غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تُقۡسِطُواْ فِي ٱلۡيَتَٰمَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تَعۡدِلُواْ فَوَٰحِدَةً أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَعُولُواْ} (3)

1

{ وإن خفتم ألا تقسطوا } أقسط الرجل عدل وقسط جار . وقال الزجاج : أصلهما جميعاً من القسط وهو النصيب . فإذا قالوا قسط فمعناه ظلم صاحبه في قسطه من قولهم : قاسطته فقسطته أي غلبته على قسطه . وإذا قالوا أقسط بالهمز فمعناه صار ذا قسط مثل أنصف إذا أتى بالنصف فيلزمه العدالة والتسوية . واعلم أن قوله : { وإن خفتم } شرط وقوله : { فانكحوا } جواب له . ولا بد من بيان أن هذا الجزاء كيف يتعلق بهذا الشرط وللمفسرين فيه وجوه : الأول ما روي عن عروة أنه قال : قلت لعائشة : ما معنى قول الله تعالى : { وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى } فقالت : يا ابن أختي هي اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب الرجل في مالها وجمالها إلا أنه يريد أن ينكحها بأدنى من صداقها . ثم إذا تزوج بها عاملها معاملة ردية لعلمه بأنه ليس لها من يذب عنها ويدفع شر ذلك الزوج عنها . فقال تعالى وإن خفتم أن تظلموا اليتامى عند نكاحهن فانكحوا غيرهن ما طاب لكم من العدد . قالت عائشة : ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فيهن فأنزل الله تعالى { يستفتونك في النساء }[ النساء :127 ] الآية . فقوله فيها :{ وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء }[ النساء :127 ] المراد منه هذه الآية وهي قوله : { وإن خفتم أن لا تقسطوا } . وعبر في الكشاف عن هذه الرواية بعبارة أخرى وهي : كان الرجل يجد اليتيمة لها مال وجمال أو يكون وليها فيتزوجها ضناً بها عن غيره ، فربما اجتمعت عنده عشر منهن فيخاف لضعفهن وفقد من يغضب لهن أن يظلمهن حقوقهن ويفرط فيما يجب لهن فقيل لهم : إن خفتم أن لا تقسطوا في يتامى النساء فانكحوا من غيرهن { ما طاب لكم } . الثاني وهو قول سعيد بن جبير وقتادة والربيع والضحاك والسدي منقولاً عن ابن عباس : لما نزلت الآية المتقدمة وما في أكل أموال اليتامى من الحوب الكبير ، خاف الأولياء لحوق الحوب فتحرجوا من ولاية اليتامى . وكان الرجل منهم ربما كانت تحته العشر من الأزواج وأكثر فلا يقوم بحقوقهن ولا يعدل بينهم فقيل لهم : إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فكونوا خائفين من ترك العدل بين النساء لأنهن كاليتامى في العجز والضعف ، فقللوا عدد المنكوحات لأن من تحرج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب مثله فكأنه غير متحرج . الثالث : كانوا لا يتحرجون من الزنا ويتحرجون من ولاية اليتامى فقيل : إن خفتم ذلك فكونوا خائفين من الزنا أيضاً وانكحوا ما حل لكم من النساء .

الرابع روي عن عكرمة كان الرجل عنده النسوة ويكون عنده الأيتام فإذا أنفق مال نفسه على النسوة أخذ في إنفاق أموال اليتامى عليهن . فقيل : إن خفتم أن تظلموا اليتامى بأكل أموالهم عند كثرة الزوجات فقد حظرت لكم أن تنكحوا أكثر من أربع ليزول هذا الخوف ، فإن خفتم في الأربع أيضاً فواحدة ، فذكر الطرف الزائد وهو الأربع والناقص وهو الواحدة ، ونبه بذلك على ما بينهما فكأنه قيل : إن خفتم الأربع فثلاثاً وإن خفتم فاثنتين وإن خفتم فواحدة . قال الظاهريون : النكاح واجب لقوله : { فانكحوا } وظاهر الأمر للوجوب . وعورض بقوله تعالى :{ ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم }

[ النساء :25 ] ولو سلم فالوجوب بحالة الخوف فلا يلزم منه الوجوب على الإطلاق وأيضاً الآية سيقت لبيان وجوب تقليل الأزواج لا لأصل الوجوب وإنما قال : { ما طاب } ولم يقل من طاب لأنه أراد به الجنس . تقول : ما عندك ؟ فيقال : رجل أو امرأة . تريد ما ذلك الشيء الذي عندك أو ما تلك الحقيقة . ولأن الإناث من العقلاء تنزل منزلة غير العقلاء ومنه قوله تعالى : { أو ما ملكت أيمانكم } ولأن " ما " و " من " يتعاقبان . قال تعالى { والسماء وما بناها }[ الشمس :5 ]{ فمنهم من يمشي على بطنه }{ النور :45 ] . قال المفسرون : معنى { ما طاب لكم } أي ما حل لكم من النساء لأن فيهن من يحرم نكاحها كما سيجيء . واعترض عليه الإمام بأن قوله : { فانكحوا } أمر إباحة فيؤل المعنى إلى قوله : أبحت لكم نكاح من هي مباحة لكم وهذا كلام مستدرك سلمناه ، لكن الآية تصير مجملة لأن أسباب الحل والإباحة غير مذكورة في هذه الآية . وإذا حملنا الطيب عن استطابة النفس وميل القلب كانت الآية عامة دخلها التخصيص وأنه أولى من الإجمال عند التعارض لأن العام المخصوص حجة في غير محل التخصيص ، والمجمل لا يكون حجة أصلاً ، والجواب عن الأول أن ذكر الشيء ضمناً ثم صريحاً لا يعد تكراراً بدليل قوله :{ كلوا من طيبات ما رزقناكم }[ البقرة :57 ] وعن الثاني أن قوله : { ما طاب لكم } بمعنى ما حل لكم إذا كان إشارة إلى ما بقي بعد ما أخرجته آية التحريم فلا إجمال . وأما قوله : { مثنى وثلاث ورباع } ولم يوجد في كلام الفصحاء إلا هذه ، وأحاد وموحد وجوّزوا إلى عشار ومعشر قياساً على قول الكميت :

ولم يستر يثوك حتى رميت *** فوق الرجال خصالاً عشارا

فاتفق النحويون على أن فيها عدلاً محققاً . وذلك أن فائدتها تقسيم أمر ذي أجزاء على عدد معين ، ولفظ المقسوم عليه في غير العدد مكرر على الإطراد في كلام العرب نحو : قرأت الكتاب جزءاً جزءاً ، وجاءني القوم رجلاً رجلاً وجماعة جماعة . وكان القياس في باب العدد أيضاً التكرير عملاً بالاستقراء وإلحاقاً للفرد المتنازع فيه بالأعم الأغلب ، فلما وجد ثلاث مثلاً غير مكرر لفظاً حكم بأن أصله لفظ مكرر وليس إلا ثلاثة ثلاثة .

فعند سيبويه منع صرف مثل هذا للعدل والوصف الأصلي ، فإن هذا التركيب لم يستعمل إلا وصفاً بخلاف المعدول عنه . وقيل : إن فيه عدلاً مكرراً من حيث اللفظ لأن أصله كان ثلاثة ثلاثة مرتين فعدل إلى واحد ثم إلى لفظ ثلاث أو مثلث . وقيل : إن فيه العدل والتعريف إذ لا يدخله اللام خلافاً لما في الكشاف . وإذا جرى على النكرة فمحمول على البدل ، وضعف بعدم جريانه على المعارف ولوقوعه حالاً . فمعنى الآية فانكحوا الطيبات لكم معدودات هذا العدد ثنتين ثنتين وثلاثاً ثلاثاً وأربعاً أربعاً ، فإن خفتم أن لا تعدلوا بين هذه الأعداد فواحدة . فمن قرأ بالنصب أراد : فاختاروا أو انكحوا أو ألزموا واحدة ، ومن قرأ بالرفع أراد : فكفت واحدة أو فحسبكم واحدة وذروا الجمع رأساً فإن الأمر كله يدور مع العدل فأينما وجدتموه فعليكم به . ثم قال : { أو ما ملكت أيمانكم } فسوّى في السهولة بين الحرة الواحدة وبين ما شاء من الإماء لأنهن أقل تبعة وأخف مؤنة من المهائر لا على المرء أكثر منهن أو أقل ، عدل بينهن في القسم أم لم يعدل ، عزل عنهن أم لم يعزل ، ولما كانت التسوية بينها وبينهن احتج بها الشافعي في بيان أن نوافل العبادات أفضل من النكاح وذلك للإجماع على أن الاشتغال بالنوافل أفضل من التسري ، فوجب أن يكون أفضل من النكاح لأن الزائد على أحد المتساويين يكون زائداً على المساوي الآخر ، ولمانع أن يمنع التسوية فإن قول الطبيب مثلاً للمريض : كل التفاح أو الرمان يحتمل أن يكون للتسوية بينهما وقد يكون للمقاربة أي إن لم تجد التفاح فكل الرمان فإنه قريب منه في دفع الحاجة للضرورة ، ومع وجود هذا الاحتمال لا يتم الاستدلال على أن فضل الحرة على الأمة معلوم شرعاً وعقلاً . وههنا مسألتان : الأولى أكثر الفقهاء على أن نكاح الأربع مشروع للأحرار دون العبيد ، لأن هذا الخطاب إنما يتناول إنساناً متى طابت له امرأة قدر على نكاحها والعبد ليس كذلك لأنه لا يمكن من النكاح إلا بإذن مولاه . وأيضاً إنه قال بعد ذلك { فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم } وهذا لا يكون إلا للأحرار ، فكذا الخطاب الأوّل لأن هذه الخطابات وردت متتالية على نسق واحد فيبعد أن يدخل التقييد في اللاحق دون السابق . وكذا قوله : { فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً } والعبد لا يأكل فيكون لسيده . وقال مالك : يحل للعبد أن يتزوج بالأربع تمسكاً بظاهر الآية . ومن الفقهاء من سلم أن ظاهر الآية يتناول العبيد إلا أنهم خصصوا هذا العموم بالقياس .

قالوا : أجمعنا على أن الرق له تأثير في نقصان حقوق النكاح كالطلاق والعدة ، ولما كان العدد من حقوق النكاح وجب أن يحصل للعبد نصف ما للحر . الثانية ذهب جماعة إلى أنه يجوز التزوج بأي عدد أريد لأن قوله : { فانكحوا ما طاب لكم من النساء } إطلاق في جميع الأعداد لصحة استثناء كل عدد منه ، وقوله : { مثنى وثلاث ورباع } لا يصلح مخصصاً لذلك العموم لأن تخصيص بعض الأعداد بالذكر لا ينافي ثبوت الحكم في الباقي ، بل نقول : ذكرها يدل على نفي الحرج والحجر مطلقاً . فإن من قال لولده افعل ما شئت اذهب إلى السوق وإلى المدرسة وإلى البستان كان تصريحاً في أن زمام الاختيار بيده ولا يكون تخصيصاً . وأيضا ذكر جميع الأعداد متعذر ، فذكر بعضها تنبيه على حصول الإذن في جميعها . ولئن سلمنا لكن الواو للجمع المطلق فيفيد الإذن في جمع تسعة بل ثمانية عشر لتضعيف كل منها . وأما السنة فلما ثبت بالتواتر أنه صلى الله عليه وسلم مات عن تسع وقد أمرنا بإتباعه في قوله :{ فاتبعوه }[ الأنعام :153 ] وأقل مراتب الأمر الإباحة ، وقد قال صلى الله عليه وسلم " فمن رغب عن سنتي فليس مني " والمعتمد عند الجمهور في جوابهم أمران : أحدهما الخبر كنحو ما روي أن نوفل بن معاوية أسلم وتحته خمس نسوة فقال صلى الله عليه وسلم : " أمسك أربعاً وفارق واحدة " . وزيف بأن القرآن دل على عدم الحصر ، ونسخ القرآن بخبر الواحد غير جائز ، وبأن الأمر بمفارقة الزائدة قد يكون لمانع النسب أو الرضاع . وأقول : إن القرآن لم يدل على عدم الحصر ، غايته أنه لم يدل على الحصر فيكون مجملاً . وبيان المجمل بخبر الواحد جائز ، وأيضاً قوله " أمسك أربعاً " على الإطلاق وكذا " فارق واحدة " دليل على أن المانع هو الزيادة على الأربع لا غيرها ، وكذا في نظائر هذا الحديث . وثانيهما إجماع فقهاء الأمصار . وضعف بأن الإجماع مع وجود المخالف لا ينعقد ، وبتقدير التسليم فإن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به . والجواب أن المخالف إذا كان شاذاً فلا يعبأ به ، والقرآن لم يدل على عدم الحصر حتى يلزم نسخ الإجماع إياه ولكن الإجماع دل على وجود مبين في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم . ولئن سلم أن القرآن دل على عدم الحصر فالإجماع يكشف عن وجود ناسخ في عهده وذلك جائز بالاتفاق . لا يقال : فعلى تقدير الحصر كان ينبغي أن يقال مثنى أو ثلاث أو رباع بأو الفاصلة ، لأنا نقول : يلزم حينئذٍ أن لا يجوز النكاح إلا على أحد هذه الأقسام ، فلا يجوز لبعضهم أن يأتي بالتثنية ، ولفريق ثان بالتثليث ، والآخرين بالتربيع ، فيذهب معنى تجويز الجمع بين أنواع القسمة الذي دلت عليه الواو .

{ ذلك أدنى أن لا تعولوا } أي اختيار الواحدة أو التسري أقرب من أن لا تميلوا أو لا تجوروا . وكلا اللفظين مروي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم من قولهم : عال الميزان عولاً إذا مال . وعال الحاكم في حكمه إذا جار . ومنه عالت الفريضة إذا زادت سهامها . وفيه الميل عن الاعتدال . وقيل : معناه أن لا تفتقروا . ورجل عائل أي فقير وذلك أنه إذا قل عياله قلت نفقاته فلم يفتقر . ونقل عن الشافعي أنه قال : معناه أن لا تكثر عيالكم . وطعن فيه بعض القاصرين بأن هذا في اللغة معنى " تعيلوا " لا معنى " تعولوا " . يقال : أعال الرجل إذا كثر عياله . ومنه قراءة طاوس { أن لا تعيلوا } وأيضاً إنه لا يناسب أول الآية . { وإن خفتم أن لا تقسطوا } وأيضاً هب أنه يقل العيال في اختيار الحرة الواحدة ، فكيف يقل عند اختيار التسري ولا حصر لهن ؟ والجواب عن الأوّل أن الشافعي لم يذهب إلى تفسير اللغة وإنما زعم أنه تعالى أشار إلى الشيء بذكر لازمه أي جعل الميل والجور كناية عن كثرة العيال ، لأن كثرة العيال لا تنفك عن الميل والجور . وقرر الكناية في الكشاف على وجه آخر ، وهو أنه جعل قوله تعالى : { أن لا تعولوا } من عال الرجل عياله يعولهم كقولك : مانهم يمونهم إذا أنفق عليهم . ولا شك أن من كثر عياله لزمه أن يعولهم ، وفي ذلك ما تصعب عليه المحافظة على حدود الورع وكسب الحلال . فالحاصل أنه ذكر اللازم وهو الإنفاق وأراد الملزوم وهو كثرة العيال . والحاصل على ما قلنا أنه ذكر اللازم وهو الميل والجور وأراد الملزوم وهو كثرة العيال . والجواب عن الثاني أن حمل الكلام على ما لا يلزم منه تكرار أولي وبتقدير التسليم فتفسير الشافعي أيضاً يؤل إلى تفسير الجمهور لكن بطريق الكناية كما قررنا . وعن الثالث أن الجواري إذا كثرن فله أن يكلفهن الكسب فينفقن على أنفسهن وعلى مولاهن أيضاً فكأنه لا عيال . وأيضاً إذا عجز المولى باعهن وتخلّص منهن بخلاف المهائر فإن الخلاص عنهن يفتقر إلى تسليم المهر إليهن . وقال في الكشاف : العزل عن السراري جائز بغير إذنهن فكن مظان قلة الولد بالإضافة إلى التزوج .

/خ10