تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{۞أَلَمۡ يَأۡنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن تَخۡشَعَ قُلُوبُهُمۡ لِذِكۡرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلۡحَقِّ وَلَا يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلُ فَطَالَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡأَمَدُ فَقَسَتۡ قُلُوبُهُمۡۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ} (16)

ألم يأنِ : ألم يَحِنْ ، والفعلُ الماضي أنى يأْني أنياً وأناةً وأنىً : حانَ وقَرُب .

وما نزل من الحق : من القرآن .

فطالَ عليهم الأمد : طال عليهم الزمان وبعُد العهد بينهم وبين أنبيائهم .

قَسَت قلوبهم : اشتدّت فكفروا .

في هذه الآية عتابٌ لقومٍ من المؤمنين فترت همَّتُهم قليلاً عن القيام بما نُدِبوا إليه . روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : « لما قَدِم أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ فأصابوا من لِين العَيش ما أصابوا بعْدَ أن كانوا في جَهدٍ ، فكأنهم فتروا عن بعض ما كانوا عليه فعوقبوا بهذا الآية . . . . »

ألم يَحِن الوقتُ للذين آمنوا أن ترقَّ قلوبُهم لذِكر الله والقرآن الكريم ، ولا يكونوا كاليهود والنصارى الذين أُوتوا الكتابَ من قبلهم ، فعملوا به مدةً ثم طال عليهم الزمنُ فجمدت قلوبهم وغيّروا وبدّلوا { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } خارجون عن حدودِ دينهم .

قراءات :

قرأ نافع وحفص : وما نَزَل من الحق بفتح النون والزاي من غير تشديد . والباقون : وما نزّل بتشديد الزاي .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{۞أَلَمۡ يَأۡنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن تَخۡشَعَ قُلُوبُهُمۡ لِذِكۡرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلۡحَقِّ وَلَا يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلُ فَطَالَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡأَمَدُ فَقَسَتۡ قُلُوبُهُمۡۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ} (16)

قوله عز وجل : { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله } قال الكلبي ومقاتل : نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة ، وذلك أنهم سألوا سلمان الفارسي ذات يوم فقالوا : حدثنا عن التوراة ، فإن فيها العجائب ، فنزلت : { نحن نقص عليك أحسن القصص }( يوسف- 3 ) ، فأخبرهم أن القرآن أحسن قصصاً من غيره ، فكفوا عن سؤال سلمان ما شاء الله ، ثم عادوا فسألوا سلمان عن مثل ذلك فنزل : { الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً }( الزمر- 23 ) ، فكفوا عن سؤاله ما شاء الله ثم عادوا فقالوا : حدثنا عن التوراة فإن فيها العجائب فنزلت هذه الآية . فعلى هذا التأويل ، قوله { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله } يعني في العلانية وباللسان . وقال الآخرون نزلت في المؤمنين . قال عبد الله بن مسعود : ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية : { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله } إلا أربع سنين . وقال ابن عباس : إن الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن ، فقال : { ألم يأن } ألم يحن { للذين آمنوا أن تخشع } : ترق وتلين وتخضع قلوبهم لذكر الله ، { وما نزل } قرأ نافع ، وحفص عن عاصم بتخفيف الزاي ، وقرأ الآخرون بتشديدها ، { من الحق } وهو القرآن ، { ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل } وهم اليهود والنصارى ، { فطال عليهم الأمد } الزمان بينهم وبين أنبيائهم ، { فقست قلوبهم } قال ابن عباس : مالوا إلى الدنيا وأعرضوا عن مواعظ الله ، والمعنى أن الله عز وجل ينهى المؤمنين أن يكونوا في صحبة القرآن كاليهود والنصارى الذين قست قلوبهم لما طال عليهم الدهر . روي أن أبا موسى الأشعري بعث إلى قراء أهل البصرة فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرؤوا القرآن فقال لهم : أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم فاتلوه ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم . { وكثير منهم فاسقون } يعني الذين تركوا الإيمان بعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام . { اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون } .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{۞أَلَمۡ يَأۡنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن تَخۡشَعَ قُلُوبُهُمۡ لِذِكۡرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلۡحَقِّ وَلَا يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلُ فَطَالَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡأَمَدُ فَقَسَتۡ قُلُوبُهُمۡۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ} (16)

قوله تعالى : " ألم يأن للذين آمنوا " أي يقرب ويحين ، قال الشاعر :

ألم يأن لي يا قلب أن أترك الجهلا *** وأن يُحْدِثَ الشَّيبُ المبين لنا عقلا

وماضيه أنى بالقصر يأنى . ويقال : آن لك - بالمد - أن تفعل كذا يئين أينا أي حان ، مثل أنى لك وهو مقلوب منه . وأنشد ابن السكيت :

ألَمَّا يَئِن لي أن تَجَلَّى عَمَايَتِي *** وأقْصَرُ عن ليلى بَلَى قد أنَى لِيَا

فجمع بين اللغتين . وقرأ الحسن " ألما يأن " وأصلها " ألم " زيدت " ما " فهي نفي لقول القائل : قد كان كذا ، و " لم " نفي لقوله : كان كذا . وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال : ما كنا بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله " إلا أربع سنين . قال الخليل : العتاب مخاطبة الإدلال ومذاكرة المَوْجِدة ، تقول عاتبته معاتبة " أن تخشع " أي تذل وتلين " قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق " روي أن المزاح والضحك كثر في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما ترفهوا بالمدينة ، فنزلت الآية ، ولما نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم : ( إن الله يستبطئكم بالخشوع ) فقالوا عند ذلك : خشعنا . وقال ابن عباس : إن الله استبطأ قلوب المؤمنين ، فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن . وقيل : نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة . وذلك أنهم سألوا سلمان أن يحدثهم بعجائب التوراة فنزلت : " الر تلك آيات الكتاب المبين{[14712]} " [ يوسف : 1 ] إلى قوله : " نحن نقص عليك أحسن القصص " [ يوسف : 3 ] الآية ، فأخبرهم أن هذا القصص أحسن من غيره وأنفع لهم ، فكفوا عن سلمان ، ثم سألوه مثل الأول فنزلت : " الم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق " فعلى هذا التأويل يكون الذين آمنوا في العلانية باللسان . قال السدي وغيره : " ألم يأن للذين آمنوا " بالظاهر وأسروا الكفر " أن تخشع قلوبهم لذكر الله " . وقيل : نزلت في المؤمنين . قال سعد : قيل يا رسول الله لو قصصت علينا فنزل : " نحن نقص عليك " فقالوا بعد زمان : لو حدثتنا فنزل : " الله نزل أحسن الحديث{[14713]} " [ الزمر : 23 ] فقالوا بعد مدة : لو ذكرتنا فأنزل الله تعالى : " ألم يأن للذين آمنو أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق " ونحوه عن ابن مسعود قال : ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين ، فجعل ينظر بعضنا إلى بعض ويقول : ما أحدثنا ؟ قال الحسن : استبطأهم وهم أحب خلقه إليه . وقيل : هذا الخطاب لمن آمن بموسى وعيسى دون محمد عليهم السلام ؛ لأنه قال عقيب هذا : " والذين آمنوا بالله ورسله " [ الحديد : 19 ] أي ألم يأن للذين آمنوا بالتوراة والإنجيل أن تلين قلوبهم للقران ، وألا يكونوا كمتقدمي قوم موسى وعيسى ، إذ طال عليهم الأمد بينهم وبين نبيهم فقست قلوبهم .

قوله تعالى : " ولا يكونوا " أي وألا يكونوا فهو منصوب عطفا على " أن تخشع " . وقيل : مجزوم على النهي ، مجازه ولا يكونن ، ودليل هذا التأويل رواية رويس عن يعقوب " لا تكونوا " بالتاء ، وهي قراءة عيسى وابن إسحاق . يقول : لا تسلكوا سبيل اليهود والنصارى ، أعطوا التوراة والإنجيل فطالت الأزمان بهم . قال ابن مسعود : إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد قست قلوبهم ، فاخترعوا كتابا من عند أنفسهم استحلته أنفسهم ، وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم ، حتى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ، ثم قالوا : اعرضوا هذا الكتاب على بني إسرائيل ، فإن تابعوكم فاتركوهم وإلا فاقتلوهم . ثم اصطلحوا على أن يرسلوه إلى عالم من علمائهم ، وقالوا : إن هو تابعنا لم يخالفنا أحد ، وإن أبى قتلناه فلا يختلف علينا بعده أحد ، فأرسلوا إليه ، فكتب كتاب الله في ورقة وجعلها في قرن وعلقه في{[14714]} عنقه ثم لبس عليه ثيابه ، فأتاهم فعرضوا عليه كتابهم ، وقالوا : أتؤمن بهذا ؟ فضرب بيده على صدره ، وقال : آمنت بهذا يعني المعلق على صدره . فافترقت بنو إسرائيل على بضع وسبعين ملة ، وخير مللهم أصحاب ذي القرن . قال عبدالله : ومن يعش منكم فسيرى منكرا ، وبحسب أحدكم إذا رأى المنكر لا يستطيع أن يغيره أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره . وقال مقاتل بن حيان{[14715]} : يعني مؤمني أهل الكتاب طال عليهم الأمد واستبطؤوا بعث النبي صلى الله عليه وسلم " فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون " يعني الذين ابتدعوا الرهبانية أصحاب الصوامع . وقيل : من لا يعلم ما يتدين به من الفقه ويخالف من يعلم . وقيل : هم من لا يؤمن في علم الله تعالى . ثبتت طائفة منهم على دين عيسى حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم فآمنوا به ، وطائفة منهم رجعوا عن دين عيسى وهم الذين فسقهم الله .

وقال محمد بن كعب : كانت الصحابة بمكة مجدبين ، فلما هاجروا أصابوا الريف والنعمة ، ففتروا عما كانوا فيه ، فقست قلوبهم ، فوعظهم الله فأفاقوا . وذكر ابن المبارك : أخبرنا مالك بن أنس ، قال : بلغني أن عيسى عليه السلام قال لقومه : لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله تعالى فتقسو قلوبكم ، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون . ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب وانظروا فيها - أو قال في ذنوبكم - كأنكم عبيد ، فإنما الناس رجلان معافى ومبتلى ، فارحموا أهل البلاء ، واحمدوا الله على العافية . وهذه الآية " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله " كانت سبب توبة الفضيل بن عياض وابن المبارك رحمهما الله تعالى . ذكر أبو المطرف عبدالرحمن بن مروان القلاني قال : حدثنا أبو محمد الحسن بن رشيق ، قال حدثنا علي بن يعقوب الزيات ، قال حدثنا إبراهيم بن هشام ، قال حدثنا زكريا بن أبي أبان ، قال حدثنا الليث بن الحرث قال حدثنا الحسن بن داهر ، قال سئل عبدالله بن المبارك عن بدء زهده قال : كنت يوما مع إخواني في بستان لنا ، وذلك حين حملت الثمار من ألوان الفواكه ، فأكلنا وشربنا حتى الليل فنمنا ، وكنت مولعا بضرب العود والطنبور ، فقمت في بعض الليل فضربت بصوت يقال له راشين{[14716]} السحر ، وأراد سنان يغنِّي ، وطائر يصيح فوق رأسي على شجرة ، والعود بيدي لا يجيبني إلى ما أريد ، وإذا به ينطق كما ينطق الإنسان - يعني العود الذي بيده - ويقول : " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق " قلت : بلى والله ! وكسرت العود ، وصرفت من كان عندي ، فكان هذا أول زهدي وتشميري . وبلغنا عن الشعر الذي أراد ابن المبارك أن يضرب به العود :

ألم يأن لي منك أن تَرْحَمَا *** وتعصِ العواذلَ واللُّوَّمَا

وتَرْثِي لصَبٍّ بكم مُغْرَمٌ *** أقامَ على هَجْرِكُم مَأْتَمَا

يبيت إذا جنَّه ليلُه *** يراعي الكواكبَ والأَنْجُمَا

وماذا على الظبي لو أنه *** أحل من الوَصْلِ مَا حَرَّمَا

وأما الفضيل بن عياض فكان سبب توبته أنه عشق جارية فواعدته ليلا ، فبينما هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع قارئا يقرأ : " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله " فرجع القهقرى وهو يقول : بلى والله قد آن فآواه الليل إلى خربة وفيها جماعة من السابلة ، وبعضهم يقول لبعض : إن فضيلا يقطع الطريق . فقال الفضيل : أواه ! أراني بالليل أسعى في معاصي الله ، قوم من المسلمين يخافونني ! اللهم إني قد تبت إليك ، وجعلت توبتي إليك جوار بيتك الحرام .


[14712]:راجع جـ 9 ص 118.
[14713]:راجع جـ 15 ص 248.
[14714]:الزيادة من تفسير الطبري.
[14715]:في بعض التفاسير: مقاتل بن سليمان وهو المفسر.
[14716]:هكذا في الأصول ولم نقف عليها بعد البحث.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{۞أَلَمۡ يَأۡنِ لِلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَن تَخۡشَعَ قُلُوبُهُمۡ لِذِكۡرِ ٱللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ ٱلۡحَقِّ وَلَا يَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلُ فَطَالَ عَلَيۡهِمُ ٱلۡأَمَدُ فَقَسَتۡ قُلُوبُهُمۡۖ وَكَثِيرٞ مِّنۡهُمۡ فَٰسِقُونَ} (16)

ولما كان هذا وعظاً شافياً لسقام القلوب ، وكاشفاً لغطاء الكروب ، انتج قوله حاثاً على الإقبال على كتابه الذي رحم به عباده بإنزاله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم على وجه معلم بإعجازه أنه كلام مستعطفاً لهم إلى جنابه زاجراً لهم{[62485]} عما سألهم بعضهم فيه سلمان رضي الله عنه من أن يحدثهم عن التوراة والإنجيل ، فكانوا كلما سألوه عن شيء أنزل سبحانه آية يزجرهم بها وينبههم على أن هذا القرآن فيه كل ما{[62486]} يطلب إلى أن أنزل هذه الآية زاجرة هذا الزجر العظيم لئلا يظن ظان أن القرآن غير كاف ، مخوفاً لهم بما وقع لأهل الكتاب من الإعراض عن كتابهم ، قال الكلبي{[62487]} نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إن الله استبطأ قلوب المؤمنين على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن ، فقال : { ألم يأن } أي يحن وينتهي ويدرك إلى غاية { للذين آمنوا } أي أقروا بالإيمان بألسنتهم صدقاً أو كذباً { أن تخشع } أي أن يكون لهم رتبة عالية في الإيمان بأن تلين وتسكن وتخضع وتذل وتطمئن فتخبت فتعرض عن الفاني وتقبل على الباقي { قلوبهم لذكر الله } أي الملك الأعظم الذي لا خير إلا منه فيصدق في إيمانه من كان كاذباً ويقوى في الدين من كان ضعيفاً ، فلا يطلب لذلك دينه دواء ولا لمرض قلبه شفاء في غير القرآن ، فإن ذكر الله يجلو أصداء القلوب ويصقل مرائيها .

ولما كان الذكر وحده كافياً في الخشوع والإنابة والخضوع لأنه مجمع لكل رغبة ومنبع لكل رهبة ، وكان من الناس من لا نفوذ له فيما له سبحانه من الجلال والإكرام قال : { وما نزل } أي الله تعالى بالتدريج - على قراءة الجماعة بالتشديد{[62488]} ، وما وجد إنزاله{[62489]} من عند الله على خاتم رسله صلى الله عليه وسلم على قراءة نافع وحفص عن عاصم ورويس بخلف عنه عن يعقوب بالتخفيف { من الحق } أي من الوعد والوعيد والوعظ وغير ذلك على نبيكم صلى الله عليه وسلم من القرآن إشارة إلى أن غير هذا الذكر دخله الدخيل ، وأما هذا فثابت ثباتاً لا يقدر أحد على إزالته .

ولما كان للمسابقة والمنافسة أمر عظيم في تحريك الهمم لأهل الأنفة وأولي المعالي قال : { ولا يكونوا كالذين } ولما كان العلم بمجرده كافياً في إعلاء الهمة فكيف إذا{[62490]} كان من عند الله فكيف إذا كان بكتاب ، إشارة{[62491]} إلى ذلك بالبناء للمجهول فقال : { أوتوا الكتاب } أي لو كان الإتيان من عند غير الله لكان جديراً بالهداية فكيف وهو من عنده . ولما كان إنزال الكتب لم يكن إلا على بني إسرائيل فلم يكن مستغرقاً للزمان الماضي أدخل الجارّ فقال : { من قبل } أي قبل ما نزل إليكم وهم اليهود والنصارى .

ولما كانوا{[62492]} في كل قليل يعبرون قال عاطفاً على { أوتوا الكتاب } : { فطال عليهم الأمد } أي الزمان الذي ضربناه لشرفهم ومددناه لعلوهم من أول إيتائهم{[62493]} الكتاب الذي من شأنه ترقيق القلوب ، والأمد الأجل ، وكل منهما يطلق على المدة كلها وعلى آخرها ، وكذا الغاية بقول النحاة : " من " لابتداء الغاية و " إلى " لانتهائها ، والمراد جميع المدة { فقست } أي بسبب الطول { قلوبهم } أي صلبت واعوجت حتى كانت بحيث لا تنفعل للطاعات والخير فكانوا {[62494]}كل قليل{[62495]} في تعنت شديد على أنبيائهم عليهم الصلاة والسلام يسألونهم المقترحات ، وأما بعد ايتائهم فأبعدوا في القساوة ، فمالوا إلى دار الكدر بكلياتهم وأعرضوا عن دار الصفاء فانجروا إلى الهلاك باتباع الشهوات ، قال القشيري : وقسوة القلب إنما تحصل من اتباع الشهوة{[62496]} وإن الشهوة والصفوة لا تجتمعان .

ولما كان التقدير : فبعضهم ثبت على تزلزل ، عطف عليه قوله : { وكثير منهم } أخرجته قساوته عن الدين أصلاً ورأساً فهم { فاسقون * } أي عريقون في وصف الإقدام على الخروج من دائرة الحق التي عداها لهم الكتاب ، وعن عبد الله بن الزبير عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال : " لم يكن بين إسلامهم وبين أن نزلت هذه الآية يعاتبهم الله بها إلاّ أربع سنين " رواه الطبراني في الكبير{[62497]} ، قال الهيثمي : وفيه موسى بن يعقوب الربعي وثقه ابن معين وغيره وضعفه ابن المديني وبقية رجاله رجال الصحيح . انتهى .


[62485]:- سقط من ظ.
[62486]:- زيد من ظ.
[62487]:- راجع.
[62488]:- راجع نثر المرجان 7/ 214.
[62489]:- من ظ، وفي الأصل: أنزله.
[62490]:- زيد من ظ.
[62491]:- من ظ، وفي الأصل: إشارة.
[62492]:- من ظ، وفي الأصل: كان.
[62493]:- من ظ، وفي الأصل: إتيانهم.
[62494]:- من ظ، وفي الأصل: قليلا.
[62495]:- من ظ، وفي الأصل: قليلا.
[62496]:-من ظ، وفي الأصل: الهوى.
[62497]:- راجع مجمع الزوائد 7/ 121.