سورة النجم مكية وآياتها ثنتان وستون ، نزلت بعد سورة الإخلاص . ولسورة النجم وقع خاص ، وقافية منسجمة منغّمة ، لطيفة المبنى ، خفيفة على اللسان والسمع . وهي من السور المكية التي تعالج أصول العقيدة بموضوعاتها : الوحدانية ، والرسالة ، والبعث . وتبدأ السورة بالقسَم بالنجم أن الرسول الكريم صادق فيما يقول من الوحي من رب العالمين ، قد تلقاه عن ملك كريم شديد القوى هو جبريل . ثم تشير إلى الرحلة السماوية التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم والتقى فيها أمين السماء بأمين الأرض ، ورأى جبريل على حقيقته مرتين ، مرة في الأرض حيت تطلع في الأفق الأعلى ، ومرة أخرى عند سدرة المنتهى في السموات العلى ، ليلة الإسراء والمعراج . ويقول بعض المفسرين أن الرسول الكريم رأى ربه عند سِدرة المنتهى { عندها جنة المأوى } .
وينتقل الحديث بعد ذلك عن المشركين وتكذيبهم وتعلقهم بأصنامهم اللاّت والعزى ومناة ، ثم يتهكم الله بهم فيما يزعمونه من أن الملائكة بنات الله فيقول : { ألكم الذكر وله الأنثى } ؟ إنها قسمة جائرة ، وما هذه الأصنام إلا مجرد أسماء ليس فيها شيء من معنى الآلهة ، أنتم سميتموها وآباؤكم من قبلكم ، { ما أنزل الله بها من سلطان } ، وهي لا تنفعكم ولا تشفع لكم ، أما الله سبحانه فله وحده الآخرة والدنيا . إنكم أيها المشركون لا تعلمون الحقيقة وما تتبعون إلا الظن والأوهام .
ثم يأمر الرسول الكريم أن يُعرض عنهم ، لأنهم جاهلون بالحقائق ، والله تعالى يعلم الضالّ من المهتدي .
ثم تستعرض السورة الكريمة أصول العقيدة كما هي منذ أقدم الرسالات ، وتبين أن الإنسان معرّض للخطأ والآثام ، ولكن الذين يجتنبون كبائر الذنوب والفواحش ، ويرتكبون صغائرها يَسَعُهُم الله تعالى بمغفرته الواسعة .
بعد ذلك تُرسي السورة قواعد ثابتة ، بأن الإنسان ليس له إلا جزاء عمله ، وليس له إلا ما يسعى به ، وسوف يُعلن هذا العمل يوم القيامة { وإن إلى ربك المنتهى } وإليه يعود الجميع .
ثم توجه الأنظار إلى مصارع الغابرين ، ثم تخاطب الخلق عامة ، بقوله تعالى : { فبأي آلاء ربك تتمارى } فبأي نعمة من نعم ربك ترتاب ! !
ثم تُختم السورة الكريمة بآيات رائعة الوقع ، فيها إنذار ووعيد ، وتذكير عجيب { هذا نذير من النذر الأولى } أي إن هذا القرآن نذير من جنس النذر الأولى التي أُنذرت بها الأمم السابقة ، { أزفت الآزفة ، ليس لها من دون الله كاشفة ، أفمن هذا الحديث تَعجبون ، وتضحكون ولا تبكون ، وأنتم سامدون ، فاسجدوا لله واعبدوا } ختام رائع ، وتوجيه عظيم ، وتذكير ليس له نظير .
لقد أقسَم الله تعالى بخلْق من مخلوقاته العظيمة التي لا يعلم حقيقتَها إلا هو ، وهي نجومُ السماء ،
{ 1-18 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى }
يقسم تعالى بالنجم عند هويه أي : سقوطه في الأفق في آخر الليل عند إدبار الليل وإقبال النهار ، لأن في ذلك من آيات الله العظيمة ، ما أوجب أن أقسم به ، والصحيح أن النجم ، اسم جنس شامل للنجوم كلها ، وأقسم بالنجوم على صحة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الوحي الإلهي ، لأن في ذلك مناسبة عجيبة ، فإن الله تعالى جعل النجوم زينة للسماء ، فكذلك الوحي وآثاره زينة للأرض ، فلولا العلم الموروث عن الأنبياء ، لكان الناس في ظلمة أشد من الليل البهيم .
* والمقسم عليه ، تنزيه الرسول صلى الله عليه وسلم عن الضلال في علمه ، والغي في قصده ، ويلزم من ذلك أن يكون مهتديا في علمه ، هاديا ، حسن القصد ، ناصحا للأمة{[890]} بعكس ما عليه أهل الضلال من فساد العلم ، وفساد القصد{[891]}
مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر . وقال ابن عباس وقتادة : إلا آية منها وهي قوله تعالى : " الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش " [ النجم : 32 ] الآية . وقيل : اثنتان وستون آية . وقيل : إن السورة كلها مدنية . والصحيح أنها مكية لما روى ابن مسعود أنه قال : هي أول سورة أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة . وفي " البخاري " عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم ( سجد بالنجم ، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس ) وعن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم فسجد لها ، فما بقي أحد من القوم إلا سجد ، فأخذ رجل من القوم كفا من حصباء أو تراب فرفعه إلى وجهه وقال : يكفيني هذا . قال عبدالله : فلقد رأيته بعد قتل كافرا ، متفق عليه . الرجل يقال له{[1]} أمية بن خلف . وفي الصحيحين عن زيد بن ثابت رضي الله عنه{[2]} أنه قرأ على النبي صلى الله عليه وسلم سورة " والنجم إذا هوى " [ النجم : 1 ] فلم يسجد . وقد مضى في آخر " الأعراف{[3]} " القول في هذا والحمد لله .
قوله تعالى : " والنجم إذا هوى " قال ابن عباس ومجاهد : معنى " والنجم إذا هوى " والثريا إذا سقطت مع الفجر ، والعرب تسمي الثريا نجما وإن كانت في العدد نجوما ، يقال : إنها سبعة أنجم ، ستة منها ظاهرة وواحد{[14333]} خفي يمتحن الناس به أبصارهم . وفي " الشفا " للقاضي عياض : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى في الثريا أحد عشر نجما . وعن مجاهد أيضا أن المعنى والقرآن إذا نزل ؛ لأنه كان ينزل نجوما . وقاله الفراء . وعنه أيضا : يعني نجوم السماء كلها حين تغرب . وهو قول الحسن قال : أقسم الله بالنجوم إذا غابت . وليس يمتنع أن يعبر عنها بلفظ واحد ومعناه جمع ، كقول الراعي :
فباتت تَعُدُّ النجم في مُسْتَحِيرَةٍ *** سريع بأيدي الآكلين جُمُودُها
أحسنُ النجم في السماء الثُّريَّا *** والثريا في الأرض زَيْنُ النِّساء
وقال الحسن أيضا : المراد بالنجم النجوم إذا سقطت يوم القيامة . وقال السدي : إن النجم ههنا الزهرة ؛ لأن قوما من العرب كانوا يعبدونها . وقيل : المراد به النجوم التي ترجم بها الشياطين ، وسببه أن الله تعالى لما أراد بعث محمد صلى الله عليه وسلم رسولا كثر انقضاض الكواكب قبل مولده ، فذعر أكثر العرب منها - وفزعوا إلى كاهن كان لهم ضريرا ، كان يخبرهم بالحوادث فسألوه عنها فقال : انظروا البروج الاثني عشر فإن انقضى منها شيء فهو ذهاب الدنيا ، فإن لم ينقض منها شيء فسيحدث في الدنيا أمر عظيم ، فاستشعروا ذلك ، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو الأمر العظيم الذي استشعروه ، فأنزل الله تعالى : " والنجم إذا هوى " أي ذلك النجم الذي هوى هو لهذه النبوة التي حدثت . وقيل : النجم هنا هو النبت الذي ليس له ساق ، وهوى أي سقط على الأرض . وقال جعفر بن محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم : " والنجم " يعني محمدا صلى الله عليه وسلم " إذا هوى " إذا نزل من السماء ليلة المعراج . وعن عروة ابن الزبير رضي الله عنهما أن عتبة بن أبي لهب وكان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد الخروج إلى الشام فقال : لآتينّ محمدا فلأوذينه ، فأتاه فقال : يا محمد هو كافر بالنجم إذا هوى ، وبالذي دنا فتدلى . ثم تفل في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورد عليه ابنته وطلقها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( اللهم سلط عليه كلبا من كلابك ) وكان أبو طالب حاضرا فوجم لها وقال : ما كان أغناك يا ابن أخي عن هذه الدعوة ، فرجع عتبة إلى أبيه فأخبره ، ثم خرجوا إلى الشام ، فنزلوا منزلا ، فأشرف عليهم راهب من الدير فقال لهم : إن هذه أرض مسبعة . فقال أبو لهب لأصحابه : أغيثونا يا معشر قريش هذه الليلة ! فإني أخاف على ابني من دعوة محمد ، فجمعوا جمالهم وأناخوها حولهم ، وأحدقوا بعتبة ، فجاء الأسد يتشمّمُ وجوههم حتى ضرب عتبة فقتله . وقال حسان :
من يَرْجِع العام إلى أهله *** فما أَكِيلُ السَّبْعِ بالراجع{[14334]}
وأصل النجم الطلوع ، يقال : نجم السن ونجم فلان ببلاد كذا أي خرج على السلطان . والهوي النزول والسقوط ، يقال : هوى يهوي هويا مثل مضى يمضى مضيا ، قال زهير :
فشَجَّ بها الأمَاعِزَ{[14335]} وهي تهوي *** هُوِيّ الدّلو أسلمها الرِّشَاءُ
وقال آخر{[14336]} :
بينما نحن بالبَلاَكِث فالقا *** ع سراعاً والعِيسُ تهوي هُوِياً
خطرت خَطْرَةٌ على القلب من ذك *** راكِ وهنا فما استطعتُ مُضِيّا
الأصمعي : هوى بالفتح يهوي هويا أي سقط إلى أسفل . قال : وكذلك انهوى في السير إذا مضى فيه ، وهوى وانهوى فيه لغتان بمعنى ، وقد جمعهما الشاعر في قوله :
وكم منزل لولايَ طِحْتَ كما هَوَى *** بِأَجْرَامِهِ من قُلَّةِ النِّيقِ مَنْهَوِي{[14337]}
هذه السورة مكية وفيها من الآيات اثنا وستون آية . وهي حافلة بألوان التذكير والتحذير مما يريع ويثير .
والسورة بآياتها القصيرة ، وكلماتها المؤثرة العذاب ، وإيقاعها الشجي النفاذ ، كل ذلك يحيط النفس والخيال والذهن بظلال من الترويع والذكرى . على أن السورة مبدوءة بالقسم من الله - جل جلاله - بجزء من خلقه على صدق رسوله العظيم صلى الله عليه وسلم وحقيقة نبوته الميمونة ، وأنه لا ينطق عن الهوى وإنما يأتيه الوحي من السماء بالآيات والأخبار من ربه .
وفي السورة تنديد بعبادة الأصنام كاللات والعزى ومناة . وتلك أصنام مصطنعة بلهاء عكف المشركون على عبادتها سفها وضلالا إلى غير ذلك من المعاني والعبر مما فيه موعظة وذكرى للمعتبرين .
{ والنجم إذا هوى 1 ما ضل صاحبكم وما غوى 2 وما ينطق عن الهوى 3 إن هو إلا وحي يوحى 4 علّمه شديد القوى 5 ذو مرة فاستوى 6 وهو بالأفق الأعلى 7 ثم دنا فتدلى 8 فكان قاب قوسين أو أدنى 9 فأوحى إلى عبده ما أوحى 10 ما كذب الفؤاد ما رأى 11 أفتمارونه على ما يرى 12 ولقد رآه نزلة أخرى 13 عند سدرة المنتهى 14 عندها جنة المأوى 15 إذ يغشى السدرة ما يغشى 16 ما زاغ البصر وما طغى 17 لقد رأى من آيات ربه الكبرى } .
أقسم الله بجزء من خلقه وهو النجم إذا هوى أي إذا سقط إلى أسفل . والمراد بالنجم ههنا الثريا إذا سقطت مع الفجر . والثريا من حيث العدد جملة نجوم . وقيل : المراد نجوم السماء جميعا حين تغرب ، فقد أقسم الله بالنجوم إذا غابت . وقيل غير ذلك .
وقد روي في هذا الصدد عن عروة بن الزبير ( رضي الله عنه ) أن عتبة بن أبي لهب وكان زوجا لبنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أراد الخروج إلى الشام فقال : لآتينّ محمدا فلأوذينّه . فأتاه فقال : يا محمد هو كافر بالنجم إذا هوى وبالذي دنا فتدلى . ثم تفل في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورد عليه ابنته وطلقها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم سلط عليه كلبا من كلابك " وكان أبو طالب حاضرا فوجم{[4369]} لها وقال : ما كان أغناك با ابن أخي عن هذه الدعوة . فرجع عتبة إلى أبيه فأخبره . ثم خرجوا إلى الشام فنزلوا منزلا فأشرف عليهم راهب من الدير فقال لهم : إن هذه أرض مسبعة ( تكثر فيها السباع ) . فقال أبو لهب لأصحابه : أغيثونا يا معشر قريش هذه الليلة . فإني أخاف على ابني من دعوة محمد . فجمعوا جمالهم وأناخوها حولهم ، وأحدقوا بعتبة فجاء الأسد يتشمّم وجوههم حتى ضرب عتبة فقتله .