لا علم لنا إلاَّ ما علمتنا } [ البقرة : 32 ] والمراد تنزيه الله من كل ما لا يليق بجلاله { وأسرى } وسرى لغتان . يروى أنه لما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المراتب العلية في معراجه في معراجه أوحى الله إليه يا محمد : بم أشرِّفك ؟ فقال : يا رب تنسبني إلى نفسك بالعبودية . فأنزل فيه : { سبحان الذي أسرى بعبده } وقوله : { ليلاً } نصب على الظرف وفيه تأكيد الإسراء ، وفي تنكيره تقليل مدة الإسراء لأن التنكير فيه معنى البعضية ، أخبر أنه أسرى به في بعض الليل { من المسجد الحرام } عن النبي صلى الله عليه وسلم : بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل بالبراق . وقيل : المراد بالمسجد الحرام الحرم لإحاطته بالمسجد والتباسه به . وعن ابن عباس : الحرم كله مسجد وإلى هذا القول ذهب الأكثرون . قالوا : إنه أسرى به من دار أم هانيء بنت أبي طالب قبل الهجرة بسنة . وعن أنس والحسن أنه كان قبل البعثة .

{ إلى المسجد الأقصى } هو بيت المقدس بالإتفاق سمي بالأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام ولم يكن حينئذ وراءه مسجد . { الذي باركنا حوله } يريد بركات الدين والدنيا لأنه متعبد الأنبياء من وقت موسى عليه السلام ، ومهبط الوحي وهو محفوف بالأنهار الجارية والأشجار المثمرة . وقوله : { أسرى } مع قوله : { باركنا } سلوك لطريقة الالتفات { لنريه من آياتنا } بيان لحكمة الإسراء .

سؤال : أرى إبراهيم عليه السلام ملكوت السموات والأرض ، وأرى محمداً صلى الله عليه وسلم بعض آياته فيلزم أن يكون معراج إبراهيم أفضل ؟

الجواب : لعل بعض الآيات المضافة إلى الله تعالى أشرف وأجل من ملكوت السموات والأرض كلها ولهذا ختم الآية بقوله : { إنه هو السميع } لأقوال محمد { البصير } بأفعاله المهذبة الخالصة فيكرمه على حسب ذلك .

واعلم أن الأكثرين من علماء الإسلام اتفقوا على أنه أسري بجسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والأقلون على أنه ما أسرى إلا بروحه . حكى محمد بن جرير الطبريّ في تفسيره عن حذيفة أنه قال : كان ذلك رؤيا وأنه ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه عرج بروحه . وحكى هذا القول عن عائشة أيضاً . وقد احتج بعض العقلاء على هذا القول بوجوه منها : أن الحركة الجسمانية البالغة في السرعة إلى هذا الحد غير معقولة : ومنها أن صعوده إلى السموات يوجب انخراق الفلك . ومنها أنه لو صح ذلك لكان من أعظم معجزاته فوجب أن يكون بمحضر من الجم الغفير حتى يستدلوا بذلك على صدقه ، وما الفائدة في إسرائه ليلاً على حين غفلة من الناس . ومنها أن الإنسان عبارة عن الروح وحده لأنه باقٍ من أول عمره إلى آخره ، والأجزاء البدنية في التغير والانتقال والباقي مغاير للمتغير ، ولأن الإنسان يدرك ذاته حين ما يكون غافلاً عن جميع جوارحه وأعضائه . ومنها قوله سبحانه .

{ وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلاَّ فتنة للناس } [ الإسراء : 60 ] وما تلك الرؤيا إلاَّ حديث المعراج . وإنما كانت فتنة للناس لأن كثيراً ممن آمن به حين سمعها ارتد وكفر به . ومنها أن حديث المعراج الجسماني اشتمل على أشياء بعيدة عن العقل كشق بطنه وتطهيره بماء زمزم وركوب البراق وإيجاب خمسين صلاة ، فإن ذلك يقتضي نسخ الحكم قبل حضور وقته ، وأنه يوجب البداء .

أجاب الأكثرون عن الأول بأنه حركة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى فوق الفلك الأعظم لم يكن إلاّ نصف قطر الفلك ، ونسبة نصف القطر إلى نصف الدور نسبة الواحد إلى ثلاثة أمثال وسبع هي نصف حركة الفلك في يوم بليلته ، وإذا كان الأكثر واقعاً فالأقل بالإمكان أولى ، ولو كان القول بمعراج محمد صلى الله عليه وسلم في ليلة واحدة ممتنعاً لكان القول بنزول جبريل من العرش إلى مكة في لحظة واحدة ممتنعاً ، لأن الملائكة أيضاً أجسام عند جمهور المسلمين ، وكذا القول في حركات الجن والشياطين وقد سخر الله تعالى لسليمان الريح غدوّها شهر ورواحها شهر ، وقد { قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك }

[ النمل : 40 ] . وكان عرش بلقيس في أقصى اليمن وسليمان في الشام . وعلى قول من يقول إن الإبصار بخروج الشعاع فإنما ينتقل شعاع العين من البصر إلى الكواكب الثابتة في آن واحد ، فيثبت أن المعراج أمر ممكن في نفسه . أقصى ما في الباب الاستبعاد وخرق العادة ولكنه ليس مخصوصاً بهذه الصورة وإنما ذلك أمر حاصل في جميع المعجزات . وعن الثاني أن انخراق الأفلاك عند حكماء الإسلام جائز . وعن الثالث أن فائدة الإسراء قد عادت إليه حيث شاهد العالم العلوي والعرش والكرسي وما فيها وعليها فحصل في قلبه زيادة قوة وطمأنينة ، بها انقطعت تعلقاته عن الكونين ولم يبق مشغول القلب بشيء من أمور الدنيا والآخرة . وعن الرابع أن العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد . وعن الخامس أن تلك الرؤيا هي غير حكاية المعراج كما سيجيء في تفسيره ، ولو سلم أنها هي المعراج فالرؤيا بمعنى الرؤية . وعن السادس أنه لا اعتراض على الله تعالى في شيء من أفعاله وأنه على كل شيء قدير . واعلم أنه ليس في الآية دلالة على العروج من بيت المقدس إلى السموات وإلى ما فوق العرش إلاَّ أنه ورد الحديث به ، ومنهم من استدل على ذلك بأول سورة النجم أو بقوله { لتركبن طبقاً عن طبق } [ الانشقاق :19 ] وتفسيرهما مذكور في موضعه .

يروى أنه صلى الله عليه وسلم نائماً في بيت أم هانىء بعد صلاة العشاء فأسري به ورجع من ليلته وقص القصة على أم هانىء وقال : مثل لي النبيون وصليت بهم . وقام ليخرج إلى المسجد فتشبثت أم هانىء بثوبه فقال : مالك ؟ قالت : أخشى أن يكذبك قومك إن أخبرتهم قال : وإن كذبوني . فخرج فجلس إليه أبو جهل فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث الإسراء به وأنه أسري به من مكة إلى بيت المقدس ومنه عرج إلى السماء ورأى ما فيها من العجائب ولقي الأنبياء وبلغ البيت المعمور وسدرة المنتهى . فقال أبو جهل : يا معشر بني كعب بن لؤي هلم فحدثهم ، فمن بين مصفقٍ وواضع يده على رأسه تعجباً وإنكاراً ، وارتد ناس ممن كان آمن به . وسعى رجال إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال : إن كان قال ذلك لفد صدق . قالوا : أتصدقه على ذلك ؟ قال : إني لأصدقه على أبعد من ذلك فسمي الصديق . وكان فيهم من سافر إلى الشام فاستنعتوه المسجد فجلى له صلى الله عليه وسلم بيت المقدس فطفق ينظر إليه وينعته لهم فقالوا : أما النعت فقد أصاب . فقالوا : أخبرنا عن عيرنا فأخبرهم بعدد جمالهم وأحوالها وقال : تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق ، فخرجوا يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية فقال قائل منهم : هذه والله الشمس قد شرقت ، وقال آخر : وهذه والله العير قد أقبلت يقدمها جمل أورق كما قال محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم لم يؤمنوا وقالوا : ما هذا إلاَّ سحر مبين .

/خ21