روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{قَدۡ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوۡلَ ٱلَّتِي تُجَٰدِلُكَ فِي زَوۡجِهَا وَتَشۡتَكِيٓ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسۡمَعُ تَحَاوُرَكُمَآۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعُۢ بَصِيرٌ} (1)

مقدمة السورة:

سورة المجادلة

بفتح الدال وكسرها والثاني هو المعروف وتسمى سورة قد سمع وسميت في مصحف أبي رضي الله تعالى عنه الظهار وهي على ما روي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى مدنية قال الكلبي : وابن السائب : إلا قوله تعالى : ( ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ) وعن عطاء : العشر الأول منها مدني باقيها مكي وقد انعكس ذلك على البيضاوي وأنها إحدى وعشرون في المكي والمدني الأخير واثنتان وعشرون في الباقي وفي التيسير هي عشرون وأربع آيات وهو خلاف المعروف في كتاب العدد . ووجه مناسبتها لما قبلها أن الأولى ختمت بفضل الله تعالى وافتتحت هذه بما هو من ذلك وقال بعض الأجلة ذلك : لما كان في مطلع الأولى ذكر صفاته تعالى الجليلة ومنها الظاهر والباطن وقال سبحانه : ( يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم ) افتتح هذه بذكر أنه جل وعلا سمع قول المجادلة التي شكت إليه تعالى ولهذا قالت عائشة فيما رواه النسائي وابن ماجه والبخاري تعليقا حين نزلت : الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم تكلمه وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول فأنزل الله تعالى ( قد سمع ) الخ وذكر سبحانه بعد ذلك ( ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ) الآية وهي تفصيل لأجمال قوله تعالى : ( وهو معكم أينما كنتم ) وبذلك تعرف الحكمة في الفصل بها بين الحديد والحشر مع تواخيهما في الأفتتاح بسبح إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتأهل .

بسم الله الرحمن الرحيم { قَدْ سَمِعَ الله } بإظهار الدار ، وقرأ أبو عمرو . وحمزة . والكسائي . وابن محيصن بادغامها في السين ، قال خلف بن هشام البزار : سمعت الكسائي يقول : من قرأ قد سمع فبين الدال فلسانه أعجمي ليس بعربي ، ولا يلتفت إلى هذا فكلا الأمرين فصيح متواتر بل الجمهور على البيان { قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ في زَوْجِهَا } أي تراجعك الكلام في شأنه وفيما صدر عنه في حقها من الظهار ، وقرء تحاورك والمعنى على ما تقدم وتحاولك أي تسائلك { وَتَشْتَكِى إِلَى الله } عطف على { تُجَادِلُكَ } فلا محل للجملة من الإعراب ، وجوز كونها حالاً أي تجادلك شاكية حالها إلى الله تعالى ، وفيه بعد معنى ، ومع هذا يقدر معها مبتدأ أي وهي تشتكي لأن المضارعية لا تقترن بالواو في الفصيح فيقدر معها المبتدأ لتكون اسمية ، واشتكاؤها إليه تعالى إظهار بثها وما انطوت عليه من الغم والهم وتضرعها إليه عز وجل وهو من الشكو ، وأصله فتح الشكوة وإظهار ما فيها ، وهي سقاء صغير يجعل فيه الماء ثم شاع في ذلك ، وهي امرأة صحابية من الأنصار اختلف في اسمها واسم أبيها ، فقيل : خولة بنت ثعلبة بن مالك ، وقيل : بنت خويلد ، وقيل : بنت حكيم ، وقيل : بنت الصامت ، وقيل : خويلة بالتصغير بنت ثعلبة ، وقيل : بنت مالك بن ثعلبة ، وقيل : جميلة بنت الصامت ، وقيل : غير ذلك ، والأكثرون على أنها خولة بنت ثعلبة بن مالك الخزرجية ، وأكثر الرواة على أن الزوج في هذه النازلة أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت ، وقيل : هو سلمة بن صخر الأنصاري ، والحق أن لهذا قصة أخرى ، والآية نزلت في خولة وزوجها أوس ، وذلك أن زوجها أوساً كان شيخاً كبيراً قد ساء خلقه فدخل عليها يوماً فراجعته بشيء فغضب ، فقال : أنت علي كظهر أمي ، وكان الرجل في الجاهلية إذا قال ذلك لامرأته حرمت عليه وكان هذا أول ظهار في الإسلام فندم من ساعته فدعاها فأبت ، وقالت : والذي نفس خولة بيده لا تصل إليّ وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فينا ، فأتت رسول الله عليه الصلاة والسلام فقالت : يا رسول الله إن أوساً تزوجني وأنا شابة مرغوب في فلما خلا سني ونثرت بطني أي كثر ولدي جعلني عليه كأمه وتركني إلى غير أحد فإن كنت تجد لي رخصة يا رسول الله تنعشني بها وإياه فحدثني بها ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : «والله ما أمرت في شأنك بشيء حتى الآن » وفي رواية «مَا أَرَاك إِلا قَدْ حرمت عَلَيْهِ »

قالت : ما ذكر طلاقاً ، وجادلت رسول الله عليه الصلاة والسلام مراراً ثم قالت : اللهم إني أشكو إليه شدة وحدتي وما يشق علي من فراقه ، وفي رواية قالت : أشكو إلى الله تعالى فاقتي وشدة حالي وإن لي صبية صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إلي جاعوا ، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول : اللهم إني أشكو إليك اللهم فأنزل علي لسان نبيك وما برحت حتى نزل القرآن فيها ، فقال صلى الله عليه وسلم : " يا خولة أبشري قالت : خيراً ؟ فقرأ عليه الصلاة والسلام عليها { قَدْ سَمِعَ الله الآيات } " وكان عمر رضي الله تعالى عنه يكرمها إذا دخلت عليه ويقول : قد سمع الله تعالى لها .

وروى ابن أبي حاتم . والبيهقي في الأسماء والصفات أنها لقيته رضي الله تعالى عنه وهو يسير مع الناس فاستوقفته فوقف لها ودنا منها وأصغى إليها ووضع يده على منكبيها حتى قضت حاجتها وانصرفت ، فقال له رجل : يا أمير المؤمنين حبست رجال قريش على هذه العجوز قال : ويحك أتدري من هذه ؟ قال : لا قال : هذه امرأة سمع الله تعالى شكواها من فوق سبع سموات هذه خولة بنت ثعلبة ، والله لو لم تنصرف حتى أتى الليل ما انصرفت حتى تقضي حاجتها ، وفي رواية للبخاري في «تاريخه » أنها قالت له : قف يا عمر فوقف فأغلظت له القول ، فقال رجل : يا أمير المؤمنين ما رأيت كاليوم فقال رضي الله تعالى عنه : وما يمنعني أن أستمع إليها وهي التي استمع الله تعالى لها فأنزل فيها ما أنزل { قَدْ سَمِعَ الله } الآيات ، والسماع مجاز عن القبول والإجابة بعلاقة السببية أو كناية عن ذلك ، و { قَدْ } للتحقيق أو للتوقع ، وهو مصروف إلى تفريج الكرب لا إلى السمع لأنه محقق أو إلى السمع لأنه مجاز أو كناية عن القبول ، والمراد توقع المخاطب ذلك ، وقد كان صلى الله عليه وسلم يتوقع أن ينزل الله تعالى حكم الحادثة ويفرج عن المجادلة كربها ، وفي الأخبار ما يشعر بذلك ، والسمع في قوله تعالى :

{ والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُما } على ما هو المعروف فيه من كونه صفة يدرك بها الأصوات غير صفة العلم ، أو كونه راجعاً إلى صفة العلم ، والتحاور المرادّة في الكلام ، وجوز أن يراد به الكلام المردد ، ويقال : كلمته فما رجع إلى حواراً . وحويراً . ومحورة أي مارد على بشيء ، وصيغة المضارع للدلالة على استمرار السمع حسب استمرار التحاور وتجدده ، وفي نظمها في سلك الخطاب تغليباً تشريف لها من جهتين ، والجملة استئناف جار مجرى التعليل لما قبله فإن إلحافها في المسألة ومبالغتها في التضرع إلى الله تعالى ومدافعته عليه الصلاة والسلام إياها وعلمه عز وجل بحالهما من دواعي الإجابة ، وقيل : هي حال كالجملة السابقة ، وفيه أيضاً بعد ، وقوله تعالى : { إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ } تعليل لما قبله بطريق التحقيق أي أنه تعالى يسمع كل المسموعات ويبصر كل المبصرات على أتم وجه وأكمله ومن قضية ذلك أن يسمع سبحانه { تحاورهما } ، ويرى ما يقارنه من الهيئات التي من جملتها رفع رأسها إلى السماء وسائر آثار التضرع ، والاسم الجليل في الموضعين لتربية المهابة وتعليل الحكم بما اشتهر به الاسم الجليل من وصف الألوهية وتأكيد استقلال الجملتين .