في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱصۡبِرۡ نَفۡسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥۖ وَلَا تَعۡدُ عَيۡنَاكَ عَنۡهُمۡ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَا تُطِعۡ مَنۡ أَغۡفَلۡنَا قَلۡبَهُۥ عَن ذِكۡرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمۡرُهُۥ فُرُطٗا} (28)

28

( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ، ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ، ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا ، واتبع هواه وكان أمره فرطا . وقل : الحق من ربكم . فمن شاء فليؤمن . ومن شاء فليكفر ) . .

يروي أنها نزلت في أشراف قريش ، حين طلبوا إلى الرسول [ ص ] أن يطرد فقراء المؤمنين من أمثال بلال وصهيب وعمار وخباب وابن مسعود إذا كان يطمع في إيمان رؤوس قريش . أو أن يجعل لهم مجلسا غير مجلس هؤلاء النفر ، لأن عليهم جبابا تفوح منها رائحة العرق ، فتؤذي السادة من كبراء قريش !

ويروى أن الرسول [ ص ] طمع في إيمانهم فحدثته نفسه فيما طلبوا إليه . فأنزل الله عز وجل : ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي . . . ) أنزلها تعلن عن القيم الحقيقية ، وتقيم الميزان الذي لا يخطيء . وبعد ذلك ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) فالإسلام لا يتملق أحدا ، ولا يزن الناس بموازين الجاهلية الأولى ، ولا أية جاهلية تقيم للناس ميزانا غير ميزانه .

( واصبر نفسك ) . . لا تمل ولا تستعجل ( مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) . . فالله غايتهم ، يتجهون إليه بالغداة والعشي ، لا يتحولون عنه ، ولا يبتغون إلا رضاه . وما يبتغونه أجل وأعلى من كل ما يبتغيه طلاب الحياة .

اصبر نفسك مع هؤلاء . صاحبهم وجالسهم وعلمهم . ففيهم الخير ، وعلى مثلهم تقوم الدعوات . فالدعوات لا تقوم على من يعتنقونها لأنها غالبة ؛ ومن يعتنقونها ليقودوا بها الأتباع ؛ ومن يعتنقونها ليحققوا بها الأطماع ، وليتجروا بها في سوق الدعوات تشتري منهم وتباع ! إنما تقوم الدعوات بهذه القلوب التي تتجه إلى الله خالصة له ، لا تبغي جاها ولا متاعا ولا انتفاعا ، إنما تبتغي وجهه وترجو رضاه .

( ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ) . . ولا يتحول اهتمامك عنهم إلى مظاهر الحياة التي يستمتع بها أصحاب الزينة . فهذه زينة الحياة( الدنيا )لا ترتفع إلى ذلك الأفق العالي الذي يتطلع إليه من يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه .

( ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا ، واتبع هواه ، وكان أمره فرطا ) . . لا تطعهم فيما يطلبون من تمييز بينهم وبين الفقراء . فلو ذكروا الله لطامنوا من كبريائهم ، وخففوا من غلوائهم ، وخفضوا من تلك الهامات المتشامخة ، واستشعروا جلال الله الذي تتساوى في ظله الرؤوس ؛ وأحسوا رابطة العقيدة التي يصبح بها الناس إخوة . ولكنهم إنما يتبعون أهواءهم . أهواء الجاهلية . ويحكمون مقاييسها في العباد . فهو وأقوالهم سفه ضائع لا يستحق إلا الإغفال جزاء ما غفلوا عن ذكر الله .

لقد جاء الإسلام ليسوي بين الرؤوس أمام الله . فلا تفاضل بينها بمال ولا نسب ولا جاه . فهذه قيم زائفة ، وقيم زائلة . إنما التفاضل بمكانها عند الله . ومكانها عند الله يوزن بقدر اتجاهها إليه وتجردها له . وما عدا هذا فهو الهوى والسفه والبطلان .

( ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا ) . . أغفلنا قلبه حين اتجه إلى ذاته ، وإلى ماله ، وإلى أبنائه ، وإلى متاعه ولذائذه وشهواته ، فلم يعد في قلبه متسع لله . والقلب الذي يشتغل بهذه الشواغل ، ويجعلها غاية حياته لا جرم يغفل عن ذكر الله ، فيزيده الله غفلة ، ويملي له فيما هو فيه ، حتى تفلت الأيام من بين يديه ، ويلقى ما أعده الله لأمثاله الذين يظلمون أنفسهم ، ويظلمون غيرهم :

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَٱصۡبِرۡ نَفۡسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥۖ وَلَا تَعۡدُ عَيۡنَاكَ عَنۡهُمۡ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَا تُطِعۡ مَنۡ أَغۡفَلۡنَا قَلۡبَهُۥ عَن ذِكۡرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمۡرُهُۥ فُرُطٗا} (28)

وقوله : { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } أي : اجلس{[18114]} مع الذين يذكرون الله ويهللونه ، ويحمدونه ويسبحونه ويكبرونه ، ويسألونه بكرة وعشيًا من عباد الله ، سواء كانوا فقراء أو أغنياء أو أقوياء أو ضعفاء . يقال : إنها نزلت في أشراف قريش ، حين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلس معهم وحده{[18115]} ولا يجالسهم{[18116]} بضعفاء أصحابه كبلال وعمار وصهيب [ وخباب ]{[18117]} وابن مسعود ، وليفرد أولئك بمجلس على حدة . فنهاه الله عن ذلك ، فقال : { وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } الآية [ الأنعام : 52 ]{[18118]} الآية ، وأمره أن يصبر نفسه في الجلوس{[18119]} مع هؤلاء ، فقال : { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ }

وقال مسلم في صحيحه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا محمد بن عبد الله الأسدي ، عن إسرائيل ، عن المقدام بن شُرَيْح ، عن أبيه ، عن سعد - هو ابن أبي وقاص - قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر ، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم : اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا ! . قال : وكنت أنا وابن مسعود ، ورجل من هذيل ، وبلال ورجلان نسيت اسميهما{[18120]} فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع ، فحدّث نفسه ، فأنزل الله عز وجل : { وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري{[18121]}

وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن أبي التَّيَّاح قال : سمعت أبا الجعد يحدّث عن أبي أمامة قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على قاص يقص ، فأمسك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قُص ، فلأن أقعد غدوة إلى أن تشرق الشمس ، أحب إليَّ من أن أعتق أربع رقاب " {[18122]}

وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا هاشم{[18123]} حدثنا شعبة ، عن عبد الملك بن مَيْسَرة قال : سمعت كُرْدُوس بن قيس - وكان قاص العامة بالكوفة - يقول : أخبرني رجل من أصحاب بدر : أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " لأن أقعد في مثل هذا المجلس أحب إلي من أن أعتق أربع رقاب " . قال شعبة : فقلت : أي مجلس ؟ قال : كان قاصا{[18124]} {[18125]}

وقال أبو داود الطيالسي في مسنده : حدثنا محمد ، حدثنا يزيد بن أبان ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لأن أجالس قومًا يذكرون الله من صلاة الغداة{[18126]} إلى طلوع الشمس ، أحَبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس ، ولأن أذكر الله من صلاة العصر إلى غروب الشمس أحبّ إلي من أن أعتق ثمانية من ولد إسماعيل دية كل واحد منهم اثنا عشر ألفًا " . فحسبنا دياتهم ونحن في مجلس أنس ، فبلغت ستة وتسعين{[18127]} ألفًا ، وهاهنا من يقول : " أربعة من ولد إسماعيل " والله ما قال إلا ثمانية ، دية كل واحد منهم اثنا{[18128]} عشر ألفًا{[18129]}

وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، حدثنا أبو أحمد الزبيري ، حدثنا عمرو بن ثابت ، عن علي بن الأقمر ، عن الأغر أبي{[18130]} مسلم - وهو الكوفي - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ برجل يقرأ سورة الكهف ، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم سكت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم " .

هكذا رواه أبو أحمد ، عن عمرو بن ثابت ، عن علي بن الأقمر ، عن الأغر مرسلا . وحدثناه يحيى بن المعلى ، عن{[18131]} منصور ، حدثنا محمد{[18132]} بن الصلت ، حدثنا عمرو بن ثابت ، عن علي بن الأقمر ، عن الأغر أبي مسلم{[18133]} عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورجل يقرأ سورة الحِجْر أو سورة الكهف ، فسكت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم " {[18134]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن بكر{[18135]} حدثنا ميمون المَرئي ، حدثنا ميمون بن سِيَاه ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله ، لا يريدون بذلك إلا وجهه ، إلا ناداهم مناد من السماء : أن قوموا مغفورًا لكم ، قد بُدِّلت سيئاتُكُم حسنات " {[18136]} تفرد به أحمد ، رحمه الله .

وقال الطبراني : حدثنا إسماعيل بن الحسن ، حدثنا أحمد بن صالح ، حدثنا ابن وهب ، عن أسامة بن زيد{[18137]} عن أبي حازم ، عن عبد الرحمن بن سهل بن حُنيف قال : نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو في بعض أبياته : { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } فخرج يلتمسهم ، فوجد قومًا يذكرون الله تعالى ، منهم ثائر الرأس ، وجافي الجلد{[18138]} وذو الثوب الواحد ، فلما رآهم جلس معهم وقال : " الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني الله أن أصبر نفسي معهم " {[18139]}

عبد الرحمن هذا ، ذكره أبو بكر بن أبي داود في الصحابة{[18140]} وأما أبوه فمن سادات الصحابة ، رضي الله عنهم .

وقوله : { وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } قال ابن عباس : ولا تجاوزهم إلى غيرهم : يعني : تطلب بدلهم أصحاب الشرف والثروة .

{ وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا } أي : شغل عن الدين وعبادة ربه بالدنيا { [ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ] وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا }{[18141]} أي : أعماله وأفعاله سفه وتفريط وضياع ، ولا تكن مطيعًا له ولا محبًا لطريقته ، ولا تغبطه بما هو فيه ، كما قال تعالى : { وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [ طه : 131 ]


[18114]:في ت: "يجلس".
[18115]:في ت، ف: "وحدهم".
[18116]:في ت: "تجالسهم".
[18117]:زيادة من ف.
[18118]:في ت: "يطرد".
[18119]:في ت: "في المجلس".
[18120]:في ت :، ف: "اسمهما".
[18121]:صحيح مسلم برقم (2413).
[18122]:المسند (5/261).
[18123]:في ت: "هشام".
[18124]:في ت: "وقاص".
[18125]:المسند (3/474) وكردوس بن قيس لم يوثقه إلا ابن حبان.
[18126]:في ت: "الغد".
[18127]:في ت: "وسبعين".
[18128]:في ت: "اثنتا".
[18129]:مسند الطيالسى برقم (2104) ويزيد بن أبان ضعيف.
[18130]:في ت: "أي".
[18131]:في ت، ف: "بن".
[18132]:في ت: "أحمد".
[18133]:في ت: "الأغر بن أبي مسلم".
[18134]:مسند البزار برقم (5232، 2326) "كشف الأستار"، وقال الهيثمي في المجمع (7/164): "وفيه عمرو بن ثابت أبو المقدام وهو متروك".
[18135]:في ف، أ: "بكير".
[18136]:المسند (3/142) وميمون المرئي ضعيف.
[18137]:في ت: "زيدى".
[18138]:في ف: "الجلود".
[18139]:ورواه ابن منده وأبو نعيم في الصحابة كما في أسد الغابة (3/353) من طريق أبي حازم به.
[18140]:وتعقبه ابن الأثير بقوله: "ولا يصح، وإنما الصحبة لأبيه ولأخيه أبي أمامة، وله رؤية".
[18141]:زيادة من ف.
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَٱصۡبِرۡ نَفۡسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥۖ وَلَا تَعۡدُ عَيۡنَاكَ عَنۡهُمۡ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَا تُطِعۡ مَنۡ أَغۡفَلۡنَا قَلۡبَهُۥ عَن ذِكۡرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمۡرُهُۥ فُرُطٗا} (28)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً } .

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وَاصْبِرْ يا محمد نَفْسَكَ مَعَ أصحابك الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ والعَشِيّ بذكرهم إياه بالتسبيح والتحميد والتهليل والدعاء والأعمال الصالحة من الصلوات المفروضة وغيرها يُرِيدُونَ بفعلهم ذلك وَجْهَهُ لا يريدون عرضا من عرض الدنيا .

وقد ذكرنا اختلاف المختلفين في قوله يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ والعَشِيّ في سورة الأنعام ، والصواب من

القول في ذلك عندنا ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع . والقرّاء على قراءة ذلك : بالغَدَاة والعَشِيّ ، وقد ذُكر عن عبد الله بن عامر وأبي عبد الرحمن السلمي أنهما كانا يقرآنه : «بالغدوة والعشيّ » ، وذلك قراءة عند أهل العلم بالعربية مكروهة ، لأن غدوة معرّفة ، ولا ألف ولا لام فيها ، وإنما يعرّف بالألف واللام ما لم يكن معرفة فأما المعارف فلا تعرّف بهما . وبعد ، فإن غدوة لا تضاف إلى شيء ، وامتناعها من الإضافة دليل واضح على امتناع الألف واللام من الدخول عليها ، لأن ما دخلته الألف واللام من الأسماء صلحت فيه الإضافة وإنما تقول العرب : أتيتك غداة الجمعة ، ولا تقول : أتيتك غدوة الجمعة ، والقراءة عندنا في ذلك ما عليه القرّاء في الأمصار لا نستجيز غيرها لإجماعها على ذلك ، وللعلة التي بيّنا من جهة العربية .

وقوله : وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ يقول جلّ ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم : ولا تصرف عيناك عن هؤلاء الذين أمرتك يا محمد أن تصبر نفسك معهم إلى غيرهم من الكفار ، ولا تجاوزهم إليه وأصله من قولهم : عدوت ذلك ، فأنا أعدوه : إذا جاوزته . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ، في قوله : وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ قال : لا تجاوزهم إلى غيرهم .

حدثني عليّ ، قال : ثني عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ يقول : لا تتعدّهم إلى غيرهم .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : واصْبِرْ نَفْسِكَ . . . الاَية ، قال : قال القوم للنبيّ صلى الله عليه وسلم : إنا نستحيي أن نجالس فلانا وفلانا وفلانا ، فجانبهم يا محمد ، وجالس أشراف العرب ، فنزل القرآن وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاة والعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ ولا تحقرهم ، قال : قد أمروني بذلك ، قال : وَلا تُطِعْ مَنْ أغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتّبَعَ هَوَاهُ وكانَ أمْرُهُ فُرُطا .

حدثنا الربيع بن سليمان ، قال : حدثنا ابن وهب ، قال : أخبرني أسامة بن زيد ، عن أبي حازم ، عن عبد الرحمن بن سهل بن حنيف ، أن هذه الاَية لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بضع أبياته وَاصْبْر نَفْسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ والعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ فخرج يلتمس ، فوجد قوما يذكرون الله ، منهم ثائر الرأس ، وجافّ الجلد ، وذو الثوب الواحد ، فلما رآهم جلس معهم ، فقال : «الحَمْدُ لِلّهِ الّذِي جَعَلَ لِي فِي أُمّتي مَنْ أمرني أنْ أَصْبِرَ نَفْسِي مَعَهُ » ورُفعت العينان بالفعل ، وهو لا تعد .

وقوله : تُرِيدُ زِينَة الحَياةَ الدّنيْا يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : لا تعدُ عيناك عن هؤلاء المؤمنين الذين يدعون ربهم إلى أشراف المشركين ، تبغي بمجالستهم الشرف والفخر وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه فيما ذكر قوم من عظماء أهل الشرك ، وقال بعضهم : بل من عظماء قبائل العرب ممن لا بصيرة لهم بالإسلام ، فرأوه جالسا مع خباب وصهيب وبلال ، فسألوه أن يقيمهم عنه إذا حضروا ، قالوا : فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عليه : وَلا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ وَالعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ثم كان يقوم إذا أراد القيام ، ويتركهم قعودا ، فأنزل الله عليه وَاصْبِرْ نَفسَكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ بالغَدَاةِ والعَشِيّ . . . الاَية وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَياةِ الدّنيْا يريد زينة الحياة الدنيا : مجالسة أولئك العظماء الأشراف ، وفد ذكرت الرواية بذلك فيما مضى قبل في سورة الأنعام .

حدثني الحسين بن عمرو العنقزي ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أسباط بن نصر ، عن السدي ، عن أبي سعيد الأزدي ، وكان قارىء الأزد عن أبي الكنود ، عن خباب في قصة ذكرها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ذكر فيها هذا الكلام مدرجا في الخبر وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَياةِ الدّنيْا قال : تجالس الأشراف .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرت أن عيينة بن حصن قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم : لقد آذاني ريح سلمان الفارسي ، فاجعل لنا مجلسا منك لا يجامعوننا فيه ، واجعل لهم مجلسا لا نجامعهم فيه ، فنزلت الاَية .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذُكر لنا أنه لما نزلت هذه الاَية قال نبيّ الله صلى الله عليه وسلم : «الحَمْدِ لِلّهِ الّذِي جَعَلَ فِي أُمّتي مَنْ أُمرْتُ أنْ أَصْبِرَ نَفْسِي مَعَهُ » .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله تُرِيدُ زِينَةَ الحَياةِ الدّنيْا قال : تريد أشراف الدنيا .

حدثنا صالح بن مسمار ، قال : حدثنا الوليد بن عبد الملك ، قال : سليمان بن عطاء ، عن مسلمة بن عبد الله الجهنيّ ، عن عمه أبي مشجعة بن ربعي ، عن سلمان الفارسي ، قال : جاءت المؤلفة قلوبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : عيينة بن حصن ، والأقرع بن حابس وذووهم ، فقالوا : يا نبيّ الله ، إنك لو جلست في صدر المسجد ، ونفيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم يعنون سلمان وأبا ذرّ وفقراء المسلمين ، وكانت عليهم جباب الصوف ، ولم يكن عليهم غيرها جلسنا إليك وحادثناك ، وأخذنا عنك فأنزل الله : وَاتْلُ ما أُوحِيَ إلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبّكَ لا مُبَدّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجدَ مِنْ دُونهِ مُلْتَحَدا ، حتى بلغ إنّا أعْتَدْنا للظّالِمِينَ نارا يتهدّدهم بالنار فقام نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يلتمسهم حتى أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله ، فقال : «الحَمْدُ لِلّهِ الّذِي لَمْ يُمتْنِي حتى أمَرَنِي أنْ أَصْبِرَ نَفْسِي مَعَ رجِالٍ مِنْ أُمّتِي ، مَعَكُمُ المَحيْا وَمَعَكُمُ المَماتُ » .

وقوله : وَلا تُطعْ مَنْ أغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتّبَعَ هَوَاهُ يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم : ولا تطع يا محمد من شغلنا قلبه من الكفار الذين سألوك طرد الرهط الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ عنك ، عن ذكرنا ، بالكفر وغلبة الشقاء عليه ، واتبع هواه ، وترك اتباع أمر الله ونهيه ، وآثر هوى نفسه على طاعة ربه ، وهم فيما ذُكر : عيينة بن حصن ، والأقرع بن حابس وذووهم .

حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، عن أبي سعيد الأزدي ، عن أبي الكنود ، عن خباب وَلا تُطِعْ مَنْ أغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا قال : عيُينة ، والأقرع .

وأما قوله : وكانَ أمْرُهُ فُرُطا فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله ، فقال بعضهم : معناه : وكان أمره ضياعا . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : وكانَ أمْرُهُ فُرُطا قال ابن عمرو في حديثه قال : ضائعا . وقال الحرث في حديثه : ضياعا .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : ضياعا .

وقال آخرون : بل معناه : وكان أمره ندما . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا بدل بن المحبر ، قال : حدثنا عباد بن راشد ، عن داود فُرُطا قال : ندامة .

وقال آخرون : بل معناه : هلاكا . ذكر من قال ذلك :

حدثني الحسين بن عمرو ، قال : حدثنا أبي ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، عن أبي سعيد الأزدي ، عن أبي الكنود ، عن خباب وكانَ أمْرُهُ فُرُطا قال : هلاكا .

وقال آخرون : بل معناه : خلافا للحق . ذكر من قال ذلك :

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : وكانَ أمْرُهُ فُرُطا قال : مخالفا للحقّ ، ذلك الفُرُط .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، قول من قال : معناه : ضياعا وهلاكا ، من قولهم : أفرط فلان في هذا الأمر إفراطا : إذا أسرف فيه وتجاوز قدره ، وكذلك قوله : وكانَ أمْرُهُ فُرُطا معناه : وكان أمر هذا الذي أغفلنا قلبه عن ذكرنا في الرياء والكبر ، واحتقار أهل الإيمان ، سرفا قد تجاوز حدّه ، فَضَيّع بذلك الحقّ وهلك . وقد :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، قال : قيل له : كيف قرأ عاصم ؟ فقال كانَ أمْرُهُ فُرُطا قال أبو كريب : قال أبو بكر : كان عُيينة بن حصن يفخر بقول أنا وأنا .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَٱصۡبِرۡ نَفۡسَكَ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ رَبَّهُم بِٱلۡغَدَوٰةِ وَٱلۡعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجۡهَهُۥۖ وَلَا تَعۡدُ عَيۡنَاكَ عَنۡهُمۡ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَا تُطِعۡ مَنۡ أَغۡفَلۡنَا قَلۡبَهُۥ عَن ذِكۡرِنَا وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ وَكَانَ أَمۡرُهُۥ فُرُطٗا} (28)

{ واصبر نفسك } واحبسها وثبتها . { مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ } في مجامع أوقاتهم ، أو في طرفي النهار . وقرأ ابن عامر " بالغدوة " وفيه أن غدوة علم في الأكثر فتكون اللام فيه على تأويل التنكير . { يريدون وجهه } رضا الله وطاعته . { ولا تعدُ عيناك عنهم } ولا يجاوزهم نظرك إلى غيرهم ، وتعديته بعن لتضمينه معنى نبأ . وقرئ " ولا تعد عينيك " { ولا تعد } من أعداه وعداه . والمراد نهي الرسول صلى الله عليه وسلم أن يزدري بفقراء المؤمنين وتعلو عينه عن رثاثة زيهم طموحا إلى طراوة زي الأغنياء . { تريد زينة الحياة الدنيا } حال من الكاف في المشهورة ومن المستكن في الفعل في غيرها . { ولا تطع من أغفلنا قلبه } من جعلنا قلبه غافلا . { عن ذكرنا } كأمية بن خلف في دعائك إلى طرد الفقراء عن مجلسك لصناديد قريش . وفيه تنبيه على أن الداعي له إلى هذا الاستدعاء غفلة قلبه عن المعقولات وانهماكه في المحسوسات ، حتى خفي عليه أن الشرف بحلية النفس لا بزينة الجسد ، وأنه لو أطاعه كان مثله في الغباوة . والمعتزلة لما غاظهم إسناد الإغفال إلى الله تعالى قالوا : إنه مثل أجبنته إذا وجدته كذلك أو نسبته إليه ، أو من أغفل إبله إذا تركها بغير سمة أي لم نسمه بذكرنا كقلوب الذين كتبنا في قلوبهم الإيمان ، واحتجوا على أن المراد ليس ظاهر ما ذكر أولا بقوله : { واتبع هواه } وجوابه ما مر غير مرة . وقرئ { أغفلنا } بإسناد الفعل إلى القلب على معنى حسبنا قلبه غافلين عن ذكرنا إياه بالمؤاخذة . { وكان أمرُه فرطا } أي تقدما على الحق نبذا له وراء ظهره يقال : فرس فرط أي متقدم للخيل ومنه الفرط .