ويختم هذه التوجيهات بإيقاع حاسم مستمد من مشاهدة حسية :
( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) . .
إنه قلب واحد ، فلا بد له من منهج واحد يسير عليه . ولا بد له من تصور كلي واحد للحياة وللوجود يستمد منه . ولا بد له من ميزان واحد يزن به القيم ، ويقوم به الأحداث والأشياء . وإلا تمزق وتفرق ونافق والتوى ، ولم يستقم على اتجاه .
ولا يملك الإنسان أن يستمد آدابه وأخلاقه من معين ؛ ويستمد شرائعه وقوانينه من معين آخر ؛ ويستمد أوضاعه الاجتماعية أو الاقتصادية من معين ثالث ؛ ويستمد فنونه وتصوراته من معين رابع . . فهذا الخليط لا يكون إنسانا له قلب . إنما يكون مزقا وأشلاء ليس لها قوام !
وصاحب العقيدة لا يملك أن تكون له عقيدة حقا ، ثم يتجرد من مقتضياتها وقيمها الخاصة في موقف واحد من مواقف حياته كلها ، صغيرا كان هذا الموقف أم كبيرا . لا يملك أن يقول كلمة ، أو يتحرك حركة ، أو ينوي نية . أو يتصور تصورا ، غير محكوم في هذا كله بعقيدته - إن كانت هذه العقيدة حقيقة واقعة في كيانه - لأن الله لم يجعل له سوى قلب واحد ، يخضع لناموس واحد ، ويستمد من تصور واحد ، ويزن بميزان واحد .
لا يملك صاحب العقيدة أن يقول عن فعل فعله : فعلت كذا بصفتي الشخصية . وفعلت كذا بصفتي الإسلامية ! كما يقول رجال السياسة أو رجال الشركات . أو رجال الجمعيات الاجتماعية أو العلمية وما إليها في هذه الأيام ! إنه شخص واحد له قلب واحد ، تعمره عقيدة واحدة . وله تصور واحد للحياة ، وميزان واحد للقيم . وتصوره المستمد من عقيدته متلبس بكل ما يصدر عنه ، في كل حالة من حالاته على السواء .
وبهذا القلب الواحد يعيش فردا ، ويعيش في الأسرة ، ويعيش في الجماعة ، ويعيش في الدولة . ويعيش في العالم . ويعيش سرا وعلانية . ويعيش عاملا وصاحب عمل . ويعيش حاكما ومحكوما . ويعيش في السراء والضراء . . فلا تتبدل موازينه ، ولا تتبدل قيمه ، ولا تتبدل تصوراته . . ( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) . .
ومن ثم فهو منهج واحد ، وطريق واحد ، ووحي واحد ، واتجاه واحد . وهو استسلام لله وحده . فالقلب الواحد لا يعبد إلهين ، ولا يخدم سيدين ، ولا ينهج نهجين ، ولا يتجه اتجاهين . وما يفعل شيئا من هذا إلا أن يتمزق ويتفرق ويتحول إلى أشلاء وركام !
وبعد هذا الإيقاع الحاسم في تعيين المنهج والطريق يأخذ في إبطال عادة الظهار وعادة التبني . ليقيم المجتمع على أساس الأسرة الواضح السليم المستقيم :
( وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم . وما جعل أدعياءكم أبناءكم . ذلكم قولكم بأفواهكم ، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل . ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله . فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم . وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم . وكان الله غفورا رحيما ) .
كان الرجل في الجاهلية يقول لامرأته : أنت علي كظهر أمي . أي حرام محرمة كما تحرم علي أمي . ومن ساعتئذ يحرم عليه وطؤها ؛ ثم تبقى معلقة ، لا هي مطلقة فتتزوج غيره ، ولا هي زوجة فتحل له . وكان في هذا من القسوة ما فيه ؛ وكان طرفا من سوء معاملة المرأة في الجاهلية والاستبداد بها ، وسومها كل مشقة وعنت .
فلما أخذ الإسلام يعيد تنظيم العلاقات الإجتماعية في محيط الأسرة ؛ ويعتبر الأسرة هي الوحدة الاجتماعية الأولى ؛ ويوليها من عنايته ما يليق بالمحضن الذي تنشأ فيه الأجيال . . جعل يرفع عن المرأة هذا الخسف ؛ وجعل يصرف تلك العلاقات بالعدل واليسر . وكان مما شرعه هذه القاعدة : ( وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم ) . . فإن قولة باللسان لا تغير الحقيقة الواقعة ، وهي أن الأم أم والزوجة زوجة ؛ ولا تتحول طبيعة العلاقة بكلمة ! ومن ثم لم يعد الظهار تحريما أبديا كتحريم الأم كما كان في الجاهلية .
وقد روي أن إبطال عادة الظهار شرع فيما نزل من " سورة المجادلة " عندما ظاهر أوس بن الصامت من زوجه خولة بنت ثعلبة ، فجاءت إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] تشكو تقول : يا رسول الله ، أكل مالي ، وأفنى شبابي ، ونثرت له بطني . حتى إذا كبرت سني وانقطع ولدي ، ظاهر مني . فقال [ صلى الله عليه وسلم ] " ما أراك إلا قد حرمت عليه " . فأعادت ذلك مرارا . فأنزل الله : قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله ، والله يسمع تحاوركما ، إن الله سميع بصير . الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم ، إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم ، وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا . وإن الله لعفو غفور . والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة - من قبل أن يتماسا - ذلكم توعظون به . والله بما تعملون خبير . فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا ؛ فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا . ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله . وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم . . فجعل الظهار تحريما مؤقتا للوطء - لا مؤبدا ولا طلاقا - كفارته عتق رقبة ، أو( صيام شهرين متتابعين أو( إطعام ستين مسكينا ) . وبذلك تحل الزوجة مرة أخرى ، وتعود الحياة الزوجية لسابق عهدها . ويستقر الحكم الثابت المستقيم على الحقيقة الواقعة : ( وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم ) . . وتسلم الأسرة من التصدع بسبب تلك العادة الجاهلية ، التي كانت تمثل طرفا من سوم المرأة الخسف والعنت ، ومن اضطراب علاقات الأسرة وتعقيدها وفوضاها ، تحت نزوات الرجال وعنجهيتهم في المجتمع الجاهلي .
قوله تعالى : { مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللاّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ }
نزلت في جميل بن معمر الفهري ، وكان رجلا حافظا لما سمع فقالت قريش : ما حفظ هذه الأشياء إلا وله قلبان . وكان يقول : إن لي قلبين أعقل بكل واحد منهما من عقل محمد صلى الله عليه وسلم . فلما كان يوم بدر وهزم المشركون وفيهم يومئذ جميل بن معمر ، تلقاه أبو سفيان وهو معلق إحدى نعليه بيده والأخرى في رجله . فقال له : يا أبا معمر ما حال الناس ؟ قال : انهزموا . قال : فما بالك إحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك ؟ قال : ما شعرت إلا أنهما في رجلي ، وعرفوا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده{[3689]} .
وقيل : هذه الآية نزلت مثلا ضربه الله للذي يظاهر من أمه . فكما لا يكون للرجل قلبان كذلك لا تكون امرأة المظاهر أمه فيكون له أمان .
وكذلك لا يكون الدعي ابنا لرجلين . وقيل : لا يجتمع الكفر والإيمان بالله في قلب واحد ، كما لا يجتمع قلبان في جوف واحد . ولذلك لا يجتمع اعتقادان متغايران في قلب رجل واحد . فما يحتمل القلب في المرء إلا صنفا واحدا ، فإما الإيمان أو الكفر . وإما الهدى أو الضلال . والأظهر أن الآية تعم ذلك كله .
قوله : { وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللاّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ } { تُظَاهِرُونَ } من الظهار ، وهو قول الرجل لامرأته : أنت عليّ كظهر أمي . والمعنى : ما جعل الله نساءكم اللائي تقولون لهن إن أمهاتكم كأمهاتكم في التحريم ؛ بل إن هذا القول منكم لأزواجكم كذب ومنكر وزور ؛ فيلزمكم بسببه كفارة عقوبة لكم .
قوله : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ } أجمع أهل التفسير على أن هذا نزل في زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقد كان عليه الصلاة والسلام قد تبنّاه قبل النبوة فكان يقال له : زيد بن محمد . فأراد الله أن يقطع هذا الإلحاق وهذه النسبة بقوله : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ } أدعياء جمع دعي وهو الذي يُدعى إلى غير أبيه أو يدعيه غير أبيه ، من الدِّعوة بكسر الدال ، أي ادعاء الولد الدعيّ غير أبيه{[3690]} .
قال ابن العربي في ذلك : كان الرجل يدعو الرجل ابنا إذا ربَّاه كأنه تبناه أي يقيمه مقام الابن . فردّ الله قولهم ؛ لأنهم تعدَّوا به إلى أن قالوا : المسيح ابن الله ، وإلى أن يقولوا : زيد بن محمد . فمسخ الله هذه الذريعة ، وبت حبلها ، وقطع وصلها بما أخبر من إبطال ذلك{[3691]}
قوله : { ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ } يعني هذا القول ، وهو قول الرجل لامرأته أنت علي كظهر أمي وادعاؤه من ليس بابنه أنه ابنه ، إنما هو مجرد قول بأفواهكم ولا حقيقة له ؛ فإنه لا يثبت بهذه الدعوى نسب ولا تصير الزوجة أمّا ، بقول الرجل لها : أنت عليّ كظهر أمي .
قوله : { وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ } ما يقوله الله في ذلك عدل وصدق . وهو جدير بالاعتبار دون غيره من أقوال الجاهلين الباطلة .
قوله : { وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } الله يبين للناس طريق الحق ، ويهديهم سبيل الرشاد{[3692]} .