سورة المعارج مكية وآياتها أربع وأربعون ، نزلت بعد الحاقة . وسميت " سورة المعارج " لقوله تعالى " من الله ذي المعارج " يعني ذات الدرجات الرفيعة . وقد سماها الطبري : سورة " سأل سائل " ، وهي كالتتمة لها في وصف القيامة وعذاب النار وحقيقة الآخرة التي تصدّت لها . ولكن سورة المعارج تعالجها بطريقة أخرى ، فتذكر أن عذاب الكافرين الذي طلبوه لابد واقع ، من الله صاحب الرفعة ورفيع الدرجات ، في يوم مقداره خمسون ألف سنة من سنين الدنيا . وفيها أمِر الرسول الكريم أن يصبر على استهزائهم واستعجالهم العذاب ، وأنه آت قريب . ثم يعقُب وصف ذلك اليوم كيف تكون السماء ، والأرض والجبال ، وكيف يُشغل كل امرئ بنفسه فلا يسأل عن أحد من أقربائه وأصدقائه . وكيف يودّ المجرم لو يفتدي من عذاب ذلك اليوم ببنيه وزوجته وأخيه وعشيرته ، ولكن كل ذلك
لا يُغنيه شيئا ، ولا أحد من جميع من في الأرض يستطيع أن ينجيه . وتتحدث السورة بعد ذلك عن جهنم وأهوالها .
ثم تتناول النفس البشر البشرية وكيف تكون في الضراء والسراء ، وأن الإنسان طُبع على الهلع والجزع إذا مسه المكروه والعسر ، شديد المنع والحرمان إذا أصابه الخير واليسر ، إلا المؤمنين المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون ، فإن الله يعصمهم ويوفقهم إلى الخير . وقد أفاضت السورة في مدحهم وتعداد أوصافهم ، فأولئك المؤمنون { في جنات مُكرمون } من الله تعالى .
وكذلك في السورة إنكار على الكافرين لأطماعهم الفاسدة . ثم يأتي الختام بوصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتركهم على سفههم ولعبهم حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون .
كان زعماءُ قريش كثيراً ما يسألون الرسولَ الكريم عن موضوع القيامة ، ويقولون إنّ محمداً يخوّفُنا بالعذاب ، فما هذا العذاب ؟ ومتى يكون ؟ وكان النضرُ بن الحارث ومعه كثيرون يقولون ، منكرين ومستهزئين : متى هذا الوعد ؟ وينكرون البعثَ والجزاءَ أشدَّ الإنكار . فردّ الله عليهم بهذه السورة الكريمة .
إن العذابَ الذي طلبه السائلون واقعٌ بهم لا محالة .
قرأ الجمهور : سأل سائل بالهمزة . وقرأ نافع وابن عامر : سال بغير همزة .
{ 1 - 7 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ * تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا }
يقول تعالى مبينا لجهل المعاندين ، واستعجالهم لعذاب الله ، استهزاء وتعنتا وتعجيزا :
{ سَأَلَ سَائِلٌ } أي : دعا داع ، واستفتح مستفتح { بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ } لاستحقاقهم له بكفرهم وعنادهم
{ سأل سائل } قرأ أهل المدينة والشام " سال " بغير همز وقرأ الآخرون بالهمز ، فمن همز فهو من السؤال ، ومن قرأ بغير همز قيل : هو لغة في السؤال ، يقال : سال يسال مثل خاف يخاف ، يعني سأل يسأل خفف الهمزة وجعلها ألفاً . وقيل : هو من السيل ، وسال واد من أودية جهنم ، يروى ذلك عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، والأول أصح . واختلفوا في الباء في قوله : { بعذاب } قيل : هي بمعنى " عن " كقوله : { فاسأل به خبيرا }( الأنفال-32 ) أي عنه خبيراً . ومعنى الآية : سأل عن عذاب ، { واقع } نازل كائن على من ينزل ولمن ذلك العذاب .
قوله تعالى : " سأل سائل بعذاب واقع " قرأ نافع وابن عامر " سال سايل " بغير همزة . الباقون بالهمز . فمن همز فهو من السؤال . والباء يجوز أن تكون زائدة ، ويجوز أن تكون بمعنى عن . والسؤال بمعنى الدعاء ، أي دعا داع بعذاب ، عن ابن عباس وغيره . يقال : دعا على فلان بالويل ، ودعا عليه بالعذاب . ويقال : دعوت زيدا ، أي التمست إحضاره . أي التمس ملتمس عذابا للكافرين ، وهو واقع بهم لا محالة يوم القيامة . وعلى هذا فالباء زائدة ، كقوله تعالى : " تنبت بالدهن{[15328]} " [ المؤمنون : 20 ] ، وقوله . " وهزي إليك بجذع النخلة{[15329]} " [ مريم : 25 ] فهي تأكيد . أي سأل سائل عذابا واقعا . " للكافرين " أي على الكافرين . وهو النضر بن الحارث حيث قال : " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم{[15330]} " [ الأنفال : 32 ] فنزل سؤاله ، وقتل يوم بدر صبرا{[15331]} هو وعقبة بن أبي معيط ، لم يقتل صبرا غيرهما ، قاله ابن عباس ومجاهد . وقيل : إن السائل هنا هو الحارث بن النعمان الفهري . وذلك أنه لما بلغه قول النبي صلى الله عليه وسلم في علي رضي الله عنه : ( من كنت مولاه فعلي مولاه ) ركب ناقته فجاء حتى أناخ راحلته بالأبطح ثم قال : يا محمد ، أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقبلناه منك ، وأن نصلي خمسا فقبلناه منك ، ونزكي أموالنا فقبلناه منك ، وأن نصوم شهر رمضان في كل عام فقبلناه منك ، وأن نحج فقبلناه منك ، ثم لم ترض بهذا حتى فضلت ابن عمك علينا ! أفهذا شيء منك أم من الله ؟ ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( والله الذي لا إله إلا هو ما هو إلا من الله ) فولّى الحارث وهو يقول : اللهم إن كان ما يقول محمد حقا فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم . فوالله ما وصل إلى ناقته حتى رماه الله بحجر فوقع على دماغه فخرج من دبره فقتله ؛ فنزلت : " سأل سائل بعذاب واقع " الآية . وقيل : إن السائل هنا أبو جهل وهو القائل لذلك ، قاله الربيع . وقيل : إنه قول جماعة من كفار قريش . وقيل : هو نوح عليه السلام سأل العذاب على الكافرين . وقيل : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم أي دعا عليه السلام بالعقاب وطلب أن يوقعه الله بالكفار ، وهو واقع بهم لا محالة . وامتد الكلام إلى قوله تعالى : " فاصبر صبرا جميلا " [ المعارج : 5 ] أي لا تستعجل فإنه قريب . وإذا كانت الباء بمعنى عن - وهو قول قتادة - فكأن سائلا سأل عن العذاب بمن يقع أو متى يقع . قال الله تعالى : " فاسأل به خبيرا{[15332]} " [ الفرقان : 59 ] أي سل عنه . وقال علقمة :
فإن تسألوني بالنِّسَاء فإنني *** بصيرٌ بأدواءِ النساءِ طبيبُ
أي عن النساء . ويقال : خرجنا نسأل عن فلان وبفلان . فالمعنى سألوا بمن يقع العذاب ولمن يكون .
سورة سأل وتسمى المعارج{[1]}
مقصودها إثبات القيامة وإنذار من كفر بها وتصوير عظمتها بعظمة ملكها وطول يومها وتسلية المنذر بها بما لمن كذبه بما له من الصغار والذل والتبار{[2]} ودل على وجوب وقوعها سابقا بما {[3]}ختمه بتسميتها{[4]} في السورة الماضية بالحاقة تنبيها على أنه لا بد منها ولا محيد عنها ، ودل على ذلك بالقدرة في أولها والعلم في أثنائها و{[5]}التّنزه عما في إهمالها من النقص في آخرها/ ولا خفاء بما أخبر من أنه أرسل جميع رسله بالتحذير منها فأرسل نوحا عليه السلام في الزمان الأقدم كما ذكر في سورته عند ما اختلف الناس بعد ما كانوا عليه في زمان أبيهم آدم عليه الصلاة والسلام من الإتفاق{[6]} على الدين الحق فافترقوا إلى مصدق ومكذب ، فعلم منه أن من بعده أولى بذلك لقربهم منها ، وأتبع ذلك الإعلام أنه دعا إلى ذلك الجن الذين كان سبيلهم فيها سبيل الآدميين ، وأتبع ذلك- ]{[7]} بعد إرسال أول الرسل بها زمانا- آخرهم زمانا وأولهم نبوة حين كان نبيا وآدم بين الروح والجسد ، فبدأ في سورة المزمل بنبوته{[8]} ومزيد تزكيته وتقديسه ورفعته والإخبار عن رسالته والتحذير من مخالفته ، وأتبع ذلك الإنذار{[9]} بها بالصدع بالرسالة بمحو كل ضلالة ، فلما تقررت نبوته وثبتت رسالته على أجمل الوجوه وأجلاها وأبينها وأعلاها وأشرفها وأولاها ، جعل سبحانه سورة القيامة كلها لها إعلاما بأن الأمر [ عظيم- ]{[10]} جدا يجب الاعتناء به والتأهب له والاجتهاد بغاية القوة وإفراغ الجهد ، ثم أتبع ذلك الإنسان دلالة على أنه المقصود بالذات من الأكوان ، فلا يسوغ في الحكمة أن يجعله سبحانه سدى ، وبين كثيرا من أحوالها ثم أقسم في المرسلات أن أمرها حق لا بد منه ولا مندوحة عنه ، ثم عجب في " عم " [ منهم-{[11]} ] في تساؤلهم عنها وتعجيبهم منها ثم أقسم على وقوعها في النازعات وصور من أمرها وهزاهزها ما أراد ، ثم أولى ذلك الدلالة في سورة عبس على أن من الناس من طبع على قلبه فلا حيلة في تصديقه بها مع ما يتبين بالسورة الماضية وغيرها من أمرها ، ثم صورها في " كورت " تصويرا صارت من رأى عين لو كشف الغطاء ما ازداد الموقنون بها يقينا ، ثم بين في الانفطار أن الأمور فيها ليست على منهاج الأمور هنا ، بل الأسباب كلها منقطعة والأنساب مرتفعة ، والكل خاضعون مخبتون خاشعون ، أعظمهم في الدنيا تجبرا أشدهم{[12]} هنالك صغارا وتحسرا ، ثم أتبع ذلك من يستحق هنالك النكال والسلاسل والأغلال ، ثم أولاه رفعة أهل الإيمان الذين طبعهم على الإقرار بها والعرفان ، واستمر [ على{[13]}- ] هذا إلى آخر القرآن قل أن تأتي سورة إلا وهي معرفة بها غاية المعرفة إلى أن ختم بالدين إشارة بذلك إلى أن معرفتها هي [ الدين-{[14]} ] .
وأشار في " تبت " إليها وأتبعها الإخلاص إشارة إلى أنه لا يسلم فيهال إلا الموحدون المعاذون من الفتن الظاهرة والباطنة ، المتصفون بالمحامد المتعاظمة المتكاثرة ، فآذن ذلك أن أكثر غاية القرآن في أمرها العظيم الشأن لأنه/{[15]}لا كتاب بعد هذا الكتاب{[16]} ينتظر ولا أمة أشرف من هذه {[17]}تخص بيان{[18]} أعظم من بيانها وهو{[19]} أحد الأوجه التي فاق بها القرآن على الكتب الماضية والصحف الكائنة في القرون الخالية ، وآذن ذلك بأن الأمر قد قرب والهول قد دهم والخوف قد قدح ، ليشمر أهل الاختصاص في النجاة من عذابها والخلاص ، حين لا مفر ولا ملجأ ولات حين مناص ، نسأل الله العافية في يومها والعيشة الراضية ، وعلى هذا المقصد دل اسمها " سأل " وكذا المعارج وهما أنسب ما فيها للدلالة على ذلك ، وقانا الله سبحانه وتعالى من آفاتها والمهالك آمين ( بسم الله ) الملك الأعظم الذي تنقطع{[20]} الأعناق والآمال{[21]} دون عليائه ( الرحمان ) الذي أوضح نعمة البيان وعم بها وشهرها حتى صارت في الوضوح إلى حد لا مطمع [ لأحد{[22]} ] في [ ادعاء-{[23]} ] خفائه ( الرحيم ) الذي [ اصطفى- ]{[24]} من عباده{[25]} من وفقه [ للفهم-{[26]} ] عنه والطاعة له ، فكان من أوليائه .
لما ختم أمر الطامة الكبرى في الحاقة حتى{[68255]} ثبت أمره ، وتساوى سره وجهره ، {[68256]}ودل عليها{[68257]} حتى لم يبق هناك نوع لبس في وجوب التفرقة في الحكمة بين {[68258]}المحسن والمسيء{[68259]} ، وختم بأن ترك ذلك مناف للكمال فيما نتعارقه{[68260]} من أمور العمال{[68261]} بعد أن أخبر أنه يعلم أن منهم مكذبين ، وكان السائل عن شيء يدل على أن{[68262]} السائل ما فهمه حق فهمه ، ولا اتصف بحقيقة علمه ، عجب في أول هذه ممن سأل عنها فقال : { سأل } ودل على أنه لو لم يسأل عنها إلا واحد من العباد لكان جديراً بالتعجب منه والإنكار عليه بالإفراد في قوله : { سائل } وهو من السؤال في قراءتي من خفف بإبدال الهمزة ألفاً ومن همز .
ولما كان سؤالهم من وقت مجيء الساعة والعذاب وطلبهم تعجيل ذلك إنما هو استهزاء ، ضمن " سأل " استهزاء ثم حذفه ودل عليه بحال انتزعها منه وحذفها ودل عليها بما تعدى به فقال ، أو أنه حذف مفعول السؤال المتعدي " بعن " ليعم{[68263]} كل مسؤول عنه إشارة إلى أن من{[68264]} تأمل الفطرة الأولى وما تدعو إليه من الكمال فأطاعها فكان مسلماً فاضت عليه العلوم ، وبرقت له متجليه أشعة الفهوم ، فبين المراد من دلالة النص بقوله : { بعذاب } أي عن يوم القيامة بسبب عذاب أو مستهزئاً بعذاب عظيم جداً { واقع * }
{ سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ ( 1 ) لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ( 2 ) مِنْ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ ( 3 ) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ( 4 ) }
دعا داع من المشركين على نفسه وقومه بنزول العذاب عليهم ، وهو واقع بهم يوم القيامة لا محالة ،