تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان  
{قَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوۡجِهَا وَتَشۡتَكِيٓ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسۡمَعُ تَحَاوُرَكُمَآۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٌ} (1)

مقدمة السورة:

سورة المجادلة مدنية وآياتها ثنتان وعشرون ، نزلت بعد سورة المنافقين . والجزء الثامن والعشرون بكامله مدني ، وسوره تسع ، كلها تعالج أمور المجتمع الإسلامي الجديد بما فيه من أوضاع مستجدة وسكان مختلفي العقائد والمشارب : من السابقين المهاجرين ، والأنصار المخلصين ، والمسلمين الجدد الذين لم يتمكن الإيمان في قلوبهم ، واليهود . وكان لهؤلاء سلطة كبيرة مؤثرة ، ففيهم أصحاب المال والحرف والزراعة ، وهم أهل كتاب يتميزون على غيرهم ، كما أنهم بطبيعتهم متكبرون مختالون . وهناك فئة جديدة نبتت في المدينة ، هم المنافقون الذين كانوا يُظهرون الإسلام خوفا على مصالحهم وطمعا في الغنائم ، ويضمرون الكفر ويتوددون إلى اليهود .

هكذا كان المجتمع في " المدينة " ، فجاء الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، وأخذ يبني مجتمعا إسلاميا نظيفا أساسه العدل والمساواة والإخاء بين الناس ، والله تعالى يؤيده بالقرآن الكريم .

وقد نجح النبي على أعلى المستويات في تأسيس دين قويم ، وبناء دولة إسلامية مثالية .

وتعالج سورة المجادلة بعض القضايا التي حدثت في المدينة ، بادئة بمعالجة موضوع كان شائعا في الجاهلية : يغضب الرجل لأمر من الأمور من زوجته فيقول لها : أنت عليّ كظهر أمي ، فتحرم عليه ، ولا تطلق منه ، بل تبقى معلقة ، لا هي حل له فتقوم بينهما الصلات الزوجية ولا هي مطلقة منه فتجد لها طريقا آخر . وكان هذا بعض ما تلاقيه المرأة من العَنت في الجاهلية . روى الإمام أحمد وأبو داود في سننه عن خولة بنت ثعلبة قالت : فيَّ والله وفي أوس بن الصامت أنزل الله صدر هذه السورة ، كنت عنده ، وكان شيخا قد ساء خلقه . فدخل عليّ يوما فراجعته بشيء . فغضب ، فقال : أنتِ علي كظهر أمي . . . فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلست بين يديه ، وجعلت أشكو إليه ما ألقى من سوء خلقه . وجعل الرسول يقول : يا خويلة ، ابنُ عمك شيخ كبير فاتقي الله فيه .

قالت : فوالله ما برحتُ حتى نزل فيّ قرآن ، فقال لي رسول الله :

يا خويلة ، قد أنزل الله فيك وفي صاحبك قرآنا :

{ قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله ، والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير } إلى آخر الآيات . ثم قال لي رسول الله : " مريه فليعتق رقبة " . فقلت : يا رسول الله ما عنده ما يعتق ! قال : " فليصمْ شهرين متتابعين " قلت : والله إنه لشيخ ما له من صيام ! قال : " فليطعم ستين مسكينا وَسْقا من تمر " . قلت : والله يا رسول الله ما ذاك عنده ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإنا سنعينه بعرق من تمر .

قلت : وأنا سأعينه بعرق آخر ، قال :

" أصبت وأحسنتِ ، فاذهبي وتصدقي به عنه ، ثم استوصي بابن عمك خيرا " .

قالت : ففعلت .

ما أجمل هذا الإسلام ، وما أعظم هذا التشريع { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } وهكذا أبطل الإسلام هذه العادة من الجاهلية .

ثم بعد ذلك ينعَى الله في هذه السورة في أكثر من آية على المعاندين لدينه ، ويحذّرهم من التناجي بالإثم والعدوان ، ويرشد المؤمنين إلى أدب المناجاة بين بعضهم البعض ، وبينهم وبين الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم . كما ينعَى على المنافقين موالاتهم لليهود ، ويصفهم بأنهم حزب الشيطان الخاسرون .

وختمت السورة بوصف جامع لما يجب أن يكون عليه المؤمنون من إيثار رضا الله ورسوله على من عداهما ، ولو كانوا آباءهم أو إخوانهم ، أو عشيرتهم ، ويصفهم بأنهم حزب الله المفلحون .

تُجادلك : تراجعك في أمرها ، وهي خولة بنت ثعلبة بن مالك الخزرجية الأنصارية ، وزوجها : أوس بن الصامت ، أخو عبادة بن الصامت الصحابيّ الجليل المدفون بالقدس .

واللهُ يسمع تحاوركما : يسمع ما يدور بينكما من الكلام .

قد سمع اللهُ قولَ التي تراجعك في موضوع طلاقها من زوجها ، وتشتكي إلى الله ما أصابها ، والله يسمع ما يدور بينكما من المحاورة والكلام { إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ } .

قراءات :

قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بإدغام الدال في السين في قوله : قد سمع . والباقون : بالإظهار : قد سمع ، بإسكان الدال وفتح السين .