غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالٗا كَثِيرٗا وَنِسَآءٗۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبٗا} (1)

مقدمة السورة:

سورة النساء مدنية

حروفها 14535 كلماتها 3745

آياتها مائة وست وسبعون

1

التفسير : لما كانت هذه السورة مشتملة على تكاليف كثيرة من التعطيف على الأولاد والنساء والأيتام وإيصال حقوقهم إليهم وحفظ أموالهم عليهم ، ومن الأمر بالطهارة والصلاة ، والجهاد والدية ، ومن تحريم المحارم وتحليل غيرهن إلى غير ذلك من السياسات ومكارم الأخلاق التي يناط بها صلاح المعاش والمعاد ، افتتح السورة ببعث المكلفين على التقوى . ومن غرائب القرآن أن فيه سورتين صدرهما { يا أيها الناس } إحداهما في النصف الأول وهي الرابعة من سوره ، والأخرى في النصف الثاني وهي أيضاً في الرابعة من سوره . ثم التي في النصف الأول مصدرة بذكر المبدأ { اتقوا ربكم الذي خلقكم } والتي في النصف الثاني مصدرة بذكر المعاد { اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم }[ الحج :1 ] ثم إنه تعالى علل الأمر بالتقوى بأنه خلقنا من نفس واحدة . أما القيد الأوّل وهو أنه خلقنا فلا شك أنه علة لوجوب الانقياد لتكاليفه والخشوع لأوامره ونواهيه ، لأن المخلوقية هي العبودية ومن شأن العبد امتثال أمر مولاه في كل ما يأمره وينهاه . وأيضاً الإيجاد غاية الإحسان فيجب مقابلتها بغاية الإذعان ، على أن مقابلة نعمته بالخدمة محال لأن توفيق تلك الخدمة نعمة أخرى منه . وأما القيد الثاني وهو خصوص أنه خلقنا من نفس واحدة ، فإنما يوجب علينا الطاعة لأن خلق أشخاص غير محصورة من إنسان واحد مع تغاير أشكالهم وتباين أمزجتهم واختلاف أخلاقهم دليل ظاهر وبرهان باهر على وجود مدبر مختار وحكيم قدير ، ولو كان ذلك بالطبيعة أو لعلة موجبة كان كلهم على حد واحد ونسبة واحدة .

ثم في هذا القيد فوائد أخر منها : أنه يأمر عقبه بالإحسان إلى اليتامى والنسوان ، وكونهم متفرعين من أصل واحد وأرومة واحدة أعون على هذا المعنى ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : " فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها " . ومنها أنهم إذا عرفوا ذلك تركوا المفاخرة وأظهروا التواضع وحسن الخلق . ومنها أن تصوّر ذلك يذكر أمر المعاد فليس الإعادة بأصعب من الإبداء . ومنها أنه إخبار عن الغيب فيكون معجزاً للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يقرأ كتاباً . وأجمع المفسرون على أن المراد بالنفس الواحدة ههنا هو آدم عليه السلام ، والتأنيث في الوصف نظراً إلى لفظة النفس . { وخلق منها زوجها } حواء من ضلع من أضلاعها . وقال أبو مسلم : المراد وخلق من جنسها زوجها لقوله { جعل لكم من أنفسكم أزواجاً }[ النحل :72 ] ولأنه تعالى قادر على خلق حواء من التراب فأي فائدة في خلقها من ضلع من أضلاع آدم ؟ والجواب أن الأمر لو كان كما ذكره أبو مسلم لكان الناس مخلوقين من نفسين لا من نفس واحدة وهو خلاف النص وخلاف ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم " أن المرأة خلقت من ضلع أعوج فإن ذهبت تقيمها كسرتها " احتج جمع من الطبائعيين بالآية على أن الحادث لا يحدث إلا عن مادة سابقة ، وإن خلق الشيء عن العدم المحض والنفي الصرف محال . والجواب أنه لا يلزم من إحداث شيء في صورة واحدة من المادة لحكمة أن يتوقف الإحداث على المادة في جميع الصور . قال في الكشاف : قوله : { وخلق منها } معطوف على محذوف أي أنشأها وخلق منها ، أو معطوف على { خلقكم } والخطاب للذين بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أي خلقكم من نفس آدم لأنهم من جنس المفرع منه ، وخلق منها أمكم حواء { وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء } غيركم من الأمم الفائتة للحصر . أقول : وإنما التزم الإضمار في الأول والتخصيص في الثاني دفعاً للتكرار ، ولا تكرار بالحقيقة إذ لا يفهم من خلق بني آدم من نفس خلق زوجها منه ولا خلق الرجال والنساء من الأصلين جميعاً . نعم لو كان المراد بقوله : { وخلق منها } إلى آخره بيان الخلق الأول وتفصيله ، لكان الأولى عدم دخول الواو إلا أن المراد وصف ذاته تعالى بالأوصاف الثلاثة جميعاً من غير ترتيب يستفاد من النسق وإلا كان الأنسب أن يقال : " فبث " بالفاء . فدل العطف بالواو في الجميع على أن المراد هو ما ذكرنا ، وأن التفصيل والترتيب موكول إلى قضية العقل فافهم والله تعالى أعلم .

ومعنى بث فرق ونشر . وإنما خص وصف الكثرة بالرجال اعتماداً على الفهم ، ولأن شهرة الرجال أتم فكانت كثرتهم أظهر . وفيه تنبيه على أن اللائق بحال الرجال والاشتهار والخروج ، واللائق بحال النسوان الاختفاء والخمول . وإنما يقل الرجال والنساء معرفتين لئلا يلزم كونهما مبثوثين من نفسهما ، ثم إن هذا البث معناه محمول على ظاهره عند من يرى أن جميع الأشخاص البشرية كانوا كالذر مجتمعين في صلب آدم ، وأما عند من ينكر ذلك فالمراد أنه بث منهما أولادهما ، ومن أولادهما جمعاً آخرين وهلم جراً ، فأضيف الكل إليهما على سبيل المجاز . { واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام } من قرأ بالنصب فللعطف على اسم الله أي واتقوا حق الأرحام فلا تقطعوها وهو اختيار أكثر الأئمة كمجاهد وقتادة والسدي والضحاك وابن زيد والفراء والزجاج . وأما للعطف على محل الجار والمجرور كقوله :

فلسنا بالجبال ولا الحديدا *** . . .

وهو اختيار أبى علي الفارسي وعلي بن عيسى . وقيل : منصوب الإغراء أي والأرحام فاحفظوها وصلوها . ومن قرأ بالجر فلأجل العطف على الضمير المجرور في { به } وهذا وإن كان مستنكراً عند النحاة بدون إعادة الخافض لأن الضمير المتصل من تتمة ما قبله ولا سيما المجرور فأشبه العطف على بعض الكلمة ، إلا أن قراءة حمزة مما ثبت بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يجوز الطعن فيها لقياسات نحوية واهية كبيت العنكبوت . وقد طعن الزجاج فيها من جهة أخرى وهي أنها تقتضي جواز الحلف بالأرحام وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تحلفوا بآبائكم " . والجواب أن المنهي عنه هو الحلف بالآباء وههنا حلف أولاً بالله ثم قرن به الرحم فأين أحدهما من الآخر ؟ ولئن سلمنا أن الحلف بالرحم أيضاً منهي عنه لكن لا نسلم أنه منهي عنه مطلقاً ، وإنما المنهي عنه ما حلف به على سبيل التعظيم ، وأما الحلف بطريق التأكيد فلا بأس بها ، ولهذا جاء في الحديث " أفلح وأبيه إن صدق " . سلمنا أنها منهي عنها مطلقاً لكن المراد ههنا حكاية ما كانوا يفعلونه في الجاهلية من قولهم في الاستعطاف والتساؤل وهو سؤال البعض البعض : أسألك بالله وبالرحم ، وأنشدك الله والرحم . وقرئ { والأرحام } بالرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف أي والأرحام كذلك أي أنها مما يتقى ويتساءل به . فإن قيل : لم قال أولاً { اتقوا ربكم } ثم قال بعده { واتقوا الله } ؟ قلنا : أما تكرار الأمر فللتأكيد كقولك للرجل : عجل عجل . وأما تخصيص الرب بالأول والله بالثاني فلأن الغرض في الأول الترغيب بتذكير النعمة والإحسان والتربية ، وفي الثاني الترهيب . ولفظ الله يدل على كمال القدرة والقهر فكأنه قيل : إنه رباك وأحسن إليك فاتق مخالفته وإلا فإنه شديد العقاب فاتق سخطه . قال العلماء : في الآية دليل على جواز المسألة بالله .

روى مجاهد عن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من سألكم بالله فأعطوه " . وعن البراء بن عازب قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع منها إبرار القسم . ولا يخفى ما في الآية من تعظيم حق الرحم وتأكيد النهي عن قطعها حيث قرن الأرحام باسمه ، وقال في سورة البقرة :

{ لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً وذي القربى }[ البقرة :83 ] . وعن عبد الرحمن بن عوف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال الله عز وجل : " أنا الله وأنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسماً من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته " وفي الصحيحين عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله " . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ليس الواصل بالمكافئ الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها " عن سلمان بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة " . فثبت بدلالة الكتاب والسنة وجوب صلة الرحم واستحقاق الثواب بها ، فلهذا بنى أصحاب أبي حنيفة على هذا الأصل مسألتين : إحداهما أن الرجل إذا ملك ذا رحم محرم عتق عليه مثل الأخ والأخت والعم والخال لأنه لو بقي الملك حل الاستخدام بالإجماع ، لكن الاستخدام إيحاش وقطيعة رحم . والثانية أن الهبة لذي الرحم المحرم لا يجوز الرجوع فيها حذراً من الإيحاش والقطيعة . ثم إنه ختم الآية بما يتضمن الوعد والوعيد فقال : { إن الله كان عليكم رقيباً } مراقباً يحفظ عليكم جميع أعمالكم فيجازيكم بحسبها .

/خ10