والعقيدة الإسلامية عقيدة الوضوح والاستقامة والنصاعة . فلا يقوم شيء فيها على الظن أو الوهم أو الشبهة :
( ولا تقف ما ليس لك به علم . إن السمع والبصر والفؤاد . . كل أولئك كان عنه مسؤولا ) . . .
وهذه الكلمات القليلة تقيم منهجا كاملا للقلب والعقل ، يشمل المنهج العلمي الذي عرفته البشرية حديثا جدا ، ويضيف إليه استقامة القلب ومراقبة الله ، ميزة الإسلام على المناهج العقلية الجافة !
فالتثبيت من كل خبر ومن كل ظاهرة ومن كل حركة قبل الحكم عليها هو دعوة القرآن الكريم ، ومنهج الإسلام الدقيق . ومتى استقام القلب والعقل على هذا المنهج لم يبق مجال للوهم والخرافة في عالم العقيدة . ولم يبق مجال للظن والشبهة في عالم الحكم والقضاء والتعامل . ولم يبق مجال للأحكام السطحية والفروض الوهمية في عالم البحوث والتجارب والعلوم .
والأمانة العلمية التي يشيد بها الناس في العصر الحديث ليست سوى طرف من الأمانة العقلية القلبية التي يعلن القرآن تبعتها الكبرى ، ويجعل الإنسان مسؤولا عن سمعه وبصره وفؤاده ، أمام واهب السمع والبصر والفؤاد .
إنها أمانة الجوارح والحواس والعقل والقلب . أمانة يسأل عنها صاحبها ، وتسأل عنها الجوارح والحواس والعقل والقلب جميعا . أمانة يرتعش الوجدان لدقتها وجسامتها كلما نطق اللسان بكلمة ، وكلما روى الإنسان رواية ، وكلما أصدر حكما على شخص أو أمر أو حادثة .
( ولا تقف ما ليس لك به علم ) . . ولا تتبع ما لم تعلمه علم اليقين ، وما لم تتثبت من صحته : من قول يقال ورواية تروى . من ظاهرة تفسر أو واقعة تعلل . ومن حكم شرعي أو قضية اعتقادية .
وفي الحديث " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث " . وفي سنن أبي داود : " بئس مطية الرجل : زعموا " وفي الحديث الآخر : " إن أفرى الفري أن يري الرجل عينيه ما لم تريا " . .
وهكذا تتضافر الآيات والأحاديث على تقرير ذلك المنهج الكامل المتكامل الذي لا يأخذ العقل وحده بالتحرج في أحكامه ، والتثبت في استقرائه ؛ إنما يصل ذلك التحرج بالقلب في خواطره وتصوراته ، وفي مشاعره وأحكامه ، فلا يقول اللسان كلمة ولا يروي حادثة ولا ينقل رواية ، ولا يحكم العقل حكما ولا يبرم الإنسان أمرا إلا وقد تثبت من كل جزئية ومن كل ملابسة ومن كل نتيجة ، فلم يبق هنالك شك ولا شبهة في صحتها . )إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم )حقا وصدقا .
وقوله { ولا تقف } معناه ولا تقل ولا تتبع .
قال القاضي أبو محمد : لكنها لفظة تستعمل في القذف والعضه ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «نحن بنو النضر لا نقفو أمنا ولا ننتفي من أبينا »{[7568]} ، ونقول فلان ِقْفَوتي أي موضع تهمتي ، وتقول العرب رب سامع عذرتي ولم يسمع قفوتي{[7569]} أي ما رميت به ، وهذا مثل للذي يفشي سره ويعتذر من ذنب لم يسمعه المعتذر إليه ، وقد قال ابن عباس أيضاً ومجاهد : { ولا تقف } معناه ، ولا ترم ، ومن هذه اللفظة قول الشاعر :
ومثل الدمى شم العرانين ساكن . . . بهن الحياء لا يشعن التقافيا{[7570]}
ولا أرم البرى بغير ذنب . . . ولا أقفو الحواضن إن قفينا{[7571]}
وأصل هذه اللفظة من اتباع الأثر ، تقول قفوت الأثر ، ويشبه أن هذا من القفا مأخوذ ، ومنه قافية الشعر لأنها تقفو البيت ، وتقول قفت الأثر ، ومن هذا : هو القائف ، وتقول فقوت الأثر بتقديم الفاء على القاف ، ويشبه أن يكون هذا من تلعب العرب في بعض الألفاظ ، كما قالوا وعمري في لعمري وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت قفا وقاف مثل عثا وعاث ، فمعنى الآية ، ولا تتبع لسانك من القول ما لا علم لك به ، وذهب منذر بن سعيد إلى أن قفا وقاف مثل جبذ وجذب فهذه الآية بالجملة تنهى عن قول الزور والقذف وما أشبه ذلك من الأقوال الكاذبة الردية ، وقرأ الجمهور «ولا تقف » ، وقرأ بعض الناس فيما حكى الكسائي «ولا تقُفْ » بضم القاف وسكون الفاء ، وقرأ الجراح «والفآد » بفتح الفاء وهي لغة ، وأنكرها أبو حاتم وغيره{[7572]} ، وعبر عن { السمع والبصر والفؤاد } ب { أولئك } لأنها حواس لها إدراك ، وجعلها في هذه الآية مسؤولة ، فهي حالة من يعقل ، فلذلك عبر عنها ب { أولئك } ، وقد قال سيبويه رحمه الله في قوله تعالى :
{ رأيتهم لي ساجدين }{[7573]} إنه إنما قال رأيتهم في نجوم لأنه لما وصفها بالسجود وهو من فعل من يعقل ، عبر عنها بكناية من يعقل ، وحكى الزجاج أن العرب تعبر عما يعقل وعما لا يعقل ب «أولئك » ، وأنشد هو والطبري : [ الكامل ] .
ذم المنازل بعد منزلة اللوى . . . والعيش بعد أولئك الأيام{[7574]}
فأما حكاية أبي إسحاق عن اللغة فأمر يوقف عنده ، وأما البيت فالرواية فيه الأقوام ، والضمير في { عنه } يعود على ما ليس للإنسان به علم ، ويكون المعنى أن الله تعالى يسأل سمع الإنسان ، وبصره ، وفؤاده عما قال مما لا علم له به ، فيقع تكذيبه من جوارحه وتلك غاية الخزي ، ويحتمل أن يعود الضمير في { عنه } على كل التي هي للسمع والبصر والفؤاد ، والمعنى أن الله تعالى يسأل الإنسان عما حواه سمعه وبصر وفؤاده ، فكأنه قال كل هذه كان الإنسان عنه مسؤولاً ، أي عما حصل لهؤلاء من الإدراكات ووقع منها من الخطأ ، فالتقدير عن أعمالها مسؤولاً ، فهو على حذف مضاف .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.