والعقيدة الإسلامية عقيدة الوضوح والاستقامة والنصاعة . فلا يقوم شيء فيها على الظن أو الوهم أو الشبهة :
( ولا تقف ما ليس لك به علم . إن السمع والبصر والفؤاد . . كل أولئك كان عنه مسؤولا ) . . .
وهذه الكلمات القليلة تقيم منهجا كاملا للقلب والعقل ، يشمل المنهج العلمي الذي عرفته البشرية حديثا جدا ، ويضيف إليه استقامة القلب ومراقبة الله ، ميزة الإسلام على المناهج العقلية الجافة !
فالتثبيت من كل خبر ومن كل ظاهرة ومن كل حركة قبل الحكم عليها هو دعوة القرآن الكريم ، ومنهج الإسلام الدقيق . ومتى استقام القلب والعقل على هذا المنهج لم يبق مجال للوهم والخرافة في عالم العقيدة . ولم يبق مجال للظن والشبهة في عالم الحكم والقضاء والتعامل . ولم يبق مجال للأحكام السطحية والفروض الوهمية في عالم البحوث والتجارب والعلوم .
والأمانة العلمية التي يشيد بها الناس في العصر الحديث ليست سوى طرف من الأمانة العقلية القلبية التي يعلن القرآن تبعتها الكبرى ، ويجعل الإنسان مسؤولا عن سمعه وبصره وفؤاده ، أمام واهب السمع والبصر والفؤاد .
إنها أمانة الجوارح والحواس والعقل والقلب . أمانة يسأل عنها صاحبها ، وتسأل عنها الجوارح والحواس والعقل والقلب جميعا . أمانة يرتعش الوجدان لدقتها وجسامتها كلما نطق اللسان بكلمة ، وكلما روى الإنسان رواية ، وكلما أصدر حكما على شخص أو أمر أو حادثة .
( ولا تقف ما ليس لك به علم ) . . ولا تتبع ما لم تعلمه علم اليقين ، وما لم تتثبت من صحته : من قول يقال ورواية تروى . من ظاهرة تفسر أو واقعة تعلل . ومن حكم شرعي أو قضية اعتقادية .
وفي الحديث " إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث " . وفي سنن أبي داود : " بئس مطية الرجل : زعموا " وفي الحديث الآخر : " إن أفرى الفري أن يري الرجل عينيه ما لم تريا " . .
وهكذا تتضافر الآيات والأحاديث على تقرير ذلك المنهج الكامل المتكامل الذي لا يأخذ العقل وحده بالتحرج في أحكامه ، والتثبت في استقرائه ؛ إنما يصل ذلك التحرج بالقلب في خواطره وتصوراته ، وفي مشاعره وأحكامه ، فلا يقول اللسان كلمة ولا يروي حادثة ولا ينقل رواية ، ولا يحكم العقل حكما ولا يبرم الإنسان أمرا إلا وقد تثبت من كل جزئية ومن كل ملابسة ومن كل نتيجة ، فلم يبق هنالك شك ولا شبهة في صحتها . )إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم )حقا وصدقا .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يقول : لا تقل .
وقال العوفي عنه : لا تَرْم أحدًا بما ليس لك به علم .
وقال محمد بن الحَنفية : يعني شهادة الزور .
وقال قتادة : لا تقل : رأيت ، ولم تر ، وسمعت ، ولم تسمع ، وعلمت ، ولم تعلم ؛ فإن الله سائلك عن ذلك كله .
ومضمون ما ذكروه : أن الله تعالى نهى عن القول بلا علم ، بل بالظن الذي هو التوهم والخيال ، كما قال تعالى : { اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ } [ الحجرات : 12 ] ، وفي الحديث : " إياكم والظن ؛ فإن الظن أكذبُ الحديث " {[17488]} . وفي سنن أبي داود : " بئس مطيةُ الرجل : زعموا " {[17489]} ، وفي الحديث الآخر : " إن أفرى الفِرَى أن يُرِي{[17490]} عينيه ما لم تريا " {[17491]} . وفي الصحيح : " من تحلم حلما كُلف يوم القيامة أن يعقد بين شَعيرتين ، وليس بعاقد{[17492]} {[17493]} .
وقوله : { كُلُّ أُولَئِكَ } أي : هذه الصفات من السمع والبصر والفؤاد { كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا } أي : سيسأل العبد عنها يوم القيامة ، وتُسأل{[17494]} عنه وعما عمل فيها . ويصح استعمال " أولئك " مكان " تلك " ، كما قال الشاعر{[17495]} :
ذُمَّ المَنَازلَ بَعْدَ مَنزلة اللِّوَى *** وَالْعَيْش بَعْدَ أولئِكَ الأيّام
{ ولا تقفُ } ولا تتبع وقرئ { ولا تقف } من قاف اثره إذا قفاه ومنه القافة . { ما ليس لك به علم } ما لم يتعلق به علمك تقليدا أو رجما بالغيب ، واحتج به من منع اتباع الظن وجوابه أن المراد بالعلم هو الاعتقاد الراجح المستفاد من سند ، سواء كان قطعا أو ظنا واستعماله بهذا المعنى سائغ شائع . وقيل إنه مخصوص بالعقائد . وقيل بالرمي وشهادة الزور ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام " من قفا مؤمنا بما ليس فيه حبسه الله في ردغة الخبال حتى يأتي بالمخرج " . وقول الكميت :
ولا أرمي البريء بغير ذنبٍ *** ولا اقفُو الحواصن أن قفينا
{ إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك } أي كل هذه الأعضاء فأجراها مجرى العقلاء لما كانت مسؤولة عن أحوالها شاهدة على صاحبها ، هذا وإن أولاء وإن غلب في العقلاء لكنه من حيث إنه اسم جمع لذا وهو يعم القبيلين جاء لغيرهم كقوله :
والعيش بعد أولئك الأيَام *** . . . . . . . . . . . . . . . . .
{ كان عنه مسئولا } في ثلاثتها ضمير كل أي كان كل واحد منها مسؤولا عن نفسه ، يعني عما فعل به صاحبه ، ويجوز أن يكون الضمير في عنه لمصدر { لا تقف } أو لصاحب السمع والبصر . وقيل { مسؤولا } مسند إلى { عنه } كقوله تعالى : { غير المغضوب عليهم } والمعنى يسأل صاحبه عنه ، وهو خطأ لأن الفاعل وما يقوم مقامه لا يتقدم ، وفيه دليل على أن العبد مؤاخذ بعزمه على المعصية . وقرئ { والفؤاد } بقلب الهمزة واوا بعد الضمة ثم إبدالها بالفتح .
وقوله { ولا تقف } معناه ولا تقل ولا تتبع .
قال القاضي أبو محمد : لكنها لفظة تستعمل في القذف والعضه ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : «نحن بنو النضر لا نقفو أمنا ولا ننتفي من أبينا »{[7568]} ، ونقول فلان ِقْفَوتي أي موضع تهمتي ، وتقول العرب رب سامع عذرتي ولم يسمع قفوتي{[7569]} أي ما رميت به ، وهذا مثل للذي يفشي سره ويعتذر من ذنب لم يسمعه المعتذر إليه ، وقد قال ابن عباس أيضاً ومجاهد : { ولا تقف } معناه ، ولا ترم ، ومن هذه اللفظة قول الشاعر :
ومثل الدمى شم العرانين ساكن . . . بهن الحياء لا يشعن التقافيا{[7570]}
ولا أرم البرى بغير ذنب . . . ولا أقفو الحواضن إن قفينا{[7571]}
وأصل هذه اللفظة من اتباع الأثر ، تقول قفوت الأثر ، ويشبه أن هذا من القفا مأخوذ ، ومنه قافية الشعر لأنها تقفو البيت ، وتقول قفت الأثر ، ومن هذا : هو القائف ، وتقول فقوت الأثر بتقديم الفاء على القاف ، ويشبه أن يكون هذا من تلعب العرب في بعض الألفاظ ، كما قالوا وعمري في لعمري وحكى الطبري عن فرقة أنها قالت قفا وقاف مثل عثا وعاث ، فمعنى الآية ، ولا تتبع لسانك من القول ما لا علم لك به ، وذهب منذر بن سعيد إلى أن قفا وقاف مثل جبذ وجذب فهذه الآية بالجملة تنهى عن قول الزور والقذف وما أشبه ذلك من الأقوال الكاذبة الردية ، وقرأ الجمهور «ولا تقف » ، وقرأ بعض الناس فيما حكى الكسائي «ولا تقُفْ » بضم القاف وسكون الفاء ، وقرأ الجراح «والفآد » بفتح الفاء وهي لغة ، وأنكرها أبو حاتم وغيره{[7572]} ، وعبر عن { السمع والبصر والفؤاد } ب { أولئك } لأنها حواس لها إدراك ، وجعلها في هذه الآية مسؤولة ، فهي حالة من يعقل ، فلذلك عبر عنها ب { أولئك } ، وقد قال سيبويه رحمه الله في قوله تعالى :
{ رأيتهم لي ساجدين }{[7573]} إنه إنما قال رأيتهم في نجوم لأنه لما وصفها بالسجود وهو من فعل من يعقل ، عبر عنها بكناية من يعقل ، وحكى الزجاج أن العرب تعبر عما يعقل وعما لا يعقل ب «أولئك » ، وأنشد هو والطبري : [ الكامل ] .
ذم المنازل بعد منزلة اللوى . . . والعيش بعد أولئك الأيام{[7574]}
فأما حكاية أبي إسحاق عن اللغة فأمر يوقف عنده ، وأما البيت فالرواية فيه الأقوام ، والضمير في { عنه } يعود على ما ليس للإنسان به علم ، ويكون المعنى أن الله تعالى يسأل سمع الإنسان ، وبصره ، وفؤاده عما قال مما لا علم له به ، فيقع تكذيبه من جوارحه وتلك غاية الخزي ، ويحتمل أن يعود الضمير في { عنه } على كل التي هي للسمع والبصر والفؤاد ، والمعنى أن الله تعالى يسأل الإنسان عما حواه سمعه وبصر وفؤاده ، فكأنه قال كل هذه كان الإنسان عنه مسؤولاً ، أي عما حصل لهؤلاء من الإدراكات ووقع منها من الخطأ ، فالتقدير عن أعمالها مسؤولاً ، فهو على حذف مضاف .
قال: ولا يسع شاهدا أن يشهد إلا بما علم، والعلم من ثلاثة وجوه: منها ما عاينه الشاهد فيشهد بالمعاينة، ومنها ما سمعه فيشهد ما أثبت سمعا من المشهود عليه، ومنها ما تظاهرت الأخبار مما لا يمكن في أكثره العيان وتثبت معرفته في القلوب فيشهد عليه بهذا الوجه...
وما شهد به رجل على رجل أنه فعله أو أقر به، لم يجز إلا أن يجمع أمرين: أحدهما: أن يكون يثبته بمعاينة، والآخر: أن يكون يثبته سمعا مع إثبات بصرٍ حين يكون الفعل...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ"؛
فقال بعضهم: معناه: ولا تقل ما ليس لك به علم...
عن قتادة "وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا "لا تقل رأيت ولم تر وسمعت ولم تسمع، فإن الله تبارك وتعالى سائلك عن ذلك كله...
وقال آخرون: بل معناه: ولا ترم...
عن ابن عباس، قوله (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) يقول: لا ترم أحدا بما ليس لك به علم...
وهذان التأويلان متقاربا المعنى، لأن القول بما لا يعلمه القائل يدخل فيه شهادة الزور، ورمي الناس بالباطل، وادّعاء سماع ما لم يسمعه، ورؤية ما لم يره. وأصل القفو: العضه والبهت...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: لا تقل للناس وفيهم ما لا علم لك به، فترميهم بالباطل، وتشهد عليهم بغير الحقّ، فذلك هو القفو.
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال فيه بالصواب، لأن ذلك هو الغالب من استعمال العرب القفو فيه.
وأما قوله: "إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا" فإن معناه: إن الله سائل هذه الأعضاء عما قال صاحبها، من أنه سمع أو أبصر أو علم، تشهد عليه جوارحه عند ذلك بالحقّ...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ولا تقف ما ليس لك به علم} قيل: {ولا تقف}... قيل: لا تتبع...
{وَلاتَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}؛ القَفْوُ اتّباع الأثر من غير بصيرة ولا علم بما يصير إليه، ومنه القَافَةُ؛ وكانت العرب فيها من يقتاف الأثر وفيها من يقتاف النسب، وقد كان هذا الاسم موضوعاً عندهم لما يخبر به الإنسان عن غير حقيقة، يقولون تَقَوَّفَ الرجل إذا قال الباطل... وقد اقتضى ذلك نَهْيَ الإنسان عن أن يقول في أحكام الله ما لا علم له به على جهة الظنّ والحسبان وأن لا يقول في الناسِ من السوء ما لا يعلم صحته، ودل على أنه إذا أخبر عن غير علم فهو آثم في خبره كذباً كان خبره أو صدقاً لأنه قائل بغير علم وقد نهاه الله عن ذلك...
{إِنَّ السَّمْعَ والبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} فيه بيان أن لله علينا حقّاً في السمع والبصر والفؤاد والمرء مسؤول عما يفعله بهذه الجوارح من الاستماع بما لا يحلّ والنظر إلى ما لا يجوز والإرادة لما يقبح...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
{ولا تقف ما ليس لك به علم} المراد بالآية منع الشاهد عن جزم الشهادة إلا بما يتحقق. [المستصفى: 1/146]...
المراد من الآية منع الشاهد عن جزم الشهادة بما لم يبصر ولم يسمع، والفتوى بما لم يرو ولم ينقله العدول. [نفسه: 1/155]...
دل على أن عمل الفؤاد كعمل السمع والبصر فلا يعفى عنه... والحق عندنا في هذه المسألة لا يوقف عليه ما لم تقع الإحاطة بتفصيل أعمال القلوب من مبدأ ظهورها إلى أن يظهر العمل على الجوارح. [الإحياء: 3/44]...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
المراد: النهي عن أن يقول الرجل ما لا يعلم، وأن يعمل بما لا يعلم، ويدخل فيه النهي عن التقليد دخولاً ظاهراً. لأنه اتباع لما لا يعلم صحته من فساده... وعن ابن الحنفية: شهادة الزور. وعن الحسن: لا تقف أخاك المسلم إذا مرّ بك، فتقول: هذا يفعل كذا، ورأيته يفعل، وسمعته، ولم تر ولم تسمع... وقد استدل به مبطل الاجتهاد ولم يصح؛ لأنّ ذلك نوع من العلم، فقد أقام الشرع غالب الظن مقام العلم... و {عَنْهُ} في موضع الرفع بالفاعلية، أي: كل واحد منها كان مسؤولاً عنه، فمسئول: مسند إلى الجار والمجرور... يقال للإنسان: لم سمعت ما لم يحل لك سماعه؛ ولم نظرت إلى ما لم يحل لك النظر إليه، ولم عزمت على ما لم يحل لك العزم عليه؟...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
قوله {ولا تقف} معناه ولا تقل ولا تتبع. قال القاضي أبو محمد: لكنها لفظة تستعمل في القذف والعضه، فمعنى الآية: ولا تتبع لسانك من القول ما لا علم لك به فهذه الآية بالجملة تنهى عن قول الزور والقذف وما أشبه ذلك من الأقوال الكاذبة الردية وعبر عن {السمع والبصر والفؤاد} ب {أولئك} لأنها حواس لها إدراك، وجعلها في هذه الآية مسؤولة، فهي حالة من يعقل، فلذلك عبر عنها ب {أولئك} ويكون المعنى أن الله تعالى يسأل سمع الإنسان، وبصره، وفؤاده عما قال مما لا علم له به، فيقع تكذيبه من جوارحه وتلك غاية الخزي، ويحتمل أن يعود الضمير في {عنه} على كل التي هي للسمع والبصر والفؤاد، والمعنى أن الله تعالى يسأل الإنسان عما حواه سمعه وبصر وفؤاده، فكأنه قال كل هذه كان الإنسان عنه مسؤولاً، أي عما حصل لهؤلاء من الإدراكات ووقع منها من الخطأ، فالتقدير عن أعمالها مسؤولاً
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْأَوَّلُ: لَا تَسْمَعُ وَلَا تَرَ مَا لَا يَحِلُّ سَمَاعُهُ وَلَا رُؤْيَتُهُ.
الثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تَتَّبِع مَا لَا تَعْلَمُ وَلَا يَعْنِيَك...
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ؛ وَبَعْضُهَا أَقْوَى من بَعْضٍ، وَإِنْ كَانَتْ مُرْتَبِطَةً؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَسْمَعَ مَا لَا يَحِلُّ، وَلَا يَقُولَ بَاطِلًا، فَكَيْفُ أَعْظَمُهُ وَهُوَ الزُّورُ... وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: إنَّ الْمُفْتِيَ بِالتَّقْلِيدِ إذَا خَالَفَ نَصَّ الرِّوَايَةِ فِي نَصِّ النَّازِلَةِ عَمَّنْ قَلَّدَهُ أَنَّهُ مَذْمُومٌ دَاخِلٌ فِي الْآيَةِ؛ لِأَنَّهُ يَقِيسُ وَيَجْتَهِدُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا الِاجْتِهَادُ فِي قَوْلِ اللَّهِ وَقَوْلِ الرَّسُولِ، لَا فِي قَوْلِ بَشَرٍ بَعْدَهُمَا...
{ولا تقف} أي ولا تتبع ولا تقتف ما لا علم لك به من قول أو فعل، وحاصله يرجع إلى النهي عن الحكم بما لا يكون معلوما... وحاصله يرجع إلى النهي عن الحكم بما لا يكون معلوما، وهذه قضية كلية يندرج تحتها أنواع كثيرة، وكل واحد من المفسرين حمله على واحد من تلك الأنواع وفيه وجوه:
الوجه الأول: المراد نهي المشركين عن المذاهب التي كانوا يعتقدونها في الإلهيات والنبوات بسبب تقليد أسلافهم، لأنه تعالى نسبهم في تلك العقائد إلى اتباع الهوى فقال: {إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس} وقال في إنكارهم البعث: {بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون} وحكي عنهم أنهم قالوا: {إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين} وقال: {ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله} وقال: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام} الآية وقال: {هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن}...
والقول الثالث: المراد منه: النهي عن القذف ورمي المحصنين والمحصنات بالأكاذيب، وكانت عادة العرب جارية بذلك يذكرونها في الهجاء ويبالغون فيه.
القول الرابع: المراد منه النهي عن الكذب. قال قتادة: لا تقل سمعت ولم تسمع ورأيت ولم تر وعلمت ولم تعلم.
والقول الخامس: أن القفو هو البهت وأصله من القفا، كأنه قول يقال خلفه وهو في معنى الغيبة وهو ذكر الرجل في غيبته بما يسوءه...
{إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا}... فيه بحثان:
البحث الأول: أن العلوم إما مستفادة من الحواس، أو من العقول. أما القسم الأول: فإليه الإشارة بذكر السمع والبصر، فإن الإنسان إذا سمع شيئا ورآه فإنه يرويه ويخبر عنه،
وأما القسم الثاني: فهو العلوم المستفادة من العقل وهي قسمان: البديهية والكسبية، وإلى العلوم العقلية الإشارة بذكر الفؤاد.
البحث الثاني: ظاهر الآية يدل على أن هذه الجوارح مسؤولة وفيه وجوه:
الوجه الأول: أن المراد أن صاحب السمع والبصر والفؤاد هو المسؤول لأن السؤال لا يصح إلا ممن كان عاقلا، وهذه الجوارح ليست كذلك، بل العاقل الفاهم هو الإنسان... أنه ثبت بالقرآن أنه تعالى يخلق الحياة في الأعضاء ثم إنها تشهد على الإنسان والدليل عليه قوله تعالى: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} ولذلك لا يبعد أن يخلق الحياة والعقل والنطق في هذه الأعضاء. ثم إنه تعالى يوجه السؤال عليها...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ولا تقف} أي تتبع أيها الإنسان مجتهداً بتتبع الآثار {ما ليس لك به علم} من ذلك وغيره، كل شيء بحسبه، لا سيما البهت والقذف، فما كان المطلوب فيه القطع لم يقنع فيه بدونه، وما اكتفى فيه بالظن وقف عنده... ثم علل ذلك مخوفاً بقوله: {إن السمع والبصر} وهما طريقا الإدراك {والفؤاد} الذي هو آلة الإدراك؛ ثم هوّل الأمر بقوله تعالى: {كل أولئك} أي هذه الأشياء العظيمة، العالية المنافع، البديعة التكوين... {كان} أي بوعد لا خلف فيه {عنه} أي وحده {مسؤولاً} بسؤال يخصه، هل استعمله صاحبه في طلب العلم مجتهداً في ذلك، ليعمل عند الوقوف على الحقائق بما يرضي الله، ويجتنب ما يسخطه أو لا؟ وأول حديث النفس السابح ثم الخاطر ثم الإرادة والعزيمة، فيؤاخذ بالإرادة والعزيمة لدخولهما تحت الاختيار فيتعلق بهما التكليف، ولعدم دخول الأولين خفف عنا بعدم المؤاخذة بهما، كما قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم:"إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم"...
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
ومعنى الآية: النهي عن أن يقول الإنسان ما لا يعلم، أو يعمل بما لا علم له به... وأقول: إن هذه الآية قد دلت على عدم جواز العمل بما ليس بعلم...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
قال المهايمي: قدم السمع، لأن أكثر ما ينسب الناس لأقوالهم إليه. وأخر الفؤاد، لأنه منتهى الحواس. ولم يذكر بقيتها لأنه لا يخالفها قول أو فعل...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
المراد ب {ما ليس لك به علم} الخاطر النفساني الذي لا دليل عليه ولا غلبة ظن به... وما يشهد لإرادة جميع هذه المعاني تعليل النهي بجملة {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا}. فموقع الجملة موقع تعليل، أي أنك أيها الإنسان تُسأل عما تسنده إلى سمعك وبصرك وعقلك بأن مراجع القفو المنهي عنه إلى نسبة لسمع أو بصر أو عقل في المسموعات والمبصرات والمعتقدات...
وقد صيغت جملة {كل أولئك كان عنه مسئولا} على هذا النظم بتقديم (كل) الدالة على الإحاطة من أول الأمر. وأتي باسم الإشارة دون الضمير بأن يقال: كلها كان عنه مسؤولاً، لما في الإشارة من زيادة التمييز. وأقحم فعل (كان) لدلالته على رسوخ الخبر كما تقدم غير مرة... وهو [أي السؤال] في الآية كناية بمرتبة أخرى عن مؤاخذة صاحب السمع والبصر والفؤاد بكذبه على حواسه. وليس هو بمجاز عقلي لمنافاة اعتباره هنا تأكيدَ الإسناد ب (إن) وب (كل) وملاحظة اسم الإشارة و (كان)...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
القفو معناه التتبع، وأصله ما يؤدى إلى الكذب أو القذف أو البهتان، ومنه القائف وهو المتتبع للآثار، وأصله القياس وهو العلم بالحدس والتخمين وإلا كان كما يعبر الشافعي، الظن الذي لا يبنى على أساس علمه... {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا}، هذه طرائق؛ فالسمع ينقل العلم الغيبي وينقل العلم الحسي، والفؤاد وهو هنا العقل يربط بين ما سمع وأبصر من آيات، ويكون حكمه القطعي الرشيد... وإنها مسئولة فيسأل السمع لماذا لم يسمع الحق وينصت إليه، ويسأل البصر لماذا لم ير الآيات وينظرها نظرة إدراك وتعرف، والعقل لماذا لم يفكر فيما تنقله إليه الحواس، ولماذا لم يأخذ بأسباب العلم ويتبع الأوهام فيكون الخبال ووراءه الضلال... وقوله: {كل أولئك} الإشارة إلى السمع والبصر والفؤاد، وكل واحد منها كان مسئولا بمفرده، ومسئولا في جماعته و (أولئك) يشار بها إلى الجمع مذكرا كان أو مؤنثا، أو كان خليطا...
القضايا التي تختلف فيها الأهواء: هي القضية التي يخدم بها كل قائل لها فكرة عنده فقط، وإن كانت ضارة بغيره، فمادام الأمر قائماً على الأهواء فلابد أن تختلف، فكل له هواه الخاص، فلو أن لكل واحد قضية ما التقينا على شيء أبداً. وصدق الحق تبارك وتعالى حين قال: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض.. "71 "} (سورة المؤمنون)... أما القضايا التي تتفق فيها الأهواء فهي القضايا المادية القائمة على المادة الصماء التي لا تجامل أحداً على حساب أحد، ولا مانع أن تتبعوا الآخرين فيها؛ لأنكم سوف تلتقون عليها قهراً ورغماً عنكم... {لا تقف ما ليس لك به علم}... ومن هنا قال أهل الفقه: من قال لا أدري فقد أفتى؛ لأنه بإعلان عدم معرفته صرف السائل إلى من يعلم، أما لو أجاب خطأ، فسوف يترتب على إجابته ما لا تحمد عقباه، والذي يسلك هذا المسلك في حياته تكون حركته في الحياة حركة فاشلة... والعلم هنا يراد به العلم المطلق؛ لأن الكثير من الناس كان يعتقد أن العلم يعني العلم الديني فقط، لكن العلم هو كل ما يثري حركة الحياة، والعلم علمان: علم ديني، وهو الذي يقضي على الأهواء، ويوحدها إلى هوى واحد هو الهوى الإيماني. وهذا العلم يتولاه الخالق سبحانه، وليس لنا دخل فيه؛ لأن الصانع أدرى بصنعته، وهو الذي يضع لها قانون صيانتها؛ لأنه يعلم ما يصلحها وما يفسدها. وكما أنك لا تذهب إلى الجزار ليضع لك قانون صيانة الإنسان إلا من خالقه عز وجل: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير "14 "} (سورة الملك). وهذا النوع من العلم قال الله تعالى عنه: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا.. "7 "} (سورة الحشر)...
أما النوع الآخر من العلم، فهو العلم المادي التجريبي الذي لا يخضع للأهواء، فقد جعله الخالق سبحانه مجالاً للبحث والتسابق، ومضماراً يجري فيه الجميع؛ لأنهم في النهاية سيلتقون فيه قهراً ورغماً عنهم... فإذا كان الحق سبحانه نهانا عن تتبع ما ليس لنا به علم، فماذا نتبع؟ نتبع ما نعلمه وما نتيقن منه من علوم، فإن كانت في الدين تركناها للخالق سبحانه يقننها لنا، وإن كانت في أمور الدنيا أعملنا فيها عقولنا بما ينفعنا ويثري حياتنا؛ لذلك تكلم الحق سبحانه بعد ذلك عن وسائل إدراك العلم، فقال: {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا}... ومادام الحق سبحانه قد نهانا عن تتبع ما لا نعلم، وأمرنا أن نسير على ضوء ما نعلم من العلم اليقيني فلابد أن يسأل المرء عن وسائل العم هذه، لأنه لولا وسائل الإدراك هذه ما علم الإنسان شيئاً، وهذا واضح في قول الحق تبارك وتعالى: {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون" 78 "} (سورة النحل): وهل يشكر الإنسان إلا على حصيلة أخذها؟ هذه الحصيلة هي العلم. وهذه الحواس تؤدي عملها في الإنسان بمجرد أن تنشأ فيه، وبعد أن يخرج إلى الحياة، والبعض يظن أن الطفل الصغير لا يفهم إلا عندما يكبر ويستطيع الكلام والتفاهم مع الآخرين، والحقيقة أن الطفل يدرك ويعي من الأيام الأولى لولادته... وإن كانت حواس الإنسان كثيرة فإن أهمها: السمع والبصر، وقد وردت في القرآن بهذا الترتيب، السمع أولاً، ثم البصر لأن السمع يسبق البصر، فالإنسان بمجرد أن يولد تعمل عنده حاسة السمع، أما البصر فإنه يتخلف عن السمع لعدة أيام من الولادة، إذن: فهو أسبق في أداء مهمته، هذه واحدة... أن السمع هو الحاسة الوحيدة التي تؤدي مهمتها حتى حال النوم، وفي هذا حكمة بالغة للخالق سبحانه، فبالسمع يتم الاستدعاء من النوم... ولم يسبق البصر السمع إلا في آية واحدة في كتاب الله تعالى وهي: {ربنا أبصرنا وسمعنا.. "12 "} (سورة السجدة): والحديث هنا ليس عن الدنيا، بل عن الآخرة، حيث يفزع الناس من هولها فيقولون: {ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً" 12 "} (سورة السجدة): لأنهم في الآخرة أبصروا قبل أن يسمعوا. فالسمع أول الحواس، وهو أهمها في إدراك المعلومات، حتى الذي يأخذ معلوماته بالقراءة سمع قبل أن يقرأ، فتعلم أولاً بالسماع ألف باء، فالسمع أولاً في التعلم، ثم يأتي دور البصر... والذي يتتبع الآيات التي ورد فيها السمع والبصر سيجدها جاءت بإفراد السمع وجمع البصر، مثل قوله سبحانه: {وجعل لكم السمع والأبصار.. "9 "} (سورة السجدة). إلا في هذه الآية التي نحن بصدد الحديد عنها جاءت: {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا}... فالسمع جاء بصيغة الإفراد؛ لأنه لا يتعدد فيه المسموع بالنسبة للسامع، فإذا حدث الآن صوت نسمعه جميعاً، فهو واحد في جميع الآذان. أما البصر فهو خلاف ذلك؛ لأن أمامنا الآن مرائي متعددة ومناظر مختلفة، فأنت ترى شيئاً، وأنا أرى شيئاً آخر، فوحدة السمع لا تنطبق على البصر؛ لذلك أفرد السمع وجاء البصر بصيغة الجمع...
أما في قوله تعالى: {إن السمع والبصر}: فقد ورد البصر هنا مفرداً؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يتحدث عن المسئولية، مسئولية كل إنسان عن سمعه وبصره، والمسئولية أمام الحق سبحانه وتعالى فردية لا يسأل أحد عن أحد، بل يسأل عن نفسه فحسب، فناسب ذلك أن يقول: السمع والبصر؛ لأنه سيسأل عن بصر واحد وهو بصره...
فالإنسان إذن مسئول عن سمعه وبصره وفؤاده من حيث التلقي، تلقي القضايا العلمية التي سنسير عليها في حركة حياتنا، وكذلك من حيث الإعطاء، فكأن الحق سبحانه وتعالى يقول للأذن: لا تسمعي إلا خيراً، ولا تتلقي إلا طيباً، ويا مربي النشء لا تسمعه إلا ما يدعو إلى فضيلة، ولا تعط لأذنه إلا ما يصلح حياته ويثريها. ويقول للعين: لا تري إلا الحلال لا يهيج غرائزك إلى الشهوات، ويا مربي النشء احجب عنه ما يثير الغرائز ويفسد الحياة؛ وبذلك نربي في المجتمع المعلومات الصحيحة التي تنبني عليها حركة حياته... ومادمت مسئولاً عن أعضائك هذه المسئولية، ومحاسباً عنها، فإياك أن تقول: سمعت وأنت لم تسمع، وإياك أن تقول: رأيت وأنت لم تر، إياك أن تتعرض لشهادة تدلي فيها بغير ما تعلم وتتيقن. أو تتبنى قضية خاطئة وتبني عليها حركة حياتك؛ لأن المبني على مقدمات فاسدة ينتج عنه نتائج فاسدة، وما بني على مقدمات صحيحة أنتج النتيجة الصحيحة...