غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{فِيهِ ءَايَٰتُۢ بَيِّنَٰتٞ مَّقَامُ إِبۡرَٰهِيمَۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنٗاۗ وَلِلَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلۡبَيۡتِ مَنِ ٱسۡتَطَاعَ إِلَيۡهِ سَبِيلٗاۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلۡعَٰلَمِينَ} (97)

92

{ فيه آيات بينات } يحتمل أن يراد بها ما عددنا من بعض فضائله ، ويكون قوله : { مقام إبراهيم } غير متعلق بما قبله ، فكأنه قيل فيه آيات بينات ومع ذلك فهو مقام إبراهيم وموضعه الذي اختاره وعبد الله فيه . وقال الأكثرون إن الآيات بيانه وتفسيره قوله : { مقام إبراهيم } إما بأن يجعل وحده بمنزلة آيات كثيرة لأنه معجز رسول وكل معجز ففيه دليل أيضاً على علم الصانع وقدرته وإرادته وحياته وتعاليه عن مشابهة المحدثات ، فلقوه هذا الدليل عبر عنه بلفظ الجمع كقوله :{ إن إبراهيم كان أمة }[ النحل :120 ] وإما بأن يجعل المقام مشتملاً على آيات لأن أثر القدم في الصخرة الصماء آية ، وغوصه فيها إلى الكعبين آية ، وإلانة بعض الصخرة دون بعض آية وإبقاء هذا الأثر دون آثار سائر الأنبياء آية لإبراهيم خاصة ، وحفظة مع كثرة أعدائه من المشركين وأهل الكتاب والملاحدة ألوفاً من السنين آية . قال الزجاج : قوله : { ومن دخله كان آمناً } من تتمة تفسير الآيات . وهذه الجملة وإن كانت من مبتدأ وخبر أو من شرط وجزاء إلا أنها في تقدير مفرد من حيث المعنى . فكأنه قيل : فيه آيات بينات وأمن من دخله كما لو قلت : فيه آية بينة من دخله كان آمناً كان معناه فيه آية بينة أمن من دخله . وهذا التفسير بعد تصحيحه مبني على أن الاثنين جمع كما قال صلى الله عليه وسلم : " الاثنان فما فوقهما جماعة " وفي القرآن { هذان خصمان اختصموا }[ الحج :19 ] وقيل : ذكر آيتان وطوى ذكر غيرهما . دلالة على تكاثر الآيات كأنه قيل : فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله وكثير سواهما . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " حبب إليّ من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة " ومنهم من تمم الثلاثة فقال : مقام إبراهيم وأمن من دخله وإن لله على الناس حجه . وقال المبرد : مقام مصدر فلم يجمع والمراد مقامات إبراهيم هي ما أقامه من المناسك ، فالمراد بالآيات شعائر الحج . وقرأ ابن عباس وأبي ومجاهد وأبو جعفر المدني في رواية قتيبة { آية بينة } على التوحيد قاله في الكشاف . وفيه توكيد لكون مقام إبراهيم وحده بياناً . وأما حديث " أمن من دخله " فقد مر اختلاف العلماء فيه في سورة البقرة في قوله :{ وإذا جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً }[ البقرة :125 ] وقيل : كان آمناً من النار لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : " من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمناً " وعنه صلى الله عليه وسلم : " الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما وينثران في الجنة " وهما مقبرتا مكة والمدينة . وعن ابن مسعود : وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثنية الحجون وليس بها يومئذٍ مقبرة فقال : " يبعث الله من هذه البقعة ومن هذا الحرم كله سبعين ألفاً وجوههم كالقمر ليلة البدر يدخلون الجنة بغير حساب يشفع كل واحد منهم في سبعين ألفاً وجوههم كالقمر ليلة البدر " وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " من صبر على حر مكة ساعة من نهار تباعدت منه جهنم مسيرة مائتي عام " . { ولله على الناس حج البيت } لما ذكر فضائل البيت أردفه بإيجاب الحج وفيه لغتان : الفتح لغة الحجاز ، والكسر لغة نجد ، وكلاهما مصدر كالمدح والذم والذكر والعلم . وقيل : المكسور اسم للعمل ، والمفتوح مصدر . ومحل { من استطاع } خفض على البدل { من الناس } والمعنى : ولله على من استطاع من الناس حج البيت ، وقال الفراء : يجوز أن ينوي الاستئناف بمن والخبر ، أو الجزاء محذوف لدلالة ما قبله عليه والتقدير : من استطاع إليه سبيلاً فللَّه عليه حج البيت . وقال ابن الأنباري : يحتمل أن يكون محله رفعاً على البيان كأنه قيل : من الناس الذين عليهم لله حج البيت ؟ فقيل :هم من استطاع . والضمير في { إليه } للبيت أو الحج . واستطاعة السبيل إلى الشيء هي إمكان الوصول إليه واحتج أصحاب الشافعي بالآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع لأن الناس يعم المؤمن والكفار وعدم الإيمان لا يصلح أن يكون معارضاً ومخصصاً لهذا العموم لأن الدهري مكلف بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم مع أن شرط صحة الإيمان بمحمد غير حاصل ، والمحدث مكلف بالصلاة مع أن الوضوء الذي هو شرط صحة الصلاة ليس بحاصل . واحتج جمهور المعتزلة بالآية على أن الاستطاعة قبل الفعل لأنها لو كانت مع الفعل لكان من لم يحج لم يكن مستطيعاً للحج فلا يتناوله التكليف المذكور وذلك باطل بالاتفاق . أجاب الأشاعرة بأن هذا أيضاً لازم عليكم لأن القادر إما أن يكون مأموراً بالفعل قبل حصول الداعي إلى الفعل وهو محال لأنه تكليف بما لا يطاق ، أو بعد حصوله وحينئذٍ يكون الفعل واجب الحصول فلا يكون في التكليف به فائدة . وإذا كانت الاستطاعة منتفية في الحالين وجب أن لا يتوجه التكليف .

والحق أن وجوب الفعل بالقدرة والإرادة لا ينافي توجيه التكليف إليه .

واعلم أن الحج لا يجب بأصل الشرع في العمر إلا مرة واحدة لما روي عن ابن عباس قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج . فقام الأقرع بن حابس فقال : أفي كل عام يا رسول الله ؟ فقال : لو قلتها لوجبت ولو وجبت لم تعملوا بها . الحج مرة فمن زاد فتطوع " وقد يجب أكثر من مرة واحدة لعارض كالنذور والقضاء . ولصحة الحج على الإطلاق شرط واحد وهو الإسلام ، فلا يصح حج الكافر كصومه وصلاته . ولا يشترط فيه التكليف بل يجوز للولي أن يحرم عن المجنون وعن الصبي الذي لا يميز وحينئذٍ يصح حجمها لما روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بامرأة وهي في محفتها ، فأخذت بعضد صبي كان معها فقالت : ألهذا حج ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نعم ولك أجر " . وعن جابر قال : حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ومعنا النساء والصبيان فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم . ولصحة المباشرة شرط زائد على الإسلام وهو التمييز . فلا تصح مباشرة الحج من المجنون والصبي الذي لا يميز كسائر العبادات ، ويصح من الصبي المميز أن يحرم ويحج بإذن الولي ، ولا يشترط فيها الحرية كسائر العبادات ، ولوقوعه عن حجة الإسلام شرطان زائدان : البلوغ والحرية لقوله صلى الله عليه وسلم : " أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة الإسلام ، وأيما عبد حج ثم عتق فعليه حجة الإسلام " والمعنى فيه أن الحج عبادة عمر لا تتكرر فاعتبر وقوعها في حالة الكمال ، ولأن التكليف تابع للتمييز فشرط هذا الحكم إذن يعود إلى ثلاثة : الإسلام والتكليف والحرية . ولو تكلف الفقير الحج وقع حجه عن الفرض كما لو تحمل الغني خطر الطريق وحج ، وكما لو تحمل المريض المشقة وحضر الجمعة . ولوجوب حجة الإسلام شرط زائد على الثلاثة المذكورة آنفاً وهو الاستطاعة بالآية . والاستطاعة نوعان : استطاعة مباشرته بنفسه واستطاعة تحصيله بغيره . النوع الأول يتعلق به أمور أربعة : أحدها الراحلة ، والناس قسمان : أحدهما من بينه وبين مكة مسافة القصر فلا يلزمه الحج إلا إذا وجد راحلة سواء كان قادراً على المشي أو لم يكن لما روي أنه صلى الله عليه وسلم فسر استطاعة السبيل إلى الحج بوجود الزاد والراحلة . نعم لو كان قادراً على المشي يستحب له أن لا يترك الحج .

وعند مالك القوي على المشي يلزمه الحج . ويعتبر مع وجدان الراحلة وجدان المحمل أيضاً إن كان لا يستمسك على الراحلة ويلحقه مشقة شديدة . ثم العادة جارية بركوب اثنين في المحمل . فإن وجد مؤنة محمل أو شق محمل ووجد شريكاً يجلس في الجانب الآخر لزمه الحج ، وإن لم يجد الشريك فلا . القسم الثاني من ليس بينه وبين مكة مسافة القصر . فإن كان قوياً على المشي لزمه الحج وإلا فلا يجب إلا مع الراحلة أو معها ومع المحمل كما في حق البعيد . والمراد بوجود الراحلة أن يقدر على تحصيلها ملكاً أو استئجاراً بثمن المثل أو بأجرة المثل وكذا في المحمل . المتعلق الثاني : الزاد وأوعيته وما يحتاج إليه في السفر مدة ذهابه وإيابه سواء كان له أهل أو عشيرة يرجع إليهم أو لا فحب الوطن من الإيمان . وكذا الراحلة للإياب وأجره البذرقة . كل ذلك بعد قضاء جميع الديون ورد الودائع ونفقة من يلزمه نفقتهم حينئذٍ إلى العود ، وبعد مؤن النكاح إن خاف العنت ، وبعد مسكنه ودست ثوب يليق به وخادم يحتاج إليه لزمانته أو لمنصبه . ولو كان له رأس مال يتجر فيه وينفق من ربحه ولو نقص لبطلت تجارته ، أو كان له مستغلات يرتفق منها نفقته ، فالأصح عند الأئمة أنه يكلف بيعها لأن واحد للزاد والراحلة في الحال ولا عبرة لخوف الفقر في الاستقبال .

المتعلق الثالث : الطريق ويشترط فيه غلبة ظن الأمن على النفس من نحو سبع وعدو ، والأمن على المال من عدو أو رصديّ وإن رضي بشيء يسير ، والأمن على البضع للمرأة بخروج زوج أو محرم أو نسوة ثقات . وفي البحر يعتبر غلبة السلامة وفي البر وجود علف الدابة .

المتعلق الرابع : البدن ويشترط فيه أن يقوى على الاستمساك على الراحلة ، فإن ضعف عن ذلك لمرض أو غيره فهو غير مستطيع للمباشرة . ولا بد للأعمى من قائد ، وعند أبي حنيفة لا حج عليه . ويروى أنه يستنيب قال الأئمة : لا بد مع الشرائط من إمكان المسير وهو أن يبقى من الزمان بعد الاستطاعة ما يمكنه المسير فيه إلى الحج به السير المعهود ، فإن احتاج إلى أن يقطع في يوم مرحلتين أو أكثر لم يلزمه الحج . ولو خرجت الرفقة قبل الوقت الذي جرت عادة أهل بلده بالخروج فيه لم يلزمه الخروج معهم . ووجوب الحج في العمر كالصلاة في وقتها ، فيجوز التراخي لكنه أن دامت الاستطاعة وتحقق الإمكان ولم يحج حتى مات عصى على الأظهر وإن كان شاباً . وقال أحمد ومالك وأبو حنيفة في رواية : إنه على الفور . حجة الشافعي أن فريضة الحج نزلت سنة خمس من الهجرة وأخره النبي صلى الله عليه وسلم من غير مانع فإنه خرج إلى مكة سنة سبع لقضاء العمرة ولم يحج وفتح مكة سنة ثمان ، وبعث أبا بكر أميراً على الحاج سنة تسع وحج هو سنة عشر وعاش بعدها ثمانين يوماً .

وأما النوع الثاني فهو استطاعة الاستنابة فإنها جائزة في الحج وإن كانت العبادات بعيدة عن الاستنابة ، لأن المحجوج عنه قد يكون عاجزاً عن المباشرة بسبب الموت أو الكبر أو زمانة أو مرض لا يرجى زواله . وعن ابن عباس أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " يا رسول الله ، إن أختي نذرت أن تحج وماتت قبل أن تحج ، أفأحج عنها ؟ فقال : لو كان على أختك دين أكنت قاضيه ؟ قال : نعم . قال : فاقضوا حق الله تعالى فهو أحق بالقضاء " وعنه أن امرأة من خثعم قالت : يا رسول الله إن فريضة الله تعالى على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة أفأحج عنه ؟ قال :نعم . وقد تكون الاستنابة بطريق الاستئجار لأنه عمل يدخله النيابة فيجري فيه الاستئجار كتفريق الزكاة . وعند أبي حنيفة وأحمد لا يجوز ولكن يرزق عليه . ولو استأجر كان ثواب النفقة للآمر وسقط عنه الخطاب بالحج ويقع الحج عن الحاج . والحج بالرزق أن يقول : حج عني وأعطيك نفقتك . وهذا أيضاً جائز عند الشافعي كالإجارة . ولكن لا يجوز أن يقول استأجرتك بالنفقة لأنها مجهولة . والأجر لا بد أن تكون معلومة . فهذا جملة الكلام في الاستطاعة عند الجمهور . وعن الضحاك : إذا قدر أن يؤجر نفسه فهو مستطيع ، وقيل له في ذلك فقال : إن كان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه بل كان ينطلق إليه ولو حبواً ، فكذلك يجب عليه الحج . وفي الآية أنواع من التوكيد والتغليظ منها قوله : { ولله على الناس حج البيت } أي حق واجب له عليهم لكونه إلهاً فيجب عليهم الانقياد سواء عرفوا وجه الحكمة فيها أم لم يعرفوا فإن كثيراً من أعمال الحج تعبد محض . ومنها بناء الكلام على الأبدال ليكون تثنية للمراد وتفصيلاً بعد الإجمال وإيراد للغرض في صورتين تقريراً له في الأذهان . ومنه ذكر من كفر مكان من لم يحج وفيه من التغليظ ما فيه ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً " ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم : " من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر " ومنها إظهار الغنى وتهويل الخطب بذكر اسم الله دون أن يقول : " فإنه " أو " فإني " فإنه يدل على غاية السخط والخذلان . ومنه وضع المظهر مقام المضمر حيث قال : { عن العالمين } . ولم يقل " عنه " لأنه تعالى إذا كان غنياً عن كل العالمين فلأن يكون غنياً عن طاعة ذلك الواحد أولى . ومن العلماء من زعم أن هذا الوعيد عام في حق كل من كفر ولا تعلق له بما قبله ، ومنهم من حمله على اعتقاد عدم وجوب الحج ويؤكده ما روي عن سعيد بن المسيب إنها نزلت في اليهود قالوا : إن الحج إلى مكة غير واجب .

وعن الضحاك : لما نزلت آية الحج جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الأديان الستة . المسلمين واليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين - فخطبهم وقال : إن الله تعالى كتب عليكم الحج فحجوا . فآمن به المسلمون وكفرت به الملل الخمس وقالوا : لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نحجه . فنزلت { ومن كفر } . ومن الأحاديث الواردة في تأكيد أمر الحج قوله صلى الله عليه وسلم : " حجوا قبل أن لا تحجوا فإنه قد هدم البيت مرتين ويرفع في الثالثة " وروي " حجوا قبل أن لا تحجوا حجوا قبل أن يمنع البر جانبه " أي يتعذر عليكم الذهاب إلى مكة من جانب البر لعدم الأمن أو غيره . وعن ابن مسعود : حجوا هذا البيت قبل أن تنبت في البادية شجرة لا تأكل منها دابة إلا نفقت أي هلكت . وعن عمر : لو ترك الناس الحج عاماً واحداً ما نوظروا أي عجل عقوبتهم ويستأصلون .

/خ101