في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{نٓۚ وَٱلۡقَلَمِ وَمَا يَسۡطُرُونَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة القلم مكية وآياتها ثنتان وخمسون

لا يمكن تحديد التاريخ الذي نزلت فيه هذه السورة سواء مطلعها أو جملتها . كما أنه لا يمكن الجزم بأن مطلعها قد نزل أولا ، وأن سائرها نزل أخيرا - ولا حتى ترجيح هذا الاحتمال . لأن مطلع السورة وختامها يتحدثان عن أمر واحد ، وهو تطاول الذين كفروا على شخص رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وقولهم : إنه مجنون !

والروايات التي تقول : إن هذه السورة هي الثانية في النزول بعد سورة العلق كثيرة ، ومن المتفق عليه في ترتيب المصاحف المختلفة أنها هي السورة الثانية ؛ ولكن سياق السورة وموضوعها وأسلوبها يجعلنا نرجح غير هذا . حتى ليكاد يتعين أنها نزلت بعد فترة من الدعوة العامة ، التي جاءت بعد نحو ثلاث سنوات من الدعوة الفردية ، في الوقت الذي أخذت فيه قريش تدفع هذه الدعوة وتحاربها ، فتقول عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] تلك القولة الفاجرة ؛ وأخذ القرآن يردها وينفيها ، ويهدد المناهضين للدعوة ، ذلك التهديد الوارد في السورة .

واحتمال أن مطلع السورة نزل مبكرا وحده بعد مطلع سورة العلق . وأن الجنون المنفي فيه : ( ما أنت بنعمة ربك بمجنون ) . . جاء بمناسبة ما كان يتخوفه النبي [ صلى الله عليه وسلم ] على نفسه في أول الوحي ، من أن يكون ذلك جنونا أصابه . . هذا الاحتمال ضعيف . لأن هذا التخوف ذاته على هذا النحو ليست فيه رواية محققة ، ولأن سياق السورة المتماسك يدل على أن هذا النفي ينصب على ما جاء في آخرها من قوله تعالى : ( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون : إنه لمجنون ) . . فهذا هو الأمر الذي افتتح السورة بنفيه ، كما يتبادر إلى الذهن عند قراءة السورة المتماسكة الحلقات .

كذلك ذكرت بعض الروايات أن في السورة آيات مدنية من الآية السابعة عشرة إلى نهاية الآية الثالثة والثلاثين . وهي الآيات التي ذكرت قصة أصحاب الجنة وابتلاءهم ، والآيات من الثانية والأربعين إلى نهاية الخمسين وهي التي تشير إلى قصة صاحب الحوت . . ونحن نستبعد هذا كذلك . ونعتقد أن السورة كلها مكية . لأن طابع هذه الآيات عميق في مكيته . وهو أنسب شيء لأن يجيء في سياق السورة عند نزولها متسقا مع الموضوع ومع الحالة التي تعالجها .

والذي نرجحه بشأن السورة كلها أنها ليست الثانية في ترتيب النزول ؛ وأنها نزلت بعد فترة من البعثة النبوية بعد أمر النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بالدعوة العامة . وبعد قول الله تعالى له : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) . وبعد نزول طائفة من القرآن فيها شيء من قصص الأولين وأخبارهم ، التي قال عنها قائلهم : ( أساطير الأولين ) . . وبعدما أصبحت قريش مدعوة إلى الإسلام كافة ، وأصبحت تدفع هذه الدعوة بالاتهامات الباطلة والحرب العنيفة التي اقتضت تلك الحملة العنيفة الواردة في السورة على المكذبين ، والتهديد القاصم في أولها وفي آخرها على السواء . . والمشهد الأخير في السورة يوحي بهذا كذلك : ( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون : إنه لمجنون ) . . فهو مشهد دعوة عامة لمجموعات كبيرة . ولم يكن الأمر كذلك في أول الدعوة . إنما كانت الدعوة توجه إلى أفراد . بوسيلة فردية . ولا تلقى إلى الذين كفروا وهم متجمعون . ولم يقع شيء من هذا - كما تقول الروايات الراجحة - إلا بعد ثلاث سنوات من بدء الدعوة .

والسورة تشير إلى شيء من عروض المشركين على النبي [ صلى الله عليه وسلم ] للالتقاء في منتصف الطريق ، والتهادن على تراض في القضية التي يختلفون عليها وهي قضية العقيدة : ( ودوا لو تدهن فيدهنون ) . . وظاهر أن مثل هذه المحاولة لا تكون والدعوة فردية ، ولا خطر منها . إنما تكون بعد ظهورها ، وشعور المشركين بخطرها .

وهكذا تتضافر الشواهد على أن هذه السورة نزلت متأخرة عن أيام الدعوة الأولى . وأن هناك ثلاث سنوات على الأقل - قابلة للزيادة - بين بدء الدعوة وبين وقت نزولها . ولا يعقل أن ثلاث سنوات مرت لم يتنزل فيها قرآن . والطبيعي أن تكون هناك سور كثيرة ، وأجزاء من سور قد نزلت في هذه الفترة ، تتحدث عن ذات العقيدة بدون مهاجمة عنيفة للمكذبين بها كالوارد في هذه السورة منذ مطلعها .

ولكن هذا لا ينفي أن تكون هذه السورة وسورتا المدثر والمزمل قد نزلت في الفترة الأولى من الدعوة . وإن لم يكن ذلك أول ما نزل كما هو وارد في المصاحف ، للأسباب التي أوردناها هنا . وهي تكاد تنطبق كذلك على سورتي المزمل والمدثر .

لقد كانت هذه الغرسة - غرسة العقيدة الإسلامية - تودع في الأرض لأول مرة في صورتها الرفيعة المجردة الناصعة . وكانت غريبة على حس الجاهلية السائدة ، لا في الجزيرة العربية وحدها بل كذلك في أنحاء الأرض جميعا .

وكانت النقلة عظيمة بين الصورة الباهتة المحرفة المشوهة من ملة إبراهيم التي يستمسك بخيوط حائلة منها مشركو قريش ، ويلصقون بها الترهات والأساطير والأباطيل السائدة عندهم ، وبين الصورة الباهرة العظيمة المستقيمة الواضحة البسيطة الشاملة المحيطة التي جاءهم بها محمد [ صلى الله عليه وسلم ] متفقة في أصولها مع الحنيفية الأولى - دين إبراهيم عليه السلام - وبالغة نهاية الكمال الذي يناسب كونها الرسالة الأخيرة للأرض ، الباقية لتخاطب الرشد العقلي في البشرية إلى آخر الزمان .

وكانت النقلة عظيمة بين الشرك بالله وتعدد الأرباب ، وعبادة الملائكة وتماثيلها ، والتعبد للجن وأرواحها ، وسائر هذه التصورات المضطربة المفككة التي تتألف منها العقيدة الجاهلية . . وبين الصورة الباهرة التي يرسمها القرآن للذات الإلهية الواحدة وعظمتها وقدرتها ، وتعلق إرادتها بكل مخلوق .

كذلك كانت النقلة عظيمة بين الطبقية السائدة في الجزيرة ، والكهانة السائدة في ديانتها ، واختصاص طبقات بالذات بالسيادة والشرف وسدانة الكعبة والقيام بينها وبين العرب الآخرين . . وبين البساطة والمساواة أمام الله والاتصال المباشربينه وبين عباده كما جاء بها القرآن .

ومثلها كانت النقلة بين الأخلاق السائدة في الجاهلية والأخلاق التي جاء القرآن يبشر بها ، وجاء محمد [ صلى الله عليه وسلم ] يدعو إليها ويمثلها .

وكانت هذه النقلة وحدها كافية للتصادم بين العقيدة الجديدة وبين قريش ومعتقداتها وأخلاقها . ولكن هذه لم تكن وحدها . فقد كان إلى جانبها اعتبارات - ربما كانت أضخم في تقدير قريش من العقيدة ذاتها - على ضخامتها .

كانت هناك الاعتبارات الاجتماعية التي دعت بعضهم أن يقول كما حكى عنهم القرآن الكريم : ( لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ! ) . . والقريتان هما مكة والطائف . فإن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] مع شرف نسبه ، وأنه في الذؤابة من قريش ، لم تكن له مشيخة فيهم ولا رياسة قبل البعثة . بينما كان هناك مشيخة قريش ومشيخة ثقيف وغيرهما ، في بيئة تجعل للمشيخة والرياسة القبلية كل الاعتبار ، فلم يكن من السهل الانقياد خلف محمد [ صلى الله عليه وسلم ] من هؤلاء المشيخة !

وكانت هناك الاعتبارات العائلية التي تجعل رجلا كأبي جهل " عمرو بن هشام " يأبى أن يسلم بالحق الذي يواجهه بقوة في الرسالة الإسلامية ، لأن نبيها من بني عبد مناف . . وذلك كما ورد في قصته مع الأخنس بن شريق وأبي سفيان بن حرب ، حين خرجوا ثلاث ليال يستمعون القرآن خفية ، وهم في كل ليلة يتواعدون على عدم العودة خيفة أن يراهم الناس فيقع في نفوسهم شيء . فلما سأل الأخنس بن شريق أبا جهل رأيه فيما سمع من محمد كان جوابه : " ماذا سمعت ? تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف : أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا . حتى إذا تجاثينا على الركب ، وكنا كفرسي رهان ، قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء . فمتى ندرك مثل هذه ? والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه ! " .

وكانت هناك اعتبارات أخرى نفعية وطبقية ونفسية من ركام الجاهلية في المشاعر والتصورات والأوضاع كلها تحاول قتل تلك الغرسة الجديدة في مغرسها بكل وسيلة قبل أن تثبت جذورها وتتعمق ، وقبل أن تمتد فروعها وتتشابك . وبخاصة بعد أن تجاوزت دور الدعوة الفردية ؛ وأمر الله تعالى نبيه [ صلى الله عليه وسلم ] أن يجهر بالدعوة ؛ وأخذت معالم الدعوة الجديدة تبرز ، كما أخذ القرآن يتنزل بتسفيه عقيدة الشرك وما وراءها من الآلهة المدعاة والتصورات المنحرفة والتقاليد الباطلة .

والرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ولو أنه نبي ، ولو أنه يتلقى من ربه الوحي ، ولو أنه يتصل بالملأ الأعلى . . هو بشر ، تخالجه مشاعر البشر . وكان يتلقى هذه المقاومة العنيفة ، وتلك الحرب التي شنها عليه المشركون ، ويعاني وقعها العنيف الأليم ، هو والحفنة القليلة التي آمنت به على كره من المشركين .

وكان [ صلى الله عليه وسلم ] يسمع والمؤمنون به يسمعون ، ما كان يتقوله عليه المشركون ، ويتطاولون به على شخصه الكريم ، ( ويقولون : إنه لمجنون ) . . ولم تكن هذه إلا واحدة من السخريات الكثيرة ، التي حكاها القرآن في السور الأخرى ؛ والتي كانت توجه إلى شخصه [ صلى الله عليه وسلم ] وإلى الذين آمنوا معه . وغير الأذى الذي كان يصيب الكثيرين منهم على أيدي أقربائهم الأقربين !

والسخرية والاستهزاء - مع الضعف والقلة - مؤذيان أشد الإيذاء للنفس البشرية ، ولو كانت هي نفس رسول .

ومن ثم نرى في السور المكية - كسور هذا الجزء - أن الله كأنما يحتضن - سبحانه - رسوله والحفنة المؤمنة معه ، ويواسيه ويسري عنه ، ويثني عليه وعلى المؤمنين . ويبرز العنصر الأخلاقي الذي يتمثل في هذه الدعوة وفي نبيها الكريم . وينفي ما يقوله المتقولون عنه ، ويطمئن قلوب المستضعفين بأنه هو يتولى عنهم حرب أعدائهم ، ويعفيهم من التفكير في أمر هؤلاء الأعداء الأقوياء الأغنياء !

ونجد من هذا في سورة القلم مثل قوله تعالى عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] :

( ن . والقلم وما يسطرون . ما أنت بنعمة ربك بمجنون . وإن لك لأجرا غير ممنون . وإنك لعلى خلق عظيم ) . .

وقوله تعالى عن المؤمنين :

إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم . أفنجعل المسلمين كالمجرمين ? مالكم ? كيف تحكمون ? ! . .

ويقول عن أحد أعداء النبي البارزين :

( ولا تطع كل حلاف مهين . هماز مشاء بنميم . مناع للخير معتد أثيم . عتل بعد ذلك زنيم . أن كان ذا مال وبنين . إذا تتلى عليه آياتنا قال : أساطير الأولين . سنسمه على الخرطوم ! ) . .

ثم يقول عن حرب المكذبين عامة :

( فذرني ومن يكذب بهذا الحديث . سنستدرجهم من حيث لا يعلمون . وأملي لهم إن كيدي متين ) . .

وذلك غير عذاب الآخرة المذل للمتكبرين :

يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون . خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة . وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون . .

ويضرب لهم أصحاب الجنة - جنة الدنيا - مثلا على عاقبة البطر تهديدا لكبراء قريش المعتزين بأموالهم وأولادهم ممن لهم مال وبنون ؛ الكائدون للدعوة بسبب مالهم من مال وبنين .

وفي نهاية السورة يوصي النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بالصبر الجميل : ( فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت . . ) .

ومن خلال هذه المواساة وهذا الثناء وهذا التثبيت ، مع الحملة القاصمة على المكذبين والتهديد الرهيب ، يتولى الله - سبحانه - بذاته حربهم في ذلك الأسلوب العنيف . . من خلال هذا كله نتبين ملامح تلك الفترة ، فترة الضعف والقلة ، وفترة المعاناة والشدة ، وفترة المحاولة القاسية لغرس تلك الغرسة الكريمة في تلك التربة العنيدة !

كذلك نلمح من خلال أسلوب السورة وتعبيرها وموضوعاتها ملامح البيئة التي كانت الدعوة الإسلامية تواجهها . وهي ملامح فيها سذاجة وبدائية في التصور والتفكير والمشاعر والاهتمامات والمشكلات على السواء .

نلمح هذه السذاجة في طريقة محاربتهم للدعوة بقولهم للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] ( إنه لمجنون ) !

وهو اتهام لا حبكة فيه ولا براعة ، وأسلوب من لايجد إلا الشتمة الغليظة يقولها بلا تمهيد ولا برهان ، كما يفعل السذج البدائيون .

ونلمحها في الطريقة التي يرد الله بها عليهم فريتهم ردا يناسب حالهم : ( ما أنت بنعمة ربك بمجنون . وإن لك لأجرا غير ممنون . وإنك لعلى خلق عظيم . فستبصر ويبصرون . بأيكم المفتون ) . . وكذلك في التهديد المكشوف العنيف : ( فذرني ومن يكذب بهذا الحديث . سنستدرجهم من حيث لا يعلمون . وأملي لهم إن كيدي متين ) . .

ونلمحها في رد هذا السب على رجل منهم : ( ولا تطع كل حلاف مهين . هماز مشاء بنميم . مناع للخير معتد أثيم . عتل بعد ذلك زنيم . . . ) .

ونلمحها في القصة - قصة أصحاب الجنة - التي ضربها الله لهم . وهي قصة قوم سذج في تفكيرهم وتصورهم وبطرهم ، وفي حركاتهم كذلك وأقوالهم ( وهم يتخافتون . ألا يدخلنها اليوم عليكم مسكين . . الخ ) .

وأخيرا نلمح سذاجتهم من خلال ما يوجهه إليهم من الجدل : ( أم لكم كتاب فيه تدرسون : إن لكم فيه لما تخيرون ? أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون ? سلهم أيهم بذلك زعيم ? ) . . .

وهي ملامح تظهر بوضوح من خلال التعبير القرآني ، وتفيد في دراسة السيرة ووقائعها وخطوات الدعوة فيها ؛ ومدى ما ارتفع القرآن بعد ذلك بهذه البيئة وبتلك الجماعة في أواخر عهد الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ومدى ما نقلها من هذه السذاجة في التفكير والتصور والشعور والاهتمام . كما يتضح في أساليب الخطاب فيما بعد ، وفي الحقائق والمشاعر والتصورات والاهتمامات بعد عشرين عاما لا تزيد . وهي في حياة الأمم ومضة لا تذكر . ولا تقاس إليها تلك النقلة الواسعة الشاملة . . التي انتقلتها الجماعة في هذا الوقت القصير . والتي تسلمت بها قيادة البشرية فارتفعت بتصوراتها وأخلاقها إلى القمة التي لم ترتفع إليها قيادة قط في تاريخ البشرية ، لا من ناحية طبيعة العقيدة ، ولا من ناحية آثارها الواقعية في حياة الإنسان في الأرض ، ولا من ناحية السعة والشمول لتضم الإنسانية كلها بين جوانحها في سماحة وعطف ، وفي تلبية لكل حاجاتها الشعورية ، وحاجاتها الفكرية ، وحاجاتها الاجتماعية ، وحاجاتها التنظيمية في شتى الميادين . .

إنها المعجزة تتجلى في النقلة من هذه السذاجة التي تبدو ملامحها من خلال مثل هذه السورة إلى ذلك العمق والشمول . وهي نقلة أوسع وأكبر من تحول القلة إلى كثرة ، والضعف إلى قوة ، لأن بناء النفوس والعقول أعسر من بناء الأعداد والصفوف .

( ن ، والقلم وما يسطرون . ما أنت بنعمة ربك بمجنون . وإن لك لأجرا غير ممنون . وإنك لعلى خلق عظيم . فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون . إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله ، وهو أعلم بالمهتدين . فلا تطع المكذبين . ودوا لو تدهن فيدهنون . ولا تطع كل حلاف مهين . هماز مشاء بنميم . مناع للخير معتد أثيم . عتل بعد ذلك زنيم . أن كان ذا مال وبنين . إذا تتلى عليه آياتنا قال : أساطير الأولين . سنسمه على الخرطوم ) . .

يقسم الله - سبحانه - بنون ، وبالقلم ، وبالكتابة . والعلاقة واضحة بين الحرف " نون " . بوصفه أحد حروف الأبجدية وبين القلم ، والكتابة . . فأما القسم بها فهو تعظيم لقيمتها ، وتوجيه إليها ، في وسط الأمة التي لم تكن تتجه إلى التعلم عن هذا الطريق ، وكانت الكتابة فيها متخلفة ونادرة ، في الوقت الذي كان دورها المقدر لها فيعلم الله يتطلب نمو هذه المقدرة فيها ، وانتشارها بينها ، لتقوم بنقل هذه العقيدة وما يقوم عليها من مناهج الحياة إلى أرجاء الأرض . ثم لتنهض بقيادة البشرية قيادة رشيدة . وما من شك أن الكتابة عنصر أساسي في النهوض بهذه المهمة الكبرى .

ومما يؤكد هذا المفهوم أن يبدأ الوحي بقوله تعالى : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . اقرأ وربك الأكرم . الذي علم بالقلم . علم الإنسان ما لم يعلم ) . . وأن يكون هذا الخطاب موجها للنبي الأمي - الذي قدر الله أن يكون أميا لحكمة معينة - ولكنه بدأ الوحي إليها منوها بالقراءة والتعليم بالقلم . ثم أكد هذه اللفتة هنا بالقسم بنون ، والقلم وما يسطرون . وكان هذا حلقة من المنهج الإلهي لتربية هذه الأمة وإعدادها للقيام بالدور الكوني الضخم الذي قدره لها في علمه المكنون .

يقسم الله - سبحانه - بنون والقلم وما يسطرون ، منوها بقيمة الكتابة معظما لشأنها كما أسلفنا لينفي عن رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] تلك الفرية التي رماه بها المشركون ، مستبعدا لها ، ونعمته على رسوله ترفضها .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{نٓۚ وَٱلۡقَلَمِ وَمَا يَسۡطُرُونَ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة " ن "

وهي مدنية .

قد تقدم الكلام على حروف الهجاء في أول " سورة البقرة " ، وأن قوله : { ن } كقوله : { ص } { ق } ونحو ذلك من الحروف المقطعة في أوائل السور ، وتحرير القول في ذلك بما أغنى عن إعادته .

وقيل : المراد بقوله : { ن } حوت عظيم على تيار الماء العظيم المحيط ، وهو حامل{[29123]} للأرضين السبع ، كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير :

حدثنا ابن بشار ، حدثنا يحيى ، حدثنا سفيان - هو الثوري - حدثنا سليمان - هو الأعمش - عن أبي ظَبْيان ، عن ابن عباس قال : أول ما خلق الله القلم قال : اكتب . قال : وما أكتب ؟ قال : اكتب القَدَر . فجرى بما يكون من ذلك اليوم إلى يوم قيام الساعة . ثم خلق " النون " ورفع بخار الماء ، ففُتِقت منه السماء ، وبسطت الأرض على ظهر النون ، فاضطرب النون فمادت الأرض ، فأثبتت بالجبال ، فإنها لتفخر على الأرض{[29124]} .

وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن سِنان ، عن أبي معاوية ، عن الأعمش ، به . وهكذا رواه شعبة ، ومحمد بن فُضَيل ، وَوَكِيع ، عن الأعمش ، به . وزاد شعبة في روايته : ثم قرأ : { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } وقد رواه شريك ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان - أو مجاهد - عن ابن عباس ، فذكر نحوه . ورواه مَعْمَر ، عن الأعمش : أن ابن عباس قال . . . فذكره ، ثم قرأ : { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } ثم قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن أبي الضُّحَى ، عن ابن عباس قال : إن أول شيء خلق ربي ، عز وجل ، القلم ، ثم قال له : اكتب . فكتب ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة . ثم خلق " النون " فوق الماء ، ثم كبس الأرض عليه{[29125]} .

وقد روى الطبراني ذلك مرفوعًا فقال : حدثنا أبو حبيب{[29126]} زيد بن المهتدي المروذي{[29127]} حدثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني ، حدثنا مُؤَمَّل بن إسماعيل ، حدثنا حماد بن زيد ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي الضحى مسلم بن صَبِيح ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أول ما خلق الله القلم والحوت ، قال للقلم : اكتب ، قال : ما أكتب ، قال : كل شيء كائن إلى يوم القيامة " . ثم قرأ : { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } فالنون : الحوت . والقلم : القلم{[29128]} .

حديث آخر في ذلك : رواه ابن عساكر عن أبي عبد الله مولى بني أمية ، عن أبي صالح ، عن أبي هُرَيرة : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن أول شيء خلقه الله القلم ، ثم خلق " النون " وهي : الدواة . ثم قال له : اكتب . قال وما أكتب ؟ قال : اكتب ما يكون - أو : ما هو كائن - من عمل أو رزق أو أثر أو أجل . فكتب ذلك إلى يوم القيامة ، فذلك قوله : { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } ثم ختم على القلم فلم يتكلم إلى يوم القيامة ، ثم خلق العقل وقال : وعزتي لأكملنك فيمن أحببت ، ولأنقصنك ممن أبغضت " {[29129]} .

وقال ابن أبي نَجِيح : إن إبراهيم بن أبي بكر أخبره عن مجاهد قال : كان يقال : النون : الحوت [ العظيم ]{[29130]} الذي تحت الأرض السابعة .

وذكر البغوي وجماعة من المفسرين : إن على ظهر هذا الحوت صخرة سمكها كغلظ السموات والأرض ، وعلى ظهرها ثور له أربعون ألف قرن ، وعلى متنه الأرضون السبع وما فيهن وما بينهن{[29131]} فالله أعلم . ومن العجيب{[29132]} أن بعضهم حمل على هذا المعنى الحديث الذي رواه الإمام أحمد :

حدثنا إسماعيل ، حدثنا حُمَيد ، عن أنس : أن عبد الله بن سلام بَلَغه مَقْدَم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فأتاه فسأله عن أشياء ، قال : إني سائلك عن أشياء لا يعلمها إلا نبي ، قال : ما أول أشراط الساعة ؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة ؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه ؟ والولد ينزع إلى أمه ؟ قال : " أخبرني بهن جبريل آنفًا " . قال ابن سلام : فذاك عدو اليهود من الملائكة . قال : " أما أول أشراط الساعة فنار تَحشرهم{[29133]} من المشرق إلى المغرب . وأول طعام يأكله أهل الجنة زيادةُ كبد حوت . وأما الولد فإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد ، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل نزعت " .

ورواه البخاري من طرق عن حُمَيد ، ورواه مسلم أيضا{[29134]} وله من حديث ثوبان - مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم - نحو هذا . وفي صحيح مسلم من حديث أبي أسماء الرحبي ، عن ثوبان : أن حبرًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسائل ، فكان منها أن قال : فما تحفتهم ؟ - يعني أهل الجنة حين يدخلون الجنة - قال : " زيادة كبد الحوت " . قال : فما غذاؤهم على أثرها ؟ قال : " ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها " . قال : فما شرابهم عليه ؟ قال : " من عين فيها تسمى سلسبيلا " {[29135]} .

وقيل : المراد بقوله : { ن } لوح من نور .

قال ابن جرير : حدثنا الحسين بن شبيب المكتب ، حدثنا محمد بن زياد الجزري ، عن فرات بن أبي الفرات ، عن معاوية بن قُرّة ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } لوح من نور ، وقلم من نور ، يجري بما هو كائن إلى يوم القيامة " {[29136]} وهذا مرسل غريب .

وقال ابن جُرَيج{[29137]} أخبرت أن ذلك القلم من نور طوله مائة عام .

وقيل : المراد بقوله : { ن } دواة ، والقلم : القلم . قال ابن جرير :

حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا ابن ثور ، عن مَعْمَر ، عن الحسن وقتادة في قوله : { ن } قالا هي الدواة .

وقد روي في هذا حديث مرفوع غريب جدًا فقال ابن أبي حاتم :

حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن خالد ، حدثنا الحسن بن يحيى ، حدثنا أبو عبد الله مولى بني أمية ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " خلق الله النون ، وهي الدواة " {[29138]} .

وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يعقوب ، حدثنا أخي عيسى بن عبد الله ، حدثنا ثابت الثمالي ، عن ابن عباس قال : إن الله خلق النون - وهي الدواة - وخلق القلم ، فقال : اكتب . قال : وما أكتب ؟ قال : اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل معمول ، به بر أو فجور ، أو رزق مقسوم حلال أو حرام . ثم ألزم كل شيء من ذلك ، شأنه : دخوله في الدنيا ، ومقامه فيها كم ؟ وخروجه منها كيف ؟ ثم جعل على العباد حفظة ، وللكتاب خزانًا ، فالحفظة ينسخون كل يوم من الخزان عمل ذلك اليوم ، فإذا فني الرزق وانقطع الأثر وانقضى الأجل ، أتت الحفظة الخزنة يطلبون عمل ذلك اليوم ، فتقول لهم الخزنة : ما نجد لصاحبكم عندنا شيئًا ، فترجع الحفظة فيجدونهم قد ماتوا . قال : فقال ابن عباس : ألستم قومًا عَرَبا تسمعون الحفظة يقولون : { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الجاثية : 29 ] ؟ وهل يكون الاستنساخ إلا من أصل{[29139]} .

وقوله : { والقلم } الظاهر أنه جنس القلم الذي يكتب به كقوله : { اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [ العاق : 3 - 5 ] . فهو قسم منه تعالى ، وتنبيه لخلقه على ما أنعم به عليهم من تعليم الكتابة التي بها تنال العلوم ؛ ولهذا قال : { وَمَا يَسْطُرُونَ } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : يعني : وما يكتبون .

وقال أبو الضُّحى ، عن ابن عباس : { وَمَا يَسْطُرُونَ } أي : وما يعملون .

وقال السدي : { وَمَا يَسْطُرُونَ } يعني الملائكة وما تكتب من أعمال العباد .

وقال آخرون : بل المراد هاهنا بالقلم الذي أجراه الله بالقدر ، حين كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرضين بخمسين ألف سنة . وأوردوا في ذلك الأحاديث الواردة في ذكر القلم ، فقال ابن أبي حاتم :

حدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان ويونس بن حبيب قالا حدثنا أبو داود الطيالسي ، حدثنا عبد الواحد بن سُليم السلمي ، عن عطاء - هو ابن أبي رباح - حدثني الوليد بن عبادة بن الصامت قال : دعاني أبي حين حضره الموت فقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن أول ما خلق الله القلم ، فقال له : اكتب . قال : يا رب وما أكتب ؟ قال : اكتب القدر [ ما كان ]{[29140]} وما هو كائن إلى الأبد " .

وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد من طرق ، عن الوليد بن عبادة ، عن أبيه ، به{[29141]} وأخرجه الترمذي من حديث أبي داود الطيالسي ، به{[29142]} وقال : حسن صحيح غريب . ورواه أبو داود في كتاب " السنة " من سننه ، عن جعفر بن مسافر ، عن يحيى بن حسان ، عن ابن رباح ، عن إبراهيم بن أبي عبلة{[29143]} عن أبي حفصة - واسمه حُبَيش بن شُريح الحَبشي الشامي - عن عبادة ، فذكره{[29144]} .

وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الله الطوسي ، حدثنا علي بن الحسن بن شقيق ، أنبأنا عبد الله بن المبارك ، حدثنا رباح بن زيد ، عن عمر بن حبيب ، عن القاسم بن أبي بَزة{[29145]} عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن أول شيء خلقه الله القلم فأمره فكتب كل شيء " . غريب من هذا الوجه ، ولم يخرجوه{[29146]}

وقال ابن أبي نَجيح ، عن مجاهد : { وَالْقَلَمِ } يعني : الذي كتب به الذكر . .

وقوله : { وَمَا يَسْطُرُونَ } أي : يكتبون كما تقدم .


[29123]:- (1) في أ: "وهو الحامل".
[29124]:- (2) تفسير الطبري (29/9).
[29125]:- (3) تفسير الطبري (29/10).
[29126]:- (1) في أ: "أبو صهيب".
[29127]:- (2) في أ: "المهدى".
[29128]:- (3) المعجم الكبير (11/433) وقال: "لم يرفعه عن حماد بن زيد إلا مؤمل بن إسماعيل". ومؤمل كثير الخطأ، فلعله أخطأ في رفعه.
[29129]:- (4) تاريخ دمشق (17/492 "المخطوط" ) ورواه الحكيم الترمذي كما في إتحاف السادة المتقين (1/454) من طريق يحيى الغساني، عن أبي عبد الله، عن أبي صالح، به. ورواه ابن عدي في الكامل (6/269) من طريق محمد بن وهب، عن مسلم، عن مالك، عن سمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعًا بنحوه، قال: "هذا بهذا الإسناد باطل منكر" وآفته محمد بن وهب. قال الذهبي في الميزان: "صدق ابن عدي في أن هذا الحديث باطل".
[29130]:- (5) زيادة من م.
[29131]:- (6) معالم التنزيل (8/186) وهذا من الإسرائيليات كما ذكر ذلك الشيخ محمد أبو شهبة في كتابه: "الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير" (ص305) وقال الإمام ابن القيم في المنار المنيف (ص76) في ذكر علامات الوضع: "أن يكون الحديث مما تشهد الشواهد الصحيحة على بطلانه، ومن هذا حديث: "إن الأرض على صخرة، والصخرة على قرن ثور، فإذا حرك الثور قرنه تحركت الصخرة، فتحركت الأرض، وهي الزلزلة" والعجب من مسود كتبه بهذه الهذيانات". أ. هـ.
[29132]:- (7) في أ: "ومن العجب".
[29133]:- (8) في أ: "تحشر الناس".
[29134]:- (1) المسند (3/189) وصحيح البخاري برقم (3938) ولم أقع عليه في صحيح مسلم.
[29135]:- (2) صحيح مسلم برقم (315).
[29136]:- (3) تفسير الطبري (29/10).
[29137]:- (4) في أ: "ابن جرير".
[29138]:- (5) ورواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (17/492 "المخطوط") من طريق الفريابي، عن هشام عن الحسن بن يحيى به مطولاً، وقد تقدم قريبًا في هذه السورة.
[29139]:- (6) تفسير الطبري (29/10).
[29140]:- (1) زيادة من منحة المعبود. مستفادًا من هامش ط - الشعب.
[29141]:- (2) المسند (5/317).
[29142]:- (3) سنن الترمذي برقم (3319).
[29143]:- (4) في أ: "عن ابن أبي عبلة".
[29144]:- (5) سنن أبي داود برقم (4700).
[29145]:- (6) في أ: "بن أبي مرة".
[29146]:- (7) تفسير الطبري (29/11).
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{نٓۚ وَٱلۡقَلَمِ وَمَا يَسۡطُرُونَ} (1)

بسم الله الرحمَن الرحيم

القول في تأويل قوله تعالى : { نَ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنّ لَكَ لأجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ } .

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ن ، فقال بعضهم : هو الحوت الذي عليه الأرَضُون . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن شعبة ، عن سليمان ، عن أبي ظَبْيان ، عن ابن عباس ، قال : «أوّل ما خلق الله من شيء القلم ، فجرى بما هو كائن ، ثم رفع بخار الماء ، فخلقت منه السموات ، ثم خلق النون فبسطت الأرض على ظهر النون ، فتحرّكت الأرض فمادت ، فأثبتت بالجبال ، فإن الجبال لتفخر على الأرض » ، قال : وقرأ : ن والقَلَمِ وما يَسْطُرُونَ .

حدثنا تميم بن المنتصر ، قال : حدثنا إسحاق ، عن شريك ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، أو مجاهد عن ابن عباس ، بنحوه ، إلا أنه قال : فَفُتِقَتْ مِنْهُ السموات .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، قال : حدثنا سفيان ، قال : ثني سليمان ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس ، قال : «أوّل ما خلق الله القلم ، قال : اكتب ، قال : ما أكتب ؟ قال : اكتب القدر ، قال : فجرى بما يكون من ذلك اليوم إلى قيام الساعة ، ثم خلق النون ، ورفع بخار الماء ، ففُتِقت منه السماء وبُسِطت الأرض على ظهر النون ، فاضطرب النون ، فمادت الأرض ، فأثبتت بالجبال ، فإنها لتفخر على الأرض » .

حدثنا واصل بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن فُضَيل ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس قال : «أوّل ما خلق الله من شيء القلم ، فقال له : اكتب ، فقال : وما أكتب ؟ قال : اكتب القدر ، قال فجرى القلم بما هو كائن من ذلك إلى قيام الساعة ، ثم رفع بخار الماء ففتق منه السموات ، ثم خلق النون فدُحيت الأرض على ظهره ، فاضطرب النون ، فمادت الأرض ، فأُثبتت بالجبال ، فإنها لتفخر على الأرض » .

حدثنا واصل بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن أبي ظبيان ، عن ابن عباس نحوه .

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، أن إبراهيم بن أبي بكر ، أخبره عن مجاهد ، قال : كان يقال النون : الحوت الذي تحت الأرض السابعة .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، قال : قال معمر . حدثنا الأعمش ، أن ابن عباس قال : إنْ أوّل شيء خُلق القلم ، ثم ذكر نحو حديث واصل عن ابن فضيل ، وزاد فيه : ثم قرأ ابن عباس ن وَالقَلم وَما يَسْطُرُونَ .

حدثنا بن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء ، عن أبي الضحى مسلم بن صبيح ، عن ابن عباس ، قال : إن أوّل شيء خلق ربي القلم ، فقال له : اكتب ، فكتب ما هو كائن إلى أن تقوم الساعة ، ثم خلق النون فوق الماء ، ثم كبس الأرض عليه .

وقال آخرون : ن حرف من حروف الرحمن . ذكر من قال ذلك :

حدثنا عبد الله بن أحمد المروزي ، قال : حدثنا عليّ بن الحسين ، قال : حدثنا أبي ، عن يزيد ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس : الر ، وحم ، ون حروف الرحمن مقطعة .

حدثني محمد بن معمر ، قال : حدثنا عباس بن زياد الباهلي ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، قوله : الر ، وحم ، ون قال : اسم مقطع .

وقال آخرون : ن : الدواة ، والقلم : القلم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا أخي عيسى بن عبد الله ، عن ثابت البناني ، عن ابن عباس قال : إن الله خلق النون وهي الدواة ، وخلق القلم ، فقال : اكتب ، فقال : ما أكتب ؟ قال : اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة ، من عمل معمول ، برّ أو فجور ، أو رزق مقسوم حلال أو حرام ، ثم ألزم كلّ شيء من ذلك شأنه دخوله في الدنيا ومقامه فيها كم ، وخروجه منها كيف ثم جعل على العباد حفظة وللكتاب خزانا ، فالحفظة ينسخون كلّ يوم من الخزان عمل ذلك اليوم ، فإذا فني الرزق وانقطع الأثر ، وانقضى الأجل ، أتت الحفظة الخزنة يطلبون عمل ذلك اليوم ، فتقول لهم الخزنة : ما نجد لصاحبكم عندنا شيئا ، فترجع الحفظة فيجدونهم قد ماتوا قال : فقال ابن عباس : ألستم قوما عربا تسمعون الحفَظة يقولون : إنّا كُنّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وهل يكون الاستنساخ إلا من أصل ؟ .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن وقتادة ، في قوله ن قال : هو الدواة .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا الحكم بن بشير ، قال : حدثنا عمرو ، عن قتادة ، قال : النون الدواة .

وقال آخرون : ن : لوح من نوره ، ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن شبيب المكتّب ، قال : حدثنا محمد بن زياد الجزري ، عن فرات بن أبي الفرات ، عن معاوية بن قرّة ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ن وَالقَلَمِ وما يَسْطُرُونَ : «لوح من نور يجري بما هو كائن إلى يوم القيامة » .

وقال آخرون : ن : قَسَم أقسم الله به . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : { ن وَالقَلَمِ ومَا يَسْطُرُونَ } يُقْسِم الله بما شاء .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قول الله : { ن وَالقَلَمِ ومَا يَسْطُرُونَ } قال : هذا قسم أقسم الله به .

وقال آخرون : هي اسم من أسماء السورة .

وقال آخرون : هي حرف من حروف المعجم ، وقد ذكرنا القول فيما جانس ذلك من حروف الهجاء التي افتتحت بها أوائل السور ، والقول في قوله نظير القول في ذلك .

واختلفت القرّاء في قراءة : ن ، فأظهر النون فيها وفي يس عامة قرّاء الكوفة خلا الكسائيّ ، وعامة قرّاء البصرة ، لأنها حرف هجاء ، والهجاء مبني على الوقوف عليه وإن اتصل ، وكان الكسائي يُدغم النون الآخرة منهما ويخفيها بناء على الاتصال .

والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان فصيحتان ، بأيتهما قرأ القارىء أصاب ، غير أن إظهار النون أفصح وأشهر ، فهو أعجب إليّ . وأما القلم : فهو القلم المعروف ، غير أن الذي أقسم به ربنا من الأقلام : القلم الذي خلقه الله تعالى ذكره ، فأمره فجرى بكتابة جميع ما هو كائن إلى يوم القيامة .

حدثني محمد بن صالح الأغاطي ، قال حدثنا عباد بن العوّام ، قال : حدثنا عبد الواحد بن سليم ، قال : سمعت عطاء ، قال : سألت الوليد بن عبادة بن الصامت : كيف كانت وصية أبيك حين حشره الموت ؟ فقال : دعاني فقال : أي بنيّ اتق الله واعلم أنك لن تتقي الله ، ولن تبلغ العلم حتى تؤمن بالله وحده ، والقدرِ خيره وشرّه ، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إنّ أوّلَ ما خَلَقَ اللّهُ خَلَقَ القَلَمَ ، فَقالَ لَهُ : اكْتُبْ ، قالَ : يا رَبّ ومَا أكْتُبْ ؟ قالَ : اكْتُبَ القَدَرَ ، قالَ : فَجَرَى القَلَمُ فِي تِلْكَ السّاعَةِ بِمَا كانَ ، ومَا هُوَ كائِنٌ إلى الأبَدِ » .

حدثني محمد بن عبد الله الطوسي ، قال : حدثنا عليّ بن الحسن بن شقيق ، قال : أخبرنا عبد الله بن المبارك ، قال : أخبرنا رباح بن زيد ، عن عمرو بن حبيب ، عن القاسم بن أبي بزّة ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس أنه كان يحدّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «أوّلُ شَيْءٍ خَلَقَ اللّهُ القَلَمَ ، وأمَرَهُ فَكَتَبَ كُلّ شَيْءٍ » .

حدثنا موسى بن سهل الرملي ، قال : حدثنا نعيم بن حماد ، قال : حدثنا ابن المبارك بإسناده عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، نحوه .

حدثنا موسى بن سهل الرملي ، قال : حدثنا نعيم بن حماد ، قال : حدثنا ابن المبارك بإسناده عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، نحوه

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي هاشم ، عن مجاهد قال : قلت لابن عباس : إن ناسا يكذّبون بالقدر ، فقال : إنهم يكذّبون بكتاب الله ، لأخذنّ بشَعْر أحدهم ، فلا يقصّن به ، إن الله كان على عرشه قبل أن يخلق شيئا ، فكان أوّل ما خلق الله القلم ، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة ، فإنما يجري الناس على أمر قد فُرِغ منه .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الصمد ، قال : حدثنا شعبة ، قال : حدثنا أبو هاشم ، أنه سمع مجاهدا ، قال : سمعت عبد الله لا ندري ابن عمر أو ابن عباس قال : إن أوّل ما خلق الله القلم ، فجرى القلم بما هو كائن وإنما يعمل الناس اليوم فيما قد فُرِغ منه .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني معاوية بن صالح وحدثني عبد الله بن آدم ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا الليث بن سعد عن معاوية بن صالح ، عن أيوب بن زياد ، قال : ثني عباد بن الوليد بن عبادة بن الصامت ، قال : أخبرني أبي ، قال : قال أبي عُبادة بن الصامت : يا بنيّ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إنّ أوّلَ ما خَلَقَ اللّهُ القَلَمَ ، فَقالَ لَهُ : اكْتُبْ فَجَرَى فِي تِلْكَ السّاعَةِ بِمَا هُوَ كائِنٌ إلى يَوْمِ القِيامَةِ » .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ن وَالقَلَمِ قال : الذي كُتِبَ به الذكر .

حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، أخبره عن إبراهيم بن أبي بكر ، عن مجاهد ، في قوله : ن والقَلَمِ قال : الذي كتب به الذكر .

وقوله : ومَا يَسْطُرُون ، يقول : والذي يخُطّون ويكتبون . وإذا وُجّهَ التأويل إلى هذا الوجه كان القسم بالخلق وأفعالهم . وقد يحتمل الكلام معنى آخر ، وهو أن يكون معناه : وسطرهم ما يسطرون ، فتكون «ما » بمعنى المصدر . وإذا وُجه التأويل إلى هذا الوجه ، كان القسم بالكتاب ، كأنه قيل : ن والقلم والكتاب . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَما يَسْطُرُونَ قال : وما يَخُطّون .

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ومَا يَسْطُرُونَ ، يقول : يكتبون .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ومَا يَسْطُرُون ، قال : وما يكتبون .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ومَا يَسْطُرُونَ : وما يكتبون .

يقال منه : سطر فلان الكتاب فهو يَسْطُر سَطْرا : إذا كتبه ومنه قول رُؤبة بن العجّاج :

*** إنّي وأسْطارٍ سُطِرْنَ سَطْرَا ***

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{نٓۚ وَٱلۡقَلَمِ وَمَا يَسۡطُرُونَ} (1)

مقدمة السورة:

وهي مكية ولا خلاف فيها بين أحد من أهل التأويل{[1]} .

قوله عز وجل :

ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ( 1 )

{ ن } حرف مقطع في قول الجمهور من المفسرين ، فيدخله من الخلاف ما يدخل أوائل السور ، ويختص هذا الموضع من الأقوال بأن قال مجاهد وابن عباس : نون ، اسم الحوت الأعظم الذي عليه الأرضون السبع فيما يروى . وقال ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك : النون اسم للدواة ، فهذا إما أن يكون لغة لبعض العرب ، أو تكون لفظة أعجمية عربت ، قال الشاعر : [ الوافر ]

إذا ما الشوق برح بي إليهم . . . ألقت النون بالدمع السجوم{[11227]}

فمن قال إنه اسم الحوت جعل { القلم } الذي خلقه الله تعالى وأمره فكتب الكائنات وجعل الضمير في { يسطرون } للملائكة ، ومن قال بأن «نون » اسم للدواة ، جعل { القلم } هذا المتعارف بأيدي الناس . نص ذلك ابن عباس وجعل الضمير في { يسطرون } للناس ، فجاء القسم على هذا بمجموع أم الكتاب الذي هو قوام للعلوم والمعارف وأمور الدنيا والآخرة ، فإن القلم أخ اللسان ، ومطية الفطنة ، ونعمة من الله عامة . وروى معاوية بن قرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { ن } لوح من نور{[11228]} ، وقال ابن عباس وغيره : هو حرف من حروف الرحمن ، وقالوا إنه تقطع في القرآن : { الر } [ يونس : 1 ، هود : 1 ، يوسف : 1 ، إبراهيم : 1 ، الحجر : 1 ] و { حم } [ غافر : 1 ، فصلت : 1 ، الشورى : 1 ، الزخرف : 1 ، الدخان : 1 ، الجاثية : 1 ، الأحقاف : 1 ] ، و { ن } ، وقرأ عيسى بن عمر بخلاف «نونَ » بالنصب ، والمعنى : اذكر نونَ ، وهذا يقوى مع أن يكون اسماً للسورة ، فهو مؤنث سمي به مؤنث ، ففيه تأنيث وتعريف ، ولذلك لم ينصرف ، وانصرف نوح ، لأن الخفة بكونه على ثلاثة أحرف غلبت على العجمة ، وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق والحسن : «نونِ » بكسر النون ، وهذا كما تقول في القسم بالله ، وكما تقول : «جبر »{[11229]} وقيل كسرت لاجتماع الساكنين ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم : «نونْ » بسكون النون ، وهذا على أنه حرف منفصل فحقه الوقوف عليه ، وقرأ قوم ، منهم الكسائي : { ن والقلم } بالإدغام دون غنة ، وقرأ آخرون بالإدغام وبغنة ، وقرأ الكسائي ويعقوب عن نافع وأبو بكر عن عاصم بالإخفاء بين الإدغام والإظهار . و { يسطرون } معناه : يكتبون سطوراً ، فإن أراد الملائكة فهو كتب الأعمال وما يؤمرون به ، وإن أراد بني آدم ، فهي الكتب المنزلة والعلوم وما جرى مجراها .


[1]:- أي فيمن نزلت، أفي المؤمنين جميعا أم في مؤمني أهل الكتاب؟
[11227]:الدمع السجوم: السائل المنصب من العين قليلا كان أو كثيرا. (اللسان).
[11228]:أخرجه ابن جرير ، عن معاوية بن قرة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ن والقلم وما يسطرون} قال: لوح من نور، وقلم من نور يجري بما هو كائن إلى يوم القيامة). (الدر المنثور) و (تفسير الطبري).
[11229]:جير بمعنى اليمين، يقال: جير لا أفعل كذا وكذا، قال الجوهري: "قولهم جير لا آتيك- بكسر الراء- يمين للعرب، ومعناها حقا" راجع الصحاح واللسان.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{نٓۚ وَٱلۡقَلَمِ وَمَا يَسۡطُرُونَ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

سورة القلم: سورة ن، مكية.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

سورة ن و القلم...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

وهي مكية، ولا خلاف فيها بين أحد من أهل التأويل...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

مقصودها:

إظهار ما استتر، وبيان ما أبهم في آية "فستعلمون من هو في ضلال مبين " بتعيين المهتدي الذي برهن على هدايته حيازته العلم الذي هو النور الأعظم، الذي لا يضل بمصاحبته بتقبل القرآن والتخلق بالفرقان، الذي هو صفة الرحمن بقدر الإمكان الذي تصل إليه قوة الإنسان.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

لا يمكن تحديد التاريخ الذي نزلت فيه هذه السورة سواء مطلعها أو جملتها. كما أنه لا يمكن الجزم بأن مطلعها قد نزل أولا، وأن سائرها نزل أخيرا -ولا حتى ترجيح هذا الاحتمال. لأن مطلع السورة وختامها يتحدثان عن أمر واحد، وهو تطاول الذين كفروا على شخص رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وقولهم: إنه مجنون!... والروايات التي تقول: إن هذه السورة هي الثانية في النزول بعد سورة العلق كثيرة، ومن المتفق عليه في ترتيب المصاحف المختلفة أنها هي السورة الثانية؛ ولكن سياق السورة وموضوعها وأسلوبها يجعلنا نرجح غير هذا. حتى ليكاد يتعين أنها نزلت بعد فترة من الدعوة العامة، التي جاءت بعد نحو ثلاث سنوات من الدعوة الفردية، في الوقت الذي أخذت فيه قريش تدفع هذه الدعوة وتحاربها، فتقول عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] تلك القولة الفاجرة؛ وأخذ القرآن يردها وينفيها، ويهدد المناهضين للدعوة، ذلك التهديد الوارد في السورة...

واحتمال أن مطلع السورة نزل مبكرا وحده بعد مطلع سورة العلق. وأن الجنون المنفي فيه: (ما أنت بنعمة ربك بمجنون).. جاء بمناسبة ما كان يتخوفه النبي [صلى الله عليه وسلم] على نفسه في أول الوحي، من أن يكون ذلك جنونا أصابه.. هذا الاحتمال ضعيف. لأن هذا التخوف ذاته على هذا النحو ليست فيه رواية محققة، ولأن سياق السورة المتماسك يدل على أن هذا النفي ينصب على ما جاء في آخرها من قوله تعالى: (وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون: إنه لمجنون).. فهذا هو الأمر الذي افتتح السورة بنفيه، كما يتبادر إلى الذهن عند قراءة السورة المتماسكة الحلقات...

كذلك ذكرت بعض الروايات أن في السورة آيات مدنية من الآية السابعة عشرة إلى نهاية الآية الثالثة والثلاثين. وهي الآيات التي ذكرت قصة أصحاب الجنة وابتلاءهم، والآيات من الثانية والأربعين إلى نهاية الخمسين وهي التي تشير إلى قصة صاحب الحوت.. ونحن نستبعد هذا كذلك. ونعتقد أن السورة كلها مكية. لأن طابع هذه الآيات عميق في مكيته. وهو أنسب شيء لأن يجيء في سياق السورة عند نزولها متسقا مع الموضوع ومع الحالة التي تعالجها.

والذي نرجحه بشأن السورة كلها أنها ليست الثانية في ترتيب النزول؛ وأنها نزلت بعد فترة من البعثة النبوية بعد أمر النبي [صلى الله عليه وسلم] بالدعوة العامة. وبعد قول الله تعالى له: (وأنذر عشيرتك الأقربين). وبعد نزول طائفة من القرآن فيها شيء من قصص الأولين وأخبارهم، التي قال عنها قائلهم: (أساطير الأولين).. وبعدما أصبحت قريش مدعوة إلى الإسلام كافة، وأصبحت تدفع هذه الدعوة بالاتهامات الباطلة والحرب العنيفة التي اقتضت تلك الحملة العنيفة الواردة في السورة على المكذبين، والتهديد القاصم في أولها وفي آخرها على السواء.. والمشهد الأخير في السورة يوحي بهذا كذلك: (وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون: إنه لمجنون).. فهو مشهد دعوة عامة لمجموعات كبيرة. ولم يكن الأمر كذلك في أول الدعوة. إنما كانت الدعوة توجه إلى أفراد. بوسيلة فردية. ولا تلقى إلى الذين كفروا وهم متجمعون. ولم يقع شيء من هذا- كما تقول الروايات الراجحة -إلا بعد ثلاث سنوات من بدء الدعوة...

والسورة تشير إلى شيء من عروض المشركين على النبي [صلى الله عليه وسلم] للالتقاء في منتصف الطريق، والتهادن على تراض في القضية التي يختلفون عليها وهي قضية العقيدة: (ودوا لو تدهن فيدهنون).. وظاهر أن مثل هذه المحاولة لا تكون والدعوة فردية، ولا خطر منها. إنما تكون بعد ظهورها، وشعور المشركين بخطرها...

وهكذا تتضافر الشواهد على أن هذه السورة نزلت متأخرة عن أيام الدعوة الأولى. وأن هناك ثلاث سنوات على الأقل- قابلة للزيادة -بين بدء الدعوة وبين وقت نزولها. ولا يعقل أن ثلاث سنوات مرت لم يتنزل فيها قرآن. والطبيعي أن تكون هناك سور كثيرة، وأجزاء من سور قد نزلت في هذه الفترة، تتحدث عن ذات العقيدة بدون مهاجمة عنيفة للمكذبين بها كالوارد في هذه السورة منذ مطلعها...

ولكن هذا لا ينفي أن تكون هذه السورة وسورتا المدثر والمزمل قد نزلت في الفترة الأولى من الدعوة. وإن لم يكن ذلك أول ما نزل كما هو وارد في المصاحف، للأسباب التي أوردناها هنا.

وهي تكاد تنطبق كذلك على سورتي المزمل والمدثر...

لقد كانت هذه الغرسة- غرسة العقيدة الإسلامية -تودع في الأرض لأول مرة في صورتها الرفيعة المجردة الناصعة. وكانت غريبة على حس الجاهلية السائدة، لا في الجزيرة العربية وحدها بل كذلك في أنحاء الأرض جميعا. وكانت النقلة عظيمة بين الصورة الباهتة المحرفة المشوهة من ملة إبراهيم التي يستمسك بخيوط حائلة منها مشركو قريش، ويلصقون بها الترهات والأساطير والأباطيل السائدة عندهم، وبين الصورة الباهرة العظيمة المستقيمة الواضحة البسيطة الشاملة المحيطة التي جاءهم بها محمد [صلى الله عليه وسلم] متفقة في أصولها مع الحنيفية الأولى- دين إبراهيم عليه السلام -وبالغة نهاية الكمال الذي يناسب كونها الرسالة الأخيرة للأرض، الباقية لتخاطب الرشد العقلي في البشرية إلى آخر الزمان. وكانت النقلة عظيمة بين الشرك بالله وتعدد الأرباب، وعبادة الملائكة وتماثيلها، والتعبد للجن وأرواحها، وسائر هذه التصورات المضطربة المفككة التي تتألف منها العقيدة الجاهلية.. وبين الصورة الباهرة التي يرسمها القرآن للذات الإلهية الواحدة وعظمتها وقدرتها، وتعلق إرادتها بكل مخلوق. كذلك كانت النقلة عظيمة بين الطبقية السائدة في الجزيرة، والكهانة السائدة في ديانتها، واختصاص طبقات بالذات بالسيادة والشرف وسدانة الكعبة والقيام بينها وبين العرب الآخرين.. وبين البساطة والمساواة أمام الله والاتصال المباشر بينه وبين عباده كما جاء بها القرآن. ومثلها كانت النقلة بين الأخلاق السائدة في الجاهلية والأخلاق التي جاء القرآن يبشر بها، وجاء محمد [صلى الله عليه وسلم] يدعو إليها ويمثلها. وكانت هذه النقلة وحدها كافية للتصادم بين العقيدة الجديدة وبين قريش ومعتقداتها وأخلاقها. ولكن هذه لم تكن وحدها. فقد كان إلى جانبها اعتبارات- ربما كانت أضخم في تقدير قريش من العقيدة ذاتها -على ضخامتها. كانت هناك الاعتبارات الاجتماعية التي دعت بعضهم أن يقول كما حكى عنهم القرآن الكريم: (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم!).. والقريتان هما مكة والطائف. فإن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] مع شرف نسبه، وأنه في الذؤابة من قريش، لم تكن له مشيخة فيهم ولا رياسة قبل البعثة. بينما كان هناك مشيخة قريش ومشيخة ثقيف وغيرهما، في بيئة تجعل للمشيخة والرياسة القبلية كل الاعتبار، فلم يكن من السهل الانقياد خلف محمد [صلى الله عليه وسلم] من هؤلاء المشيخة! وكانت هناك الاعتبارات العائلية التي تجعل رجلا كأبي جهل "عمرو بن هشام " يأبى أن يسلم بالحق الذي يواجهه بقوة في الرسالة الإسلامية، لأن نبيها من بني عبد مناف.. وذلك كما ورد في قصته مع الأخنس بن شريق وأبي سفيان بن حرب، حين خرجوا ثلاث ليال يستمعون القرآن خفية، وهم في كل ليلة يتواعدون على عدم العودة خيفة أن يراهم الناس فيقع في نفوسهم شيء. فلما سأل الأخنس بن شريق أبا جهل رأيه فيما سمع من محمد كان جوابه: " ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا. حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء. فمتى ندرك مثل هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه!". وكانت هناك اعتبارات أخرى نفعية وطبقية ونفسية من ركام الجاهلية في المشاعر والتصورات والأوضاع كلها تحاول قتل تلك الغرسة الجديدة في مغرسها بكل وسيلة قبل أن تثبت جذورها وتتعمق، وقبل أن تمتد فروعها وتتشابك. وبخاصة بعد أن تجاوزت دور الدعوة الفردية؛ وأمر الله تعالى نبيه [صلى الله عليه وسلم] أن يجهر بالدعوة؛ وأخذت معالم الدعوة الجديدة تبرز، كما أخذ القرآن يتنزل بتسفيه عقيدة الشرك وما وراءها من الآلهة المدعاة والتصورات المنحرفة والتقاليد الباطلة. والرسول [صلى الله عليه وسلم] ولو أنه نبي، ولو أنه يتلقى من ربه الوحي، ولو أنه يتصل بالملأ الأعلى.. هو بشر، تخالجه مشاعر البشر. وكان يتلقى هذه المقاومة العنيفة، وتلك الحرب التي شنها عليه المشركون، ويعاني وقعها العنيف الأليم، هو والحفنة القليلة التي آمنت به على كره من المشركين. وكان [صلى الله عليه وسلم] يسمع والمؤمنون به يسمعون، ما كان يتقوله عليه المشركون، ويتطاولون به على شخصه الكريم، (ويقولون: إنه لمجنون).. ولم تكن هذه إلا واحدة من السخريات الكثيرة، التي حكاها القرآن في السور الأخرى؛ والتي كانت توجه إلى شخصه [صلى الله عليه وسلم] وإلى الذين آمنوا معه. وغير الأذى الذي كان يصيب الكثيرين منهم على أيدي أقربائهم الأقربين! والسخرية والاستهزاء- مع الضعف والقلة -مؤذيان أشد الإيذاء للنفس البشرية، ولو كانت هي نفس رسول. ومن ثم نرى في السور المكية- كسور هذا الجزء -أن الله كأنما يحتضن- سبحانه -رسوله والحفنة المؤمنة معه، ويواسيه ويسري عنه، ويثني عليه وعلى المؤمنين. ويبرز العنصر الأخلاقي الذي يتمثل في هذه الدعوة وفي نبيها الكريم. وينفي ما يقوله المتقولون عنه، ويطمئن قلوب المستضعفين بأنه هو يتولى عنهم حرب أعدائهم، ويعفيهم من التفكير في أمر هؤلاء الأعداء الأقوياء الأغنياء! ونجد من هذا في سورة القلم مثل قوله تعالى عن النبي [صلى الله عليه وسلم]: (ن. والقلم وما يسطرون. ما أنت بنعمة ربك بمجنون. وإن لك لأجرا غير ممنون. وإنك لعلى خلق عظيم).. وقوله تعالى عن المؤمنين: إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم. أفنجعل المسلمين كالمجرمين؟ مالكم؟ كيف تحكمون؟!.. ويقول عن أحد أعداء النبي البارزين: (ولا تطع كل حلاف مهين. هماز مشاء بنميم. مناع للخير معتد أثيم. عتل بعد ذلك زنيم. أن كان ذا مال وبنين. إذا تتلى عليه آياتنا قال: أساطير الأولين. سنسمه على الخرطوم!).. ثم يقول عن حرب المكذبين عامة: (فذرني ومن يكذب بهذا الحديث. سنستدرجهم من حيث لا يعلمون. وأملي لهم إن كيدي متين).. وذلك غير عذاب الآخرة المذل للمتكبرين: يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون. خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة. وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون.. ويضرب لهم أصحاب الجنة- جنة الدنيا -مثلا على عاقبة البطر تهديدا لكبراء قريش المعتزين بأموالهم وأولادهم ممن لهم مال وبنون؛ الكائدون للدعوة بسبب مالهم من مال وبنين. وفي نهاية السورة يوصي النبي [صلى الله عليه وسلم] بالصبر الجميل: (فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت..). ومن خلال هذه المواساة وهذا الثناء وهذا التثبيت، مع الحملة القاصمة على المكذبين والتهديد الرهيب، يتولى الله- سبحانه -بذاته حربهم في ذلك الأسلوب العنيف.. من خلال هذا كله نتبين ملامح تلك الفترة، فترة الضعف والقلة، وفترة المعاناة والشدة، وفترة المحاولة القاسية لغرس تلك الغرسة الكريمة في تلك التربة العنيدة! كذلك نلمح من خلال أسلوب السورة وتعبيرها وموضوعاتها ملامح البيئة التي كانت الدعوة الإسلامية تواجهها. وهي ملامح فيها سذاجة وبدائية في التصور والتفكير والمشاعر والاهتمامات والمشكلات على السواء. نلمح هذه السذاجة في طريقة محاربتهم للدعوة بقولهم للنبي [صلى الله عليه وسلم] (إنه لمجنون)! وهو اتهام لا حبكة فيه ولا براعة، وأسلوب من لا يجد إلا الشتمة الغليظة يقولها بلا تمهيد ولا برهان، كما يفعل السذج البدائيون. ونلمحها في الطريقة التي يرد الله بها عليهم فريتهم ردا يناسب حالهم: (ما أنت بنعمة ربك بمجنون. وإن لك لأجرا غير ممنون. وإنك لعلى خلق عظيم. فستبصر ويبصرون. بأيكم المفتون).. وكذلك في التهديد المكشوف العنيف: (فذرني ومن يكذب بهذا الحديث. سنستدرجهم من حيث لا يعلمون. وأملي لهم إن كيدي متين).. ونلمحها في رد هذا السب على رجل منهم: (ولا تطع كل حلاف مهين. هماز مشاء بنميم. مناع للخير معتد أثيم. عتل بعد ذلك زنيم...). ونلمحها في القصة- قصة أصحاب الجنة -التي ضربها الله لهم. وهي قصة قوم سذج في تفكيرهم وتصورهم وبطرهم، وفي حركاتهم كذلك وأقوالهم (وهم يتخافتون. ألا يدخلنها اليوم عليكم مسكين.. الخ). وأخيرا نلمح سذاجتهم من خلال ما يوجهه إليهم من الجدل: (أم لكم كتاب فيه تدرسون: إن لكم فيه لما تخيرون؟ أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون؟ سلهم أيهم بذلك زعيم؟)... وهي ملامح تظهر بوضوح من خلال التعبير القرآني، وتفيد في دراسة السيرة ووقائعها وخطوات الدعوة فيها؛ ومدى ما ارتفع القرآن بعد ذلك بهذه البيئة وبتلك الجماعة في أواخر عهد الرسول [صلى الله عليه وسلم] ومدى ما نقلها من هذه السذاجة في التفكير والتصور والشعور والاهتمام. كما يتضح في أساليب الخطاب فيما بعد، وفي الحقائق والمشاعر والتصورات والاهتمامات بعد عشرين عاما لا تزيد. وهي في حياة الأمم ومضة لا تذكر. ولا تقاس إليها تلك النقلة الواسعة الشاملة.. التي انتقلتها الجماعة في هذا الوقت القصير. والتي تسلمت بها قيادة البشرية فارتفعت بتصوراتها وأخلاقها إلى القمة التي لم ترتفع إليها قيادة قط في تاريخ البشرية، لا من ناحية طبيعة العقيدة، ولا من ناحية آثارها الواقعية في حياة الإنسان في الأرض، ولا من ناحية السعة والشمول لتضم الإنسانية كلها بين جوانحها في سماحة وعطف، وفي تلبية لكل حاجاتها الشعورية، وحاجاتها الفكرية، وحاجاتها الاجتماعية، وحاجاتها التنظيمية في شتى الميادين.. إنها المعجزة تتجلى في النقلة من هذه السذاجة التي تبدو ملامحها من خلال مثل هذه السورة إلى ذلك العمق والشمول. وهي نقلة أوسع وأكبر من تحول القلة إلى كثرة، والضعف إلى قوة، لأن بناء النفوس والعقول أعسر من بناء الأعداد والصفوف...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

أغراضها:

جاء في هذه السورة بالإيماء بالحرف الذي في أولها إلى تحدي المعاندين بالتعجيز عن الإتيان بمثل سور القرآن وهذا أول التحدي الواقع في القرآن إذ ليس في سورة العلق ولا في المزمل ولا في المدثر إشارة إلى التحدي ولا تصريح.

وفيها إشارة إلى التحدي بمعجزة الأمية بقوله {والقلم وما يسطرون}.

وابتدئت بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم تأنيسا له وتسلية عما لقيه من أذى المشركين.

وإبطال مطاعن المشركين في النبي صلى الله عليه وسلم.

وإثبات كمالاته في الدنيا والآخرة وهديه وضلال معانديه وتثبيته.

وأكد ذلك بالقسم بما هو من مظاهر حكمة الله تعالى في تعليم الإنسان الكتابة فتضمن تشريف حروف الهجاء والكتابة والعلم لتهيئة الأمة لخلع دثار الأمية عنهم وإقبالهم على الكتابة والعلم لتكون الكتابة والعلم سببا لحفظ القرآن.

ثم أنحى على زعماء المشركين مثل أبي جهل والوليد بن المغيرة بمذمات كثيرة وتوعدهم بعذاب الآخرة وببلايا في الدنيا بأن ضرب لهم مثلا بمن غرهم عزهم وثراؤهم، فأزال الله ذلك عنهم وأباد نعمتهم.

وقابل ذلك بحال المؤمنين المتقين وأن الله اجتباهم بالإسلام، وأن آلهتهم لا يغنون عنهم شيئا من العذاب في الدنيا ولا في الآخرة.

ووعظهم بأن ما هم فيه من النعمة استدراج وإملاء جزاء كيدهم. وأنهم لا معذرة لهم فيما قابلوا به دعوة النبي صلى الله عليه وسلم من طغيانهم ولا حرج عليهم في الإنصات إليها.

وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر في تبليغ الدعوة وتلقي أذى قومه، وأن لا يضجر في ذلك ضجرا عاتب الله عليه نبيه يونس عليه السلام.

التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :

في السورة تثبيت وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم وثناء عليه، وحملة على المكذبين وإنذار لهم، وصور لمواقفهم من الدعوة.

وفيها قصة جاءت في معرض التذكير والإنذار، كما فيها إشارة إلى قصة يونس في معرض تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم.

ومضمون الأربع الأولى منها والتالية لها، يحتمل أن تكون الآيات الأربع نزلت لحدة، وأن تكون بقية الآيات نزلت بعد مدة ما، كما يحتمل أن تكون جميعها نزلت دفعة واحدة.

وترتيبها كثانية السور نزولا ًهو بناء على احتمال نزول الآيات الأربع لحدتها. وعقب آيات سورة العلق الخمس الأولى. فإذا لم يكن هذا الاحتمال صحيحاً وكانت الآيات الأربع وما بعدها قد نزلت معاً، فلا يكون ترتيبها هذا صحيحاً والحالة هذه، ويقتضي أن تكون نزلت متأخرة بعض الشيء. وقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات [17-33] و [48-50] مدنيات. وأسلوبها ومضمونها يلهمان عدم صحة ذلك. وآيات السور منسجمة في موضوعها وتسلسلها وسبكها. وهذا يسوغ القول: إنها من السور التي نزلت دفعة واحدة أو فصولاً متلاحقة، مع ملاحظة ما ذكرناه في صدد آياتها الأربع الأولى.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

وهذه السورة هي من السور المكية التي تضع في عنوانها القلم والكتابة اللذين أراد الله للإسلام أن يتحرك من خلالهما بين الناس وتوجيههم إلى الانفتاح على المعرفة المقروءة والمكتوبة، ليرتفع مستواهم الثقافي العلمي، ولينطلقوا من خلالهما إلى تعريف العالمين بالقرآن المكتوب، وبالإسلام الذي تتنوّع أغراضه وتمتدّ معارفه في شتى فروع الحياة، وحركة الإنسان فيها، لأن ذلك هو السبيل الذي يُغني تجربة الأمة في فكرها وحركتها واندفاعها نحو المستوى الأعلى في التقدّم والارتفاع.

كما تؤكد على شخصية الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) في عقله الكبير الذي احتوى الرسالة، في الوحي الذي أنزل عليه، وفي الحكمة التي اختزنها، وفي التجربة الحية المعصومة التي حركها، وفي القيادة التي أدارها وقاد الأمة إلى الصراط المستقيم في خطواتها، وفي حركة الدعوة التي خطط لها في الأسلوب والكلمة والمضمون، حتى امتدت إلى آفاق الحياة الواسعة في وقت قصير، وفي خلقه العظيم الذي جسّد الرسالة بكل أَخلاقيتها الروحية والسلوكية، حتى استطاع أن يحوّلها إلى صورةٍ حيةٍ متحركة ليعطي الناس الفكرة من موقع القدوة، كما أعطاها لهم من قاعدة الدعوة. وهكذا وضع له البرنامج العملي في مواجهته للفئات القلقة في المجتمع التي تمثل نماذج الأخلاق الشريرة التي تسيء إلى من حولهم.

ثم تطوف السورة في أجواء القيامة لتتحدث عن المتقين وهم في جنات النعيم، وعن الكافرين وهم في عذاب الله وسخطه.

وتختم السورة الخطاب الرسالي للنبي بأن يتمسّك بالقوّة أمام كل التهاويل التي يحشدها الكافرون في طريقه، وذلك من خلال الصبر على حكم ربه في ما فرضه عليه من مواقف،

ثم تطرح الحديث عن يونس (عليه السلام) صاحب الحوت الذي لم يصبر على ما عاناه من الشدّة في مواجهة الكافرين له.

ثم يأتي الحديث عن كلماتهم غير المسؤولة، ونظراتهم غير الحميمة في ما يثيرونه من تهمة الجنون، في طريقة تعاملهم معه، ليوحي إليه بأنّ المسألة ليست مسألتك الشخصية لأنهم كانوا يحترمون عقلك ووعيك وصدقك وأمانتك قبل ذلك، ولكن المسألة هي مسألة الذكر الذي أنزله الله عليك، فأحرجهم بتحدياته، فأثاروا الحديث بالجنون حول شخصك ليبطلوا أثره. فتابع سيرك، لأن القضية ليست قضيتهم، بل هي قضية العالمين الذين جاء الذكر ليكون ذكراً لهم جميعاً.

اسم السورة وسميت بالقلم تبياناً لأهميته كوسيلةٍ من وسائل تحريك المعرفة عند الناس في ما ينتجونه من قضايا المعرفة بالله وبالكون وبالإنسان وبالحياة في آفاق العلم الذي يرتفع بالحياة إلى مستواها العظيم في القرب من الله.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

وبشكل عامّ يمكن تلخيص مباحث هذه السورة بسبعة أقسام:

في البداية تستعرض السورة بعض الصفات الخاصّة لرسول الإنسانية محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وخصوصاً أخلاقه البارّة السامية الرفيعة، ولتأكيد هذا الأمر يقسِمُ البارئ عزّ وجلّ في هذا الصدد.

ثمّ تتعرّض بعض الآيات الواردة في هذه السورة إلى قسم من الصفات السيّئة والأخلاق الذميمة لأعدائه.

كما يبيّن قسم آخر من الآيات الشريفة قصّة (أصحاب الجنّة) والتي هي بمثابة توجيه إنذار وتهديد للسالكين طريق العناد من المشركين.

وفي قسم آخر من السورة ذكرت عدّة أمور حول القيامة والعذاب الأليم للكفّار في ذلك اليوم.

كما جاء في آيات أخرى جملة إنذارات وتهديدات للمشركين.

ونلاحظ في آيات أخرى من السورة الأمر الإلهي للرسول العظيم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يواجه الأعداء بصبر واستقامة وقوّة وصلابة.

وأخيراً تختتم السورة موضوعاتها بحديث حول عظمة القرآن الكريم، وطبيعة المؤامرات التي كان يحوكها الأعداء ضدّ الرّسول محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)...

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{ن والقلم} يعني بنون الحوت.

{وما يسطرون} يقول: وما تكتب الملائكة من أعمال بني آدم، وذلك حين قال كفار مكة، أبو جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وغيرهم: إن محمدا مجنون، فأقسم الله تعالى بالحوت والقلم وما يسطرون الملائكة من أعمال بني آدم...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"ن"؛

فقال بعضهم: هو الحوت...

وقال آخرون: ن: حرف من حروف الرحمن...

وقال آخرون: ن: الدواة، والقلم: القلم...

وقال آخرون: ن: لوح من نوره...

وقال آخرون: ن: قَسَم أقسم الله به...

وقال آخرون: هي اسم من أسماء السورة...

وقال آخرون: هي حرف من حروف المعجم...

وأما القلم: فهو القلم المعروف، غير أن الذي أقسم به ربنا من الأقلام: القلم الذي خلقه الله تعالى ذكره، فأمره فجرى بكتابة جميع ما هو كائن إلى يوم القيامة. وقوله: "ومَا يَسْطُرُون"، يقول: والذي يخُطّون ويكتبون...

وإذا وُجّهَ التأويل إلى هذا الوجه كان القسم بالخلق وأفعالهم.

وقد يحتمل الكلام معنى آخر، وهو أن يكون معناه: وسطرهم ما يسطرون، فتكون «ما» بمعنى المصدر. وإذا وُجه التأويل إلى هذا الوجه، كان القسم بالكتاب، كأنه قيل: ن والقلم والكتاب...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

اختلف في تأويل {ن}... منهم من يقول: هو من الحروف المقطعة. ويشبه أن يكون هو المراد، لأنه ذكر القلم {وما يسطرون} على إثره، وإنما يكتب بالقلم، وتسطر الحروف المعجمة. فأخبر تعالى عظيم صنعه ولطفه بإنشائه هذه الحروف، وخلقه القلم وما يسطر به حين يوصل بها إلى تعرف الحكمة وكل ما تكون به المصلحة من الدين والدنيا. بل جعل قوام الدين والدنيا بها...

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

وفي قوله {وما يَسْطرون} ثلاثة أقاويل:

أحدها: وما يعملون، قاله ابن عباس.

الثالث: أنهم الملائكة الكاتبون يكتبون أعمال الناس من خير وشر...

تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :

الدواة والقلم الذي يكتب به بنو آدم.

ومعنى الآية هو القسم، ولله أن يقسم بما شاء من خلقه.

وقال قتادة: لولا القلم ما قام لله دين، ولا كان للخلق عيش.

جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :

من فضل القلم وشرفه، أن الله تعالى أقسم به فقال عز من قائل: {ن والقلم وما يسطرون}. (التبر المسبوك في نصيحة الملوك: 93).

من شرف الكتابة أن الله سبحانه وتعالى أقسم بها فقال: {ن والقلم وما يسطرون} فإن: الكتابة نعمة من نعم الله تعالى، ولها مزية حسنة عند ذوي الألباب، لأنها تحفظ ما يتولد عن أفاهم العقلاء، وتقيد ما تصطاده أذهان الحكماء. (المعارف العقلية: 78)

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

قرئ: «ن والقلم» بالبيان والإدغام، وبسكون النون وفتحها وكسرها، كما في ص. والمراد هذا الحرف من حروف المعجم: وأمّا قولهم: هو الدواة فما أدري أهو وضع لغوي أم شرعي؟ ولا يخلو إذا كان اسماً للدواة من أن يكون جنساً أو علماً، فإن كان جنساً فأين الإعراب والتنوين، وإن كان علماً فأين الإعراب، وأيهما كان فلا بد له من موقف في تأليف الكلام. فإن قلت: هو مقسم به، وجب إن كان جنساً أن تجرّه وتنوّنه، ويكون القسم بدواة منكرة مجهولة، كأنه قيل: ودواة والقلم، وإن كان علماً أن تصرفه وتجرّه، أو لا تصرفه وتفتحه للعلمية والتأنيث، وكذلك التفسير بالحوت: إما أن يراد نون من النينان، أو يجعل علماً للبهموت الذي يزعمون، والتفسير باللوح من نور أو ذهب، والنهر في الجنة نحو ذلك.

وأقسم بالقلم: تعظيماً له، لما في خلقه وتسويته من الدلالة على الحكمة العظيمة، ولما فيه من المنافع والفوائد التي لا يحيط بها الوصف.

{وَمَا يَسْطُرُونَ} وما يكتب من كتب، وقيل ما يسطره الحفظة.

ويجوز أن يراد بالقلم أصحابه فيكون الضمير في {يَسْطُرُونَ} لهم كأنه قيل: وأصحاب القلم ومسطوراتهم. أو وسطورهم، ويراد بهم كل ما يسطر، أو الحفظة...

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

رَوَى الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ سَمِيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ، ثُمَّ خَلَقَ النُّونَ، وَهِيَ الدَّوَاةُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {ن وَالْقَلَمِ}؛ ثُمَّ قَالَ: اُكْتُبْ. قَالَ: وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: مَا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلٍ، أَوْ أَجَلٍ، أَوْ رِزْقٍ، أَوْ أَثَرٍ؛ فَجَرَى الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ خَتَمَ عَلَى الْقَلَمِ فَلَمْ يَنْطِقْ، وَلَا يَنْطِقُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ خَلَقَ الْعَقْلَ فَقَالَ الْجَبَّارُ: مَا خَلَقْت خَلْقًا أَعْجَبَ إلَيَّ مِنْك، وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأُكَمِّلَنَّكَ فِيمَنْ أَحْبَبْت، وَلَأُنْقِصَنَّكَ فِيمَنْ أَبْغَضْت، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَكْمَلُ النَّاسِ عَقْلًا أَطْوَعُهُمْ لِلَّهِ وَأَعْمَلُهُمْ بِطَاعَتِهِ»

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

يقسم الله -سبحانه- بنون، وبالقلم، وبالكتابة. والعلاقة واضحة بين الحرف "نون". بوصفه أحد حروف الأبجدية وبين القلم، والكتابة..

فأما القسم بها فهو تعظيم لقيمتها، وتوجيه إليها، في وسط الأمة التي لم تكن تتجه إلى التعلم عن هذا الطريق، وكانت الكتابة فيها متخلفة ونادرة، في الوقت الذي كان دورها المقدر لها فيعلم الله يتطلب نمو هذه المقدرة فيها، وانتشارها بينها، لتقوم بنقل هذه العقيدة وما يقوم عليها من مناهج الحياة إلى أرجاء الأرض. ثم لتنهض بقيادة البشرية قيادة رشيدة. وما من شك أن الكتابة عنصر أساسي في النهوض بهذه المهمة الكبرى. ومما يؤكد هذا المفهوم أن يبدأ الوحي بقوله تعالى: (اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم).. وأن يكون هذا الخطاب موجها للنبي الأمي -الذي قدر الله أن يكون أميا لحكمة معينة- ولكنه بدأ الوحي إليها منوها بالقراءة والتعليم بالقلم. ثم أكد هذه اللفتة هنا بالقسم بنون، والقلم وما يسطرون. وكان هذا حلقة من المنهج الإلهي لتربية هذه الأمة وإعدادها للقيام بالدور الكوني الضخم الذي قدره لها في علمه المكنون. يقسم الله -سبحانه- بنون والقلم وما يسطرون، منوها بقيمة الكتابة معظما لشأنها كما أسلفنا لينفي عن رسوله [صلى الله عليه وسلم] تلك الفرية التي رماه بها المشركون، مستبعدا لها، ونعمته على رسوله ترفضها...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

افتتاح هذه السورة بأحد حروف الهجاء جار على طريقة أمثالها من فواتح السور ذوات الحروف المقطعة المبيّنة في سورة البقرة وهذه أول سورة نزلت مفتتحة بحرف مقطع من حروف الهجاء.

ورَسمُوا حرف {ن} بصورته التي يرسم بها في الخط وهي مسمّى اسمه الذي هو {نُون} (بنونٍ بعدها واو ثم نون) وكان القياس أن تكتب الحُروف الثلاثةُ لأن الكتابة تبَع للنطق والمنطوق به هو اسم الحرف لا ذاته، لأنك إذا أردتَ كتابةَ سيف مثلاً فإنما ترسم سينا، وياء، وفَاء، ولا ترسم صورة سَيْف.

وإنما يُقرأ باسم الحرف لا بهجائه كما تقدم في أول سورة البقرة.

ويُنطق باسم نون ساكنَ الآخر سكون الكلمات قبل دخول العوامل عليها، وكذلك قرئ في القراءات المتواترة.

{والقلم وما يسطرون}

يجري القسم هنا على سنن الأقسام الصادرة في كلام الله تعالى أن تكون بأشياء معظمة دالة على آثار صفات الله تعالى.

والقلم المقسم به قيل هو ما يكنى عنه بالقلم من تعلق علم الله بالموجودات الكائنة والتي ستكون، أو هو كائن غيبي لا يعلمه إلا الله. وعن مجاهد وقتادة: أنه القلم الذي في قوله تعالى {الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم}. قلت: وهذا هو المناسب لقوله {وما يسطرون} في الظاهر وهو الذي يقتضيه حال المشركين المقصودين بالخطاب الذين لا يعرفوا إلا القلم الذي هو آلة الكتابة عند أهل الكتاب وعند الذين يعرفون الكتابة من العرب.

ومن فوائد هذا القسم أن هذا القرآن كتاب الإسلام، وأنه سيكون مكتوبا مقروءا بين المسلمين، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بكتابة ما يوحى به إليه. وتعريف {القلم} تعريف الجنس.

فالقسم بالقلم لشرفه بأنه يكتب به القرآن وكتبت به الكتب المقدسة وتكتب به كتب التربية ومكارم الأخلاق والعلوم وكل ذلك مما له حظ شرف عند الله تعالى.

وهذا يرجحه أن الله نوه بالقلم في أول سورة نزلت من القرآن لقوله {اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم}.

و {ما يسطرون} هي السطور المكتوبة بالقلم و {ما} يجوز أن تكون موصولة، أي وما يكتبونه من الصحف، ويجوز أن تكون مصدرية. والمعنى: وسطرهم الكتابة سطورا.

ويجوز أن يكون قسما بالأقلام التي يكتب بها كتاب الوحي القرآن، {وما يسطرون} قسما بكتابتهم، فيكون قسما بالقرآن على أن القرآن ما هو بكلام مجنون كما تقدم في قوله تعالى {والكتاب المبين إنا جعلناه قرءانا عربيا} في سورة الزخرف...

ويسطرون: مضارع سطر، يقال: سطر من باب نصر، إذا كتب كلمات عدة تحصل منها صفوف من الكتابة. وأصله مشتق من السطر وهو القطع، لأن صفوف الكتابة تبدو كأنها قطع.

وضمير {يسطرون} راجع إلى غير مذكور في الكلام وهو معلوم للسامعين لأن ذكر القلم ينبئ بكتبة يكتبون به فكان لفظ القسم متعلقا بآلة الكتابة والكتابة، والمقصود: المكتوب في إطلاق المصدر على المفعول. فهو بمنزلة الفعل المبني للمجهول لأن الساطرين غير معلومين، فكأنه قيل: والمسطور، نضير قوله تعالى {وكتاب مسطور في رق منشور}.

ومن فسر {القلم} بمعنى تعلق علم الله تعالى بما سيكون جعل ضمير {يسطرون} راجعا إلى الملائكة فيكون السطر رمزا لتنفيذ الملائكة ما أمر الله بتنفيذه حين تلقي ذلك، أي يكتبون ذلك للعمل به أو لإبلاغه من بعضهم إلى بعض على وجه لا يقبل الزيادة ولا النقصان، فشبه ذلك الضبط بضبط الكاتب ما يريد إبلاغه بدون تغيير.

وأوثر القسم بالقلم والكتابة للإيماء إلى أن باعث الطاعنين على الرسول صلى الله عليه وسلم واللامزين له بالجنون، إنما هو ما أتاهم به من الكتاب.

والمقسم عليه نفي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم مجنونا والخطاب له بهذا تسلية له لئلا يحزنه قول المشركين لما دعاهم إلى الإسلام: هو مجنون، وذلك ما شافهوا به النبي صلى الله عليه وسلم وحكاه الله عنهم في آخر السورة {وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون}. وهكذا كل ما ورد فيه نفي صفة الجنون عنه فإنما هو رد على أقوال المشركين كقوله {وما صاحبكم بمجنون}. وقد زل فيه صاحب الكشاف زلة لا تليق بعلمه.

والمقصود من نفي الجنون عنه إثبات ما قصد المشركون نفيه وهو أن يكون رسولا من الله لأنهم لما نفوا عنه صفة الرسالة وضعوا موضعها صفة الجنون، فإذا نفي ما زعموه فقد ثبت ما ادعاه.

وقد أجيب قولهم وتأكيدهم ذلك بحرف {إن} ولام الابتداء إذ قالوا {إنه لمجنون} بمؤكدات أقوى مما في كلامهم إذ أقسم عليه وجيء بعد النفي بالباء التي تزاد بعد النفي لتأكيده، وبالجملة الاسمية منفية لدلالة الجملة الاسمية على ثبات الخبر، أي تحققه فهذه ثلاثة مؤكدات.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

يقسم تعالى بموضوعين يعتبران من أهمّ المسائل في حياة الإنسان، فيقول تعالى: (والقلم وما يسطرون). كم هو قسم عجيب؟ وقد يتصوّر أنّ القسم هنا يتعلّق ظاهراً بمواضيع صغيرة، أي قطعة من القصب أو شيء يشبه ذلك وبقليل من مادّة سوداء، ثمّ السطور التي تكتب وتخطّ على صفحة صغيرة من الورق. إلاّ أنّنا حينما نتأمّل قليلا فيه نجده مصدراً لجميع الحضارات الإنسانية في العالم أجمع، إنّ تطور وتكامل العلوم والوعي والأفكار وتطور المدارس الدينية والفكرية، وبلورة الكثير من المفاهيم الحياتية.. كان بفضل ما كُتب من العلوم والمعارف الإنسانية في الحقول المختلفة، ممّا كان له الأثر الكبير في يقظة الأمم وهداية الإنسان.. وكان ذلك بواسطة (القلم). لقد قسّمت حياة الإنسان إلى عصرين: (عصر التأريخ) و (عصر ما قبل التأريخ) وعصر تأريخ البشر يبدأ منذ أن اخترع الإنسان الخطّ واستطاع أن يدوّن قصّة حياته وأحداثها على الصفحات، وبتعبير آخر، يبدأ عندما أخذ الإنسان القلم بيده، ودوّن للآخرين ما توصّل إليه (وما يسطرون) تخليداً لماضيه. وتتّضح عظمة هذا القسم بصورة أكثر عندما نلاحظ أنّ هذه الآيات المباركة حينما نزلت لم يكن هنالك كتاب ولا أصحاب قلم، وإذا كان هنالك أشخاص يعرفون القراءة والكتابة، فإنّ عددهم في كلّ مكّة التي تمثّل المركز العبادي والسياسي والاقتصادي لأرض الحجاز لم يتجاوز ال (20) شخصاً. ولذا فإنّ القسم ب (القلم) في مثل ذلك المحيط له عظمة خاصّة. والرائع هنا أنّ الآيات الأولى التي نزلت على قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في (جبل النور) أو (غار حراء) قد أشير فيها أيضاً إلى المنزلة العليا للقلم، حيث يقول تعالى: (اقرأ باسم ربّك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربّك الأكرم، الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم). والأروع من ذلك كلّه أنّ هذه الكلمات كانت تنطلق من فمّ شخص لم يكن يقرأ أو يكتب، ولم يذهب للمكاتب من أجل التعليم قطّ، وهذا دليل أيضاً على أنّ ما ينطق به لم يكن غير الوحي السماوي...