الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِي قَالَ لِوَٰلِدَيۡهِ أُفّٖ لَّكُمَآ أَتَعِدَانِنِيٓ أَنۡ أُخۡرَجَ وَقَدۡ خَلَتِ ٱلۡقُرُونُ مِن قَبۡلِي وَهُمَا يَسۡتَغِيثَانِ ٱللَّهَ وَيۡلَكَ ءَامِنۡ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞ فَيَقُولُ مَا هَٰذَآ إِلَّآ أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ} (17)

قوله تعالى : " والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن اخرج " أي أن أبعث . " وقد خلت القرون من قبلي " قراءة نافع وحفص وغيرهما " أف " مكسور منون . وقرأ ابن كثير وابن محيصن وابن عامر والمفضل عن عاصم " أف " بالفتح من غير تنوين . الباقون بالكسر غير منون ، وكلها لغات ، وقد مضى في " بني إسرائيل " {[13842]} . وقراءة العامة " أتعدانني " بنونين مخففتين . وفتح ياءه أهل المدينة ومكة . وأسكن الباقون . وقرأ أبو حيوة والمغيرة وهشام " أتعداني " بنون واحدة مشددة ، وكذلك هي في مصاحف أهل الشام . والعامة على ضم الألف وفتح الراء من " أن أخرج " . وقرأ الحسن ونصر وأبو العالية والأعمش وأبو معمر بفتح الألف وضم الراء . قال ابن عباس والسدي وأبو العالية ومجاهد : نزلت في عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما ، وكان يدعوه أبواه إلى الإسلام فيجيبهما بما أخبر الله عز وجل .

وقال قتادة والسدي أيضا : هو عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه ، وكان أبوه وأمه أم رومان يدعوانه إلى الإسلام ويعدانه بالبعث ، فيرد عليهما بما حكاه الله عز وجل عنه ، وكان هذا منه قبل إسلامه . وروي أن عائشة رضي الله عنها أنكرت أن تكون نزلت في عبد الرحمن . وقال الحسن وقتادة أيضا : هي نعت عبد كافر عاق لوالديه . وقال الزجاج : كيف يقال نزلت في عبد الرحمن قبل إسلامه والله عز وجل يقول : " أولئك الذين حق عليهم القول في أمم " أي العذاب ، ومن ضرورته عدم الإيمان ، وعبد الرحمن من أفاضل المؤمنين ، فالصحيح أنها نزلت في عبد كافر عاق لوالديه . وقال محمد بن زياد : كتب معاوية إلى مروان بن الحكم حتى يبايع الناس ليزيد ، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر : لقد جئتم بها هرقلية{[13843]} ، أتبايعون لأبنائكم فقال مروان : هو الذي يقول الله فيه : " والذي قال لوالديه أف لكما " الآية . فقال : والله ما هو به . ولو شئت لسميت ، ولكن الله لعن أباك وأنت في صلبه ، فأنت فضض{[13844]} من لعنة الله . قال المهدوي : ومن جعل الآية في عبد الرحمن كان قوله بعد ذلك " أولئك الذين حق عليهم القول " يراد به من اعتقد ما تقدم ذكره ، فأول الآية خاص وآخرها عام . وقيل إن عبد الرحمن لما قال : " وقد خلت القرون من قبلي " قال مع ذلك : فأين عبد الله بن جدعان ، وأين عثمان بن عمرو ، وأين عامر بن كعب ومشايخ قريش حتى أسألهم عما يقولون . فقول : " أولئك الذين حق عليهم القول " يرجع إلى أولئك الأقوام .

قلت : قد مضى من خبر عبد الرحمن بن أبي بكر في سورة ( الأنعام ) عند قوله : " له أصحاب يدعونه إلى الهدى " {[13845]} [ الأنعام : 71 ] ما يدل على نزول هذه الآية فيه ، إذ كان كافرا وعند إسلامه وفضله تعين أنه ليس المراد بقوله : " أولئك الذين حق عليهم القول " . " وهما " يعني والديه . " يستغيثان الله " أي يدعوان الله له بالهداية . أو يستغيثان بالله من كفره ، فلما حذف الجار وصل الفعل فنصب . وقيل : الاستغاثة الدعاء ، فلا حاجة إلى الباء . قال الفراء : أجاب الله دعاءه وغواثه . " ويلك آمن " أي صدق بالبعث . " إن وعد الله حق " أي صدق لا خلف فيه . " فيقول ما هذا " أي ما يقوله والداه . " إلا أساطير الأولين " أي أحاديثهم وما سطروه مما لا أصل له .


[13842]:راجع ج 10 ص 242.
[13843]:أراد أن البيعة لأولاد الملوك سنة ملوك الروم، وهرقل: اسم ملك الروم.
[13844]:كل ما انقطع من شيء أو تفرّق فهو فضض، أراد أنك قطعة وطائفة منها.
[13845]:راجع ج 7 ص 18.
 
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي - ابن جزي [إخفاء]  
{وَٱلَّذِي قَالَ لِوَٰلِدَيۡهِ أُفّٖ لَّكُمَآ أَتَعِدَانِنِيٓ أَنۡ أُخۡرَجَ وَقَدۡ خَلَتِ ٱلۡقُرُونُ مِن قَبۡلِي وَهُمَا يَسۡتَغِيثَانِ ٱللَّهَ وَيۡلَكَ ءَامِنۡ إِنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقّٞ فَيَقُولُ مَا هَٰذَآ إِلَّآ أَسَٰطِيرُ ٱلۡأَوَّلِينَ} (17)

{ والذي قال لوالديه أف لكما } قال مروان بن الحكم : نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق حين كفره كان أبوه وأمه يدعوانه إلى الإسلام فيأبى ويقول لهما أف ، وأنكرت عائشة رضي الله عنها ذلك ، وقالت : والله ما نزل في آل أبي بكر شيء من القرآن إلا براءتي ، ويبطل ذلك قطعا قوله تعالى : { أولئك الذين حق عليهم القول } لأن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق أسلم وكان من خيار المسلمين ، وكان له في الجهاد غنى عظيم ، وقال السدي : ما رأيت أعبد منه ، وقال ابن عباس : نزلت في ابن لأبي بكر ولم يسمه ، ويرد ذلك ما ذكرناه عن عائشة وقيل : هي على الإطلاق فيمن كان على هذه الصفة من الكفر والعقوق لوالديه ، ويدل على أنها عامة قوله تعالى : { أولئك الذين حق عليهم القول } بصيغة الجمع ، ولو أراد واحدا بعينه لقال ذلك الذي حق عليه القول ، وقد ذكرنا معنى { أف } في الإسراء .

{ أتعدانني أن أخرج } أي : أتعدانني أنا أن أخرج من القبر إلى البعث .

{ وقد خلت القرون من قبلي } أي : وقد مضت قرون من الناس ولم يبعث منهم أحد .

{ وهما يستغيثان الله } الضمير لوالديه أي : يستغيثان بالله من كراهتهما لما يقول منهما ثم يقولان له ويلك ثم يأمرانه بالإيمان : فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين أي : قد سطره الأولون في كتبهم ، وذلك تكذيب بالبعث والشريعة .