ومن ثم يتلو ذلك التهديد في السياق دعوة أهل الكتاب إلى كلمة سواء : إلى عبادة الله وحده ، وعدم الإشراك به ، وألا يتخذ الناس بعضهم بعضا أربابا من دون الله . . وإلا فهي المفاصلة التي لا مصاحبة بعدها ولا مجادلة :
( قل : يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم : ألا نعبد إلا الله ، ولا نشرك به شيئا ، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله . فإن تولوا فقولوا : اشهدوا بأنا مسلمون ) . .
وإنها لدعوة منصفة من غير شك . دعوة لا يريد بها النبي [ ص ] أن يتفضل عليهم هو ومن معه من المسلمين . . كلمة سواء يقف أمامها الجميع على مستوى واحد . لا يعلو بعضهم على بعض ، ولا يتعبد بعضهم بعضا . دعوة لا يأباها إلا متعنت مفسد ، لا يريد أن يفيء إلى الحق القويم .
إنها دعوة إلى عبادة الله وحده لا يشركون به شيئا . لا بشرا ولا حجرا . ودعوة إلى ألا يتخذ بعضهم بعضا من دون الله أربابا . لا نبيا ولا رسولا . فكلهم لله عبيد . إنما اصطفاهم الله للتبليغ عنه ، لا لمشاركته في الألوهية والربوبية .
( فإن تولوا فقولوا : اشهدوا بأنا مسلمون ) .
فإن أبوا عبادة الله وحده دون شريك . والعبودية لله وحده دون شريك . وهما المظهران اللذان يقرران موقف العبيد من الألوهية . . إن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون . .
وهذه المقابلة بين المسلمين ومن يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله ، تقرر بوضوح حاسم من هم المسلمون .
المسلمون هم الذين يعبدون الله وحده ؛ ويتعبدون لله وحده ؛ ولا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله . . هذه هي خصيصتهم التي تميزهم من سائر الملل والنحل ؛ وتميز منهج حياتهم من مناهج حياة البشر جميعا . وإما أن تتحقق هذه الخصيصة فهم مسلمون ، وإما ألا تتحقق فما هم بمسلمين مهما ادعوا أنهم مسملون !
إن الإسلام هو التحرر المطلق من العبودية للعبيد . والنظام الإسلامي هو وحده من بين سائر النظم الذي يحقق هذا التحرر . .
إن الناس في جميع النظم الأرضية يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله . . يقع هذا في أرقى الديمقراطيات كما يقع في أحط الديكتاتوريات سواء . . إن أول خصائص الربوبية هو حق تعبد الناس . حق إقامة النظم والمناهج والشرائع والقوانين والقيم والموازين . . وهذا الحق في جميع الأنظمة الأرضية يدعيه بعض الناس - في صورة من الصور - ويرجع الأمر فيه إلى مجموعة من الناس - على أي وضع من الأوضاع - وهذه المجموعة التي تخضع الآخرين لتشريعها وقيمها وموازينها وتصوراتها هي الأرباب الأرضية التي يتخذها بعض الناس أربابا من دون الله ؛ ويسمحون لها بادعاء خصائص الألوهية والربوبية ، وهم بذلك يعبدونها من دون الله ، وإن لم يسجدوا لها ويركعوا . فالعبودية عبادة لا يتوجه بها إلا لله .
وفي النظام الإسلامي وحده يتحرر الإنسان من هذه الربقة . . ويصبح حرا . حرا يتلقى التصورات والنظم والمناهج والشرائع والقوانين والقيم والموازين من الله وحده ، شأنه في هذا شأن كل إنسان آخر مثله . فهو وكل إنسان آخر على سواء . كلهم يقفون في مستوى واحد ، ويتطلعون إلى سيد واحد ، ولا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله .
والإسلام - بهذا المعنى - هو الدين عند الله . وهو الذي جاء به كل رسول من عند الله . . لقد أرسل الله الرسل بهذا الدين ليخرجوا الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله . ومن جور العباد إلى عدل الله . . فمن تولى عنه فليس مسلما بشهادة الله . مهما أول المؤولون ، وضلل المضللون . . ( إن الدين عند الله الإسلام ) . .
واختلف المفسرون من المراد بقوله : { قل يا أهل الكتاب تعالوا } فقال قتادة : ذكر لنا أن رسول الله عليه السلام دعا يهود المدينة إلى الكلمة السواء ، وهم الذين حاجوا في إبراهيم ، وقاله الربيع وابن جريج ، وقال : محمد بن جعفر بن الزبير : نزلت الآية في وفد نجران ، وقاله السدي ، وقال ابن زيد : لما أبى أهل نجران ما دعوا إليه من الملاعنة ، دعوا إلى أيسر من ذلك وهي «الكلمة السواء » والذي يظهر لي أن الآية نزلت في وفد نجران ، لكن لفظ { أهل الكتاب } يعمهم وسواهم من النصارى واليهود ، فدعى النبي عليه السلام بعد ذلك يهود المدينة بالآية ، وكذلك كتب بها إلى هرقل عظيم الروم ، وكذلك ينبغي أن يدعى بها أهل الكتاب إلى يوم القيامة ، وقرأ جمهور الناس «إلى كَلِمة » بفتح الكاف وكسر اللام ، وروى أبو السمال : «كَلْمة » بفتح الكاف وسكون اللام ، وروي عنه أنه قرأ «كِلْمة » بكسر الكاف وسكون اللام ، وذلك على إلقاء حركة اللام على الكاف كما قالوا في كبد ، كبد بكسر الكاف وسكون الباء ، و «الكلمة » هنا عبارة عن الألفاظ التي تتضمن المعاني المدعو إليها ، وهي ما فسره بعد ذلك بقوله { ألا نعبد } الآية وهذا كما تسمي العرب القصيدة كلمة ، وجمهور المفسرين على أن الكلمة هي ما فسر بعد ، وقال أبو العالية : «الكلمة السواء » ، لا إله إلا الله .
قال الفقيه الإمام : وقوله : { سواء } نعت للكلمة ، قال قتادة والربيع وغيرهما : معناه إلى كلمة عدل ، فهذا معنى «السواء » ، وفي مصحف عبد الله بن مسعود : «إلى كلمة عدل بيننا وبينكم » ، كما فسر قتادة والربيع ، وقال بعض المفسرين : معناه إلى كلمة قصد .
قال الفقيه الإمام أبو محمد : وهذا قريب في المعنى من الأول ، والسواء والعدل والقصد مصادر وصف بها في هذه التقديرات كلها ، والذي أقوله في لفظة { سواء } انها ينبغي أن تفسر بتفسير خاص بها في هذا الموضع وهو أنه دعاهم إلى معان جميع الناس فيها مستوون ، صغيرهم وكبيرهم ، وقد كانت سيرة المدعوين أن يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً فلم يكونوا على استواء حال فدعاهم بهذه الآية إلى ما تألفه النفوس من حق{[3223]} لا يتفاضل الناس فيه ، ف { سواء } على هذا التأويل بمنزلة قولك لآخر : هذا شريكي في مال سواء بيني وبينه .
والفرق بين هذا التفسير وبين تفسير اللفظة بعدل ، أنك لو دعوت أسيراً عندك إلى أن يسلم أو تضرب عنقه ، لكنت قد دعوته إلى السواء الذي هو العدل ، وعلى هذا الحد جاءت لفظة { سواء } في قوله تعالى : { فانبذ إليهم على سواء }{[3224]} على بعض التأويلات ، ولو دعوت أسيرك إلى أن يؤمن فيكون حراً مقاسماً لك في عيشك ، لكنت قد دعوته إلى السواء ، الذي هو استواء الحال على ما فسرته ، واللفظ على كل تأويل فيها معنى العدل{[3225]} ، ولكني لم أر لمتقدم أن يكون في اللفظة معنى قصد استواء الحال ، وهو عندي حسن ، لأن النفوس تألفه ، والله الموفق للصواب برحمته .
وقوله { ألا نعبد } يحتمل أن يكون في موضع خفض بمعنى ، إلى { ألا نعبد } ، فذلك على البدل من { كلمة } ويحتمل أن يكون في موضع رفع بمعنى ، هي { ألا نعبد } وما ذكره المهدوي وغيره من أن تكون مفسرة إلى غير ذلك من الجائزات التي يلزم عنها رفع { نعبد } إكثار منهم فاختصرته ، واتخاذ بعضهم بعضاً أرباباً هو على مراتب ، أعلاها اعتقادهم فيهم الألوهية ، وعبادتهم لهم على ذلك ، كعزير وعيسى ابن مريم ، وبهذا فسر عكرمة ، وأدنى ذلك طاعتهم لأساقفتهم ، ورؤسائهم في كل ما أمروا به من الكفر والمعاصي والتزامهم طاعتهم شرعاً ، وبهذا فسر ابن جريج ، فجاءت الآية بالدعاء إلى ترك ذلك كله وأن يكون الممتثل ما قاله الله تعالى على لسان{[3226]} نبيه عليه السلام ، وقوله تعالى : { فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون } أمر بتصريح مخالفتهم بمخاطبتهم ومواجهتهم بذلك ، وإشهادهم على معنى التوبيخ والتهديد ، أي سترون أنتم أيها المتولون عاقبة توليكم كيف تكون .
رجُوع إلى المجادلة ، بعد انقطاعها بالدعاء إلى المباهلة ، بعَثَ عليه الحرصُ على إيمانهم ، وإشارة إلى شيءٍ من زيغ أهل الكتابين عن حقيقة إسلامِ الوجه لله كما تقدم بيانه . وقد جيء في هذه المجادلة بحجة لا يجدون عنها موئلاً وهو دعوتهم إلى تخصيص الله بالعبادة ونبذ عقيدة إشراك غيره في الإلهية . فجملة { قل يا أهل الكتاب } بمنزلة التأكيد لجملة { فقل تعالوا ندع أبناءنا } [ آل عمران : 61 ] لأنّ مدلول الأولى احتجاج عليهم بضعف ثقتهم بأحقّية اعتقادهم . ومدلول هذه احتجاج عليهم بصحة عقيدة الإسلام ، ولذلك لم تعطف هذه الجملة . والمراد بأهل الكتاب هنا النصارى : لأنهم هم الذين اتخذوا المخلوق ربّاً وعبدوه مع الله .
وتعالوا هنا مستعملة في طلب الاجتماع على كلمة سواء وهو تمثيل : جعلت الكلمة المجتمع عليها بشبه المكان المراد الاجتماع عنده . وتقدم الكلام على ( تعالوا ) قريباً .
والكلمة هنا أطلقت على الكلام الوجيز كما في قوله تعالى : { كلا إنها كلمة هو قائلها } [ المؤمنون : 100 ] .
وسواء هنا اسم مصدر الاستواء ، قيل بمعنى العدل ، وقيل بمعنى قصدٍ لا شطط فيها ، وهذان يكونان من قولهم : مكان سَواء وسِوَى وسَوى بمعنى متوسّط قال تعالى : { فرءاه في سواء الجحيم } [ الصافات : 55 ] . وقال ابن عطية : بمعنى ما يستوي فيه جميع الناس ، فإنّ اتخاذ بعضهم بعضاً أرباباً ، لا يكون على استواء حال وهو قول حسن . وعلى كل معنى فالسواء غير مؤنث ، وصف به { كلمة } ، وهو لفظ مؤنث ، لأنّ الوصف بالمصدر واسم المصدر لا مطابقة فيه .
و { ألا نعبد } بدل من { كلمة } ، وقال جماعة : هو بدل من سَواء ، وردّه ابن هشام ، في النوع الثاني من الجهة السادسة من جهات قواعد الإعراب من مغني اللبيب ، واعترضه الدماميني وغيره .
والحق أنه مردود من جهة مراعاة الاصطلاح لا من جهة المعنى ؛ لأنّ سَواء وصف لِكلمة وألاّ نعبد لو جعل بدلاً من سواء ءال إلى كونه في قوة الوصف لكلمة ولا يحسن وصف كلمة به .
وضمير بيننا عائد على معلوم من المقام : وهو النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون ، ولذلك جاء بعده : { فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون } .
ويستفاد من قوله : { ألا نعبد إلا الله } إلى آخره ، التعريضُ بالذين عبدوا المسيح كُلِّهم .
وقوله : { فإن تولوا } جيء في هذا الشرط بحرف إنْ لأنّ التولِّي بعد نهوض هذه الحجة وما قبلها من الأدلة غريب الوقوع ، فالمقام مشتمل على ما هو صالح لاقتلاع حصول هذا الشرط ، فصار فعل الشرط من شأنه أن يكون نادر الوقوع مفروضاً ، وذلك من مواقع ( إن ) الشرطية فإن كان ذلك منهم فقد صاروا بحيث يُؤيَس من إسلامهم فأعرِضوا عنهم ، وأمسكوا أنتم بإسلامكم ، وأشهدوهم أنكم على إسلامكم . ومعنى هذا الإشهاد التسْجيل عليهم لئلاّ يُظهروا إعراض المسلمين عن الاسترسال في محاجتهم في صورة العجز والتسليم بأحقية ما عليه أهل الكتاب فهذا معنى الإشهاد عليهم بأنا مسلمون .