الأولى : قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله " خطاب للمؤمنين حقا ؛ أي لا تتعدوا حدود الله في أمر من الأمور . والشعائر جمع شعيرة على وزن فعيلة . وقال ابن فارس : ويقال للواحدة شعارة ، وهو أحسن . والشعيرة البدنة تهدى ، وإشعارها أن يجز سنامها حتى يسيل منه الدم فيعلم أنها هدي . والإشعار الإعلام من طريق الإحساس ، يقال : أشعر هديه أي جعل له علامة ليعرف أنه هدي ، ومنه المشاعر المعالم ، واحدها مشعر وهي المواضع التي قد أشعرت بالعلامات . ومنه الشعر ؛ لأنه يكون بحيث يقع الشعور ، ومنه الشاعر ؛ لأنه يشعر بفطنته لما لا يفطن له غيره ، ومنه الشعير لشعرته التي في رأسه ، فالشعائر على قول ما أشعر من الحيوانات لتهدى إلى بيت الله ، وعلى قول جميع مناسك الحج . قاله ابن عباس . وقال مجاهد : الصفا والمروة والهدي والبدن كل ذلك من الشعائر . وقال الشاعر{[5217]} :
نُقَتِّلُهُمْ جِيلاً فجيلاً تراهُمُ *** شعائرَ قربانٍ بها يُتَقَرَّبُ
وكان المشركون يحجون ويعتمرون ويهدون فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم ، فأنزل الله تعالى : " لا تحلوا شعائر الله " . وقال عطاء بن أبي رباح : شعائر الله جميع ما أمر الله به ونهى عنه . وقال الحسن : دين الله كله . كقوله : " ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب " {[5218]} [ الحج : 32 ] أي دين الله .
قلت : وهذا القول هو الراجح الذي يقدم على غيره لعمومه . وقد اختلف العلماء في إشعار الهدي وهي :
الثانية : فأجازه الجمهور ؛ ثم اختلفوا في أي جهة يشعر . فقال الشافعي وأحمد وأبو ثور : يكون في الجانب الأيمن ، وروي عن ابن عمر . وثبت عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم أشعر ناقته في صفحة سنامها الأيمن . أخرجه مسلم وغيره وهو الصحيح . وروي أنه أشعر بدنه من الجانب الأيسر . قال أبو عمر بن عبدالبر : هذا عندي حديث منكر من حديث ابن عباس . والصحيح حديث مسلم عن ابن عباس ، قال : ولا يصح عنه غيره . وصفحة السنام جانبه ، والسنام أعلى الظهر . وقالت طائفة : يكون في الجانب الأيسر ، وهو قول مالك ، وقال : لا بأس به في الجانب الأيمن . وقال مجاهد : من أي الجانبين شاء . وبه قال أحمد في أحد قوليه . ومنع من هذا كله أبو حنيفة وقال : إنه تعذيب للحيوان ، والحديث يرد عليه ، وأيضا فذلك يجري مجرى الوسم الذي يعرف به الملك كما تقدم ، وقد أوغل ابن العربي على أبي حنيفة في الرد والإنكار حين لم ير الإشعار فقال : كأنه لم يسمع بهذه الشعيرة في الشريعة ! لهي أشهر منه في العلماء .
قلت : والذي رأيته منصوصا في كتب علماء الحنفية الإشعار مكروه من قول أبي حنيفة ، وعند أبي يوسف ومحمد ليس بمكروه ولا سنة بل هو مباح ؛ لأن الإشعار لما كان إعلاما كان سنة بمنزلة التقليد ، ومن حيث أنه جرح ومثلة كان حراما ، فكان مشتملا على السنة والبدعة فجعل مباحا . ولأبي حنيفة أن الإشعار مثلة وأنه حرام من حيث إنه تعذيب الحيوان فكان مكروها ، وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان في أول الابتداء حين كانت العرب تنتهب كل مال إلا ما جعل هديا ، وكانوا لا يعرفون الهدي إلا بالإشعار ثم زال لزوال العذر ، هكذا روي عن ابن عباس . وحكي عن الشيخ الإمام أبي منصور الماتريدي رحمه الله تعالى أنه قال : يحتمل أن أبا حنيفة كره إشعار أهل زمانه ، وهو المبالغة في البضع على وجه يخاف منه السراية{[5219]} ، أما ما لم يجاوز الحد فعل كما كان يفعل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو حسن ، وهكذا ذكر أبو جعفر الطحاوي . فهذا اعتذار علماء الحنفية لأبي حنيفة عن الحديث الذي ورد في الإشعار ، فقد سمعوه ووصل إليهم وعلموه . قالوا : وعلى القول بأنه مكروه لا يصير به أحد محرما ؛ لأن مباشرة المكروه لا تعد من المناسك .
الثالثة : قوله تعالى : " ولا الشهر الحرام " اسم مفرد يدل على الجنس في جميع الأشهر الحرم وهي أربعة : واحد فرد وثلاثة سرد{[5220]} ، يأتي بيانها في " براءة " {[5221]} ؛ والمعنى : لا تستحلوها للقتال ولا للغارة ولا تبدلوها ، فإن استبدالها استحلال ، وذلك ما كانوا يفعلونه من النسيء ، وكذلك قوله : " ولا الهدي ولا القلائد " أي لا تستحلوه ، وهو على حذف مضاف أي ولا ذوات القلائد جمع قلادة . فنهى سبحانه عن استحلال الهدي جملة ، ثم ذكر المقلد منه تأكيدا ومبالغة في التنبيه على الحرمة في التقليد .
الرابعة : قوله تعالى : " ولا الهدي ولا القلائد " الهدي ما أهدي إلى بيت الله تعالى من ناقة أو بقرة أو شاة . الواحدة هدية وهدية وهدي . فمن قال : أراد بالشعائر المناسك قال : ذكر الهدي تنبيها على تخصيصها . ومن قال : الشعائر الهدي قال : إن الشعائر ما كان مشعرا أي معلما بإسالة الدم من سنامه ، والهدي ما لم يشعر ، اكتفى فيه بالتقليد . وقيل : الفرق أن الشعائر هي البدن من الأنعام . والهدي البقر والغنم والثياب وكل ما يهدى . وقال الجمهور : الهدي عاما في جميع ما يتقرب به من الذبائح والصدقات ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : ( المبكر إلى الجمعة كالمهدي بدنة ) إلى أن قال : ( كالهدي بيضة ) فسماها هديا ، وتسمية البيضة هديا لا محمل له إلا أنه أراد به الصدقة ، وكذلك قال العلماء : إذا قال جعلت ثوبي هديا فعليه أن يتصدق به ، إلا أن الإطلاق إنما ينصرف إلى أحد الأصناف الثلاثة من الإبل والبقر والغنم ، وسوقها إلى الحرم وذبحها فيه ، وهذا إنما تلقي من عرف الشرع في قوله تعالى : " فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي{[5222]} " [ البقرة : 196 ] وأراد به الشاة ، وقال تعالى : " يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة{[5223]} " [ المائدة : 95 ] وقال تعالى : " فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي " [ البقرة : 196 ] وأقله شاة عند الفقهاء . وقال مالك : إذا قال ثوبي هدي يجعل ثمنه في هدي . " والقلائد " ما كان الناس يتقلدونه أمنة لهم ، فهو على حذف مضاف ، أي ولا أصحاب القلائد ثم نسخ . قال ابن عباس : آيتان نسختا من " المائدة " آية القلائد وقوله : " فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم " [ المائدة : 42 ] فأما القلائد فنسخها الأمر بقتل المشركين حيث كانوا وفي أي شهر كانوا . وأما الأخرى فنسخها قوله تعالى : " وأن احكم بينهم بما أنزل الله " [ المائدة : 49 ] على ما يأتي . وقيل : أراد بالقلائد نفس القلائد ، فهو نهي عن أخذ لحاء{[5224]} شجر الحرم حتى يتقلد به طلبا للأمن . قاله مجاهد وعطاء ومطرف بن الشخير . والله أعلم .
وحقيقة الهدي كل معطى لم يذكر معه عوض . وأتفق الفقهاء على أن من قال : لله علي هدي أنه يبعث بثمنه إلى مكة . وأما القلائد فهي كل ما علق على أسنمة الهدايا وأعناقها علامة أنه لله سبحانه ، من نعل أو غيره ، وهي سنة إبراهيمية بقيت في الجاهلية وأقرها الإسلام ، وهي سنة البقر والغنم . قالت عائشة رضي الله عنها : أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة إلى البيت غنما فقلدها . أخرجه البخاري ومسلم ، وإلى هذا صار جماعة من العلماء : الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وابن حبيب ، وأنكره مالك وأصحاب الرأي وكأنهم لم يبلغهم هذا الحديث في تقليد الغنم ، أو بلغ لكنهم ردوه لانفراد الأسود به عن عائشة رضي الله عنها ، فالقول به أولى . والله أعلم .
وأما البقر فإن كانت لها أسنمة أشعرت كالبدن . قاله ابن عمر ، وبه قال مالك . وقال الشافعي : تقلد وتشعر مطلقا ولم يفرقوا . وقال سعيد بن جبير : تقلد ولا تشعر ، وهذا القول أصح إذ ليس لها سنام ، وهي أشبه بالغنم منها بالإبل . والله أعلم .
الخامسة : واتفقوا فيمن قلد بدنة على نية الإحرام وساقها أنه يصير محرما . قال الله تعالى : " لا تحلوا شعائر الله " إلى أن قال : " فاصطادوا " ولم يذكر الإحرام لكن لما ذكر التقليد عرف أنه بمنزلة الإحرام .
السادسة : فإن بعث بالهدي ولم يسق بنفسه لم يكن محرما ؛ لحديث عائشة قالت : أنا فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ، ثم قلدها بيديه ، ثم بعث بها مع أبي فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء أحله الله له حتى نحر الهدي . أخرجه البخاري ، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وجمهور العلماء . وروي عن ابن عباس أنه قال : يصير محرما . قال ابن عباس : من أهدى هديا حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر الهدي . رواه البخاري ؛ وهذا مذهب ابن عمر وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير ، وحكاه الخطابي عن أصحاب الرأي ، واحتجوا بحديث جابر بن عبدالله قال : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم جالسا فقد قميصه من جيبه ثم أخرجه من رجليه ، فنظر القوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( إني أمرت ببدني التي بعثت بها أن تقلد وتشعر على مكان كذا وكذا فلبست قميصي ونسيت فلم أكن لأخرج قميصي من رأسي ) وكان بعث ببدنه وأقام بالمدينة . في إسناده عبدالرحمن بن عطاء بن أبي{[5225]} لبيبة وهو ضعيف . فإن قلد شاة وتوجه معها فقال الكوفيون : لا يصير محرما ؛ لأن تقليد الشاة ليس بمسنون ولا من الشعائر ؛ لأنه يخاف عليها الذئب فلا تصل إلى الحرم بخلاف البدن ، فإنها تترك حتى ترد الماء وترعى الشجر وتصل إلى الحرم . وفي صحيح البخاري عن عائشة أم المؤمنين قالت : فتلت قلائدها من عهن كان عندي .
العهن الصوف المصبوغ ؛ ومنه قوله تعالى : " وتكون الجبال كالعهن المنفوش{[5226]} " [ القارعة : 5 ] .
السابعة : ولا يجوز بيع الهدي ولا هبته إذا قلد أو أشعر ؛ لأنه قد وجب ، وإن مات موجبه لم يورث عنه ونفذ لوجهه ، بخلاف الأضحية فإنها لا تجب إلا بالذبح خاصة عند مالك إلا أن يوجبها بالقول ، فإن أوجبها بالقول قبل الذبح فقال : جعلت هذه الشاة أضحية تعينت ، وعليه إن تلفت ثم وجدها أيام الذبح أو بعدها ذبحها ولم يجز له بيعها ، فإن كان اشترى أضحية غيرها ذبحهما جميعا في قول أحمد وإسحاق . وقال الشافعي : لا بدل عليه إذا ضلت أو سرقت ، إنما الإبدال في الواجب . وروي عن ابن عباس أنه قال : إذا ضلت فقد أجزأت . ومن مات يوم النحر قبل أن يضحي كانت ضحيته موروثة عنه كسائر ماله بخلاف الهدي . وقال أحمد وأبو ثور : تذبح بكل حال . وقال الأوزاعي : تذبح إلا أن يكون عليه دين لا وفاء له إلا من تلك الأضحية فتباع في دينه . ولو مات بعد ذبحها لم يرثها عنه ورثته ، وصنعوا بها من الأكل والصدقة ما كان له أن يصنع بها ، ولا يقتسمون لحمها على سبيل الميراث . وما أصاب الأضحية قبل الذبح من العيوب كان على صاحبها بدلها بخلاف الهدي ، هذا تحصيل مذهب مالك . وقد قيل في الهدي على صاحبه البدل ، والأول أصوب . والله أعلم . قال أبو الليث السمرقندي : وقوله تعالى : " ولا الشهر الحرام " منسوخ بقوله : " وقاتلوا المشركين كافة " [ التوبة : 36 ] وقوله : " ولا الهدي ولا القلائد " محكم لم ينسخ ؛ فكل من قلد الهدي ونوى الإحرام صار محرما لا يجوز له أن يحل بدليل هذه الآية ؛ فهذه الأحكام معطوف بعضها على بعض ، بعضها منسوخ وبعضها غير منسوخ .
الثامنة : قوله تعالى : " ولا آمين البيت الحرام " يعني القاصدين له ، من قولهم أممت كذا أي قصدته . وقرأ الأعمش : " ولا آمي البيت الحرام " بالإضافة كقوله : " غير محلي الصيد " والمعنى : لا تمنعوا الكفار القاصدين البيت الحرام على جهة التعبد والقربة ، وعليه فقيل : ما في هذه الآيات من نهي عن مشرك ، أو مراعاة حرمة له بقلادة ، أو أم البيت فهو كله منسوخ بآية السيف في قوله : " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم{[5227]} " [ التوبة : 5 ] وقوله : " فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا " [ التوبة : 28 ] فلا يمكن المشرك من الحج ، ولا يؤمن في الأشهر الحرم وإن أهدى وقلد وحج . روي عن ابن عباس وقاله ابن زيد على ما يأتي ذكره . وقال قوم : الآية محكمة لم تنسخ وهي في المسلمين ، وقد نهى الله عن إخافة من يقصد بيته من المسلمين . والنهي عام في الشهر الحرام وغيره ، ولكنه خص الشهر الحرام بالذكر تعظيما وتفضيلا ، وهذا يتمشى على قول عطاء ؛ فإن المعنى لا تحلوا معالم الله ، وهي أمره ونهيه وما أعلمه الناس فلا تحلوه ؛ ولذلك قال أبو ميسرة : هي محكمة . وقال مجاهد : لم ينسخ منها إلا " القلائد " وكان الرجل يتقلد بشيء من لحاء الحرم{[5228]} فلا يقرب فنسبخ ذلك . وقال ابن جريج : هذه الآية نهي عن الحجاج أن تقطع سبلهم . وقال ابن زيد : نزلت الآية عام الفتح ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، جاء أناس من المشركين يحجون ويعتمرون فقال المسلمون : يا رسول الله إنما هؤلاء مشركون فلن ندعهم إلا أن نغير عليهم ، فنزل القرآن " ولا آمين البيت الحرام " . وقيل : كان هذا لأمر شريح بن ضبيعة البكري{[5229]} - ويلقب بالحطم - أخذته جند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في عمرته فنزلت هذه الآية ، ثم نسخ هذا الحكم كما . ذكرنا . وأدرك الحطم هذا ردة اليمامة فقتل مرتدا وقد روي من خبره أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، وخلف خيله خارج المدينة فقال : إلام تدعو الناس ؟ فقال : ( إلى شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ) فقال : حسن ، إلا أن لي أمراء لا أقطع أمرا دونهم ولعلي أسلم وآتي بهم ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : ( يدخل عليكم رجل يتكلم بلسان شيطان ) ثم خرج من عنده فقال عليه الصلاة والسلام : ( لقد دخل بوجه كافر وخرج بقفا غادر وما الرجل بمسلم ) . فمر بسرح{[5230]} المدينة فاستاقه ، فطلبوه فعجزوا عنه ، فانطلق وهو يقول :
قد لفها الليل بسَوَّاقٍ حُطَمْ{[5231]} *** ليس براعي إبل ولا غَنَمْ
ولا بجزَّارٍ على ظهر وَضَمْ{[5232]} *** باتوا نياما وابن هند لم يَنَمْ
بات يقاسيها غلام كالزُّلَمْ{[5233]} *** خَدَلَّج{[5234]} الساقين خفَّاقَ القَدَمْ{[5235]}
فلما خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام القضية{[5236]} سمع تلبية حجاج اليمامة فقال : ( هذا الحطم وأصحابه ) . وكان قد قلد ما نهب من سرح المدينة وأهداه إلى مكة{[5237]} ، فتوجهوا في طلبه ، فنزلت الآية ، أي لا تحلوا ما أشعر لله وإن كانوا مشركين ، ذكره ابن عباس .
التاسعة : وعلى أن الآية محكمة قوله تعالى : " لا تحلوا شعائر الله " يوجب إتمام أمور المناسك ؛ ولهذا قال العلماء : إن الرجل إذا دخل في الحج ثم أفسده فعليه أن يأتي بجميع أفعال الحج ، ولا يجوز أن يترك شيئا منها وإن فسد حجه ؛ ثم عليه القضاء في السنة الثانية .
قال أبو الليث السمرقندي : وقوله تعالى : { ولا الشهر الحرام } منسوخ بقوله : { وقاتلوا المشركين كافة }{[5238]} وقوله : { ولا الهدي ولا القلائد } محكم لم ينسخ ، فكل من قلد الهدي ونوى الإحرام صار محرما لا يجوز له أن يحل بدليل هذه الآية ، فهذه الأحكام معطوف بعضها على بعض ، بعضها منسوخ وبعضها غير منسوخ .
العاشرة : قوله تعالى : " يبتغون فضلا من ربهم ورضوانا " قال فيه جمهور المفسرين : معناه يبتغون الفضل والأرباح في التجارة ، ويبتغون مع ذلك رضوانه في ظنهم وطمعهم . وقيل : كان منهم من يبتغي التجارة ، ومنهم من يطلب بالحج رضوان الله وإن كان لا يناله ، وكان من العرب من يعتقد جزاء بعد الموت ، وأنه يبعث ، ولا يبعد أن يحصل له نوع تخفيف في النار . قال ابن عطية : هذه الآية استئلاف من الله تعالى للعرب ولطف بهم ؛ لتنبسط النفوس ، وتتداخل الناس ، ويردون الموسم فيستمعون القرآن ، ويدخل الإيمان في قلوبهم وتقوم عندهم الحجة كالذي كان . وهذه الآية نزلت عام الفتح فنسخ الله ذلك كله بعد عام سنة تسع ؛ إذ حج أبو بكر ونودي الناس بسورة " براءة " .
الحادية عشرة : قوله تعالى : " وإذا حللتم فاصطادوا " أمر إباحة - بإجماع الناس - رفع ما كان محظورا بالإحرام ، حكاه كثير من العلماء وليس بصحيح ، بل صيغة " أفعل " الواردة بعد الحظر على أصلها من الوجوب ؛ وهو مذهب القاضي أبي الطيب وغيره ؛ لأن المقتضي للوجوب قائم وتقدم الحظر لا يصلح مانعا ؛ دليله قوله تعالى : " فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين{[5239]} " [ التوبة : 5 ] فهذه " أفعل " على الوجوب ؛ لأن المراد بها الجهاد ، وإنما فهمت الإباحة هناك وما كان مثله من قوله : " فإذا قضيت الصلاة فانتشروا{[5240]} " [ الجمعة : 10 ] " فإذا تطهرن فأتوهن{[5241]} " من النظر إلى المعنى والإجماع ، لا من صيغة الأمر . والله أعلم .
الثانية عشرة : قوله تعالى : " ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام " أي لا يحملنكم ؛ عن ابن عباس وقتادة ، وهو قول الكسائي وأبي العباس . وهو يتعدى إلى مفعولين ، يقال : جرمني كذا على بغضك أي حملني عليه ؛ قال الشاعر{[5242]} :
ولقد طعنتُ أبا عيينة طعنةً *** جَرَمَتْ فَزَارَةَ بعدها أن يَغْضَبُوا
وقال الأخفش : أي ولا يحقنكم . وقال أبو عبيدة والفراء : معنى " لا يجرمنكم " أي لا يكسبنكم بغض قوم أن تعتدوا الحق إلى الباطل ، والعدل إلى الظلم ، قال عليه السلام : ( أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ) وقد مضى القول في هذا . ونظير هذه الآية " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " [ البقرة : 194 ] وقد تقدم مستوفى{[5243]} . ويقال : فلان جريمة أهله أي كاسبهم ، فالجريمة والجارم بمعنى الكاسب وأجرم فلان أي أكتسب الإثم . ومنه قول الشاعر{[5244]} :
جريمة ناهض في رأس نِيقٍ *** ترى لعظام ما جمعت صليبَا
معناه كاسب قوت ، والصليب الودك{[5245]} ، وهذا هو الأصل في بناء ج ر م . قال ابن فارس : يقال جرم وأجرم ، ولا جرم بمنزلة قولك : لا بد ولا محالة ، وأصلها من جرم أي اكتسب ، قال :
جَرَمَتْ فَزَارَةُ بعدها أن يَغْضَبُوا
يا أيها المشتكي عُكْلاً{[5246]} وما جَرَمتْ *** إلى القبائل من قَتْلٍ وإبَاسِ ويقال : جرم يجرم جرما إذا قطع . قال الرماني علي بن عيسى : وهو الأصل ، فجرم بمعنى حمل على الشيء لقطعه من غيره ، وجرم بمعنى كسب لانقطاعه إلى الكسب ، وجرم بمعنى حق لأن الحق يقطع عليه . وقال الخليل : " لا جرم أن لهم النار{[5247]} " [ النحل : 62 ] لقد حق أن لهم العذاب . وقال الكسائي : جرم وأجرم لغتان بمعنى واحد ، أي أكتسب . وقرأ ابن مسعود " يجرمنكم " بضم الياء ، والمعنى أيضا لا يكسبنكم ، ولا يعرف البصريون الضم ، وإنما يقولون : جرم لا غير . والشنآن البغض . وقرئ بفتح النون وإسكانها ؛ يقال : شنئت الرجل أشنؤه شنأ وشنأة وشنانا وشنانا بجزم النون ، كل ذلك إذا أبغضته ، أي لا يكسبنكم بغض قوم بصدهم إياكم أن تعتدوا ، والمراد بغضكم قوما ، فأضاف المصدر إلى المفعول . قال ابن زيد : لما صد المسلمون عن البيت عام الحديبية مر بهم ناس من المشركين يريدون العمرة ، فقال المسلمون : نصدهم كما صدنا أصحابهم ، فنزلت هذه الآية ؛ أي لا تعتدوا على هؤلاء ، ولا تصدوهم " أن صدوكم " أصحابهم ، بفتح الهمزة مفعول من أجله ؛ أي لأن صدوكم . وقرأ أبو عمرو وابن كثير بكسر الهمزة " إن صدوكم " وهو اختيار أبي عبيد . وروي عن الأعمش " إن يصدوكم " . قال ابن عطية : فإن للجزاء ، أي إن وقع مثل هذا الفعل في المستقبل . والقراءة الأولى أمكن في المعنى . وقال النحاس : وأما " إن صدوكم " بكسر " إن " فالعلماء الجلة بالنحو والحديث والنظر يمنعون القراءة بها لأشياء : منها أن الآية نزلت عام الفتح سنة ثمان ، وكان المشركون صدوا المسلمين عام الحديبية سنة ست ، فالصد كان قبل الآية ؛ وإذا قرئ بالكسر لم يجز أن يكون إلا بعده ؛ كما تقول : لا تعط فلانا شيئا إن قاتلك ، فهذا لا يكون إلا للمستقبل ، وإن فتحت كان للماضي ، فوجب على هذا ألا يجوز إلا " أن صدوكم " . وأيضا فلو لم يصح هذا الحديث لكان الفتح واجبا ؛ لأن قوله : " لا تحلوا شعائر الله " إلى آخر الآية يدل على أن مكة كانت في أيديهم ، وأنهم لا ينهون عن هذا إلا وهم قادرون على الصد عن البيت الحرام ، فوجب من هذا فتح " أن " لأنه لما مضى .
قوله تعالى : " أن تعتدوا في موضع نصب ؛ لأنه مفعول به ، أي لا يجرمنكم شنآن قوم الاعتداء .
وأنكر أبو حاتم وأبو عبيد " شنآن " بإسكان النون ؛ لأن المصادر إنما تأتي في مثل هذا متحركة ، وخالفهما غيرهما وقال : ليس هذا مصدرا ولكنه اسم الفاعل على وزن كسلان وغضبان .
الثالثة عشرة : قوله تعالى : " وتعاونوا على البر والتقوى " قال الأخفش : هو مقطوع من أول الكلام ، وهو أمر لجميع الخلق بالتعاون على البر والتقوى ، أي ليعن بعضكم بعضا ، وتحاثوا على ما أمر الله تعالى واعملوا به ، وانتهوا عما نهى الله عنه وامتنعوا منه ، وهذا موافق لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الدال على الخير كفاعله ) . وقد قيل : الدال على الشر كصانعه . ثم قيل : البر والتقوى لفظان بمعنى واحد ، وكرر باختلاف اللفظ تأكيدا ومبالغة ، إذ كل بر تقوى وكل تقوى بر . قال ابن عطية : وفي هذا تسامح ما ، والعرف في دلالة هذين اللفظين أن البر يتناول الواجب والمندوب إليه ، والتقوى رعاية الواجب ، فإن جعل أحدهما بدل الآخر فبتجوز . وقال الماوردي : ندب الله سبحانه إلى التعاون بالبر وقرنه بالتقوى له ؛ لأن في التقوى رضا الله تعالى ، وفي البر رضا الناس ، ومن جمع بين رضا الله تعالى ورضا الناس فقد تمت سعادته وعمت نعمته . وقال ابن خويز منداد في أحكامه : والتعاون على البر والتقوى يكون بوجوه ، فواجب على العالم أن يعين الناس بعلمه فيعلمهم{[5248]} ، ويعينهم الغني بماله ، والشجاع بشجاعته في سبيل الله ، وأن يكون المسلمون متظاهرين كاليد الواحدة ( المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم ) . ويجب الإعراض عن المتعدي وترك النصرة له ورده عما هو عليه . ثم نهى فقال : " ولا تعاونوا على الإثم والعدوان " وهو الحكم اللاحق عن الجرائم{[5249]} ، وعن " العدوان " وهو ظلم الناس . ثم أمر بالتقوى وتوعد توعدا مجملا فقال : " واتقوا الله إن الله شديد العقاب " .