وتعقيبا على هذا المشهد الأخير من القصة ، الذي كان من شأنه أن يستجيش في قلوب بني إسرائيل الحساسية والخشية والتقوى ؛ وتعقيبا كذلك على كل ما سلف من المشاهد و الأحداث والعبر والعظات ، تجيء هذه الخاتمة المخالفة لكل ما كان يتوقع ويرتقب :
( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك ، فهي كالحجارة أو أشد قسوة . وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار ، وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء . وإن منها لما يهبط من خشية الله . وما الله بغافل عما تعملون ) .
والحجارة التي يقيس قلوبهم إليها ، فإذا قلوبهم منها أجدب وأقسى . . هي حجارة لهم بها سابق عهد . فقد رأوا الحجر تتفجر منه اثنتا عشرة عينا ، ورأوا الجبل يندك حين تجلى عليه الله وخر موسى صعقا ! ولكن قلوبهم لا تلين ولا تندى ، ولا تنبض بخشية ولا تقوى . . قلوب قاسية جاسية مجدبة كافرة . . ومن ثم هذا التهديد :
يقول تعالى توبيخًا لبني إسرائيل ، وتقريعًا لهم على ما شاهدوه من آيات الله تعالى ، وإحيائه الموتى : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } كله { فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ } التي لا تلين أبدًا . ولهذا نهى الله المؤمنين عن مثل حالهم فقال : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نزلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } [ الحديد : 16 ] .
وقال العوفي ، في تفسيره ، عن ابن عباس : لما ضُرب المقتول ببعض البقرة جلس أحيا ما كان قط ، فقيل له : من قتلك ؟ فقال : بنو أخي قتلوني . ثم قبض . فقال بنو أخيه حين قبض : والله ما قتلناه ، فكذبوا بالحق بعد إذا رأوا{[2007]} . فقال{[2008]} الله : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } يعني : بني{[2009]} أخي الشيخ { فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } فصارت قلوب بني{[2010]} إسرائيل مع طول الأمد قاسية بعيدة عن الموعظة بعد ما شاهدوه من الآيات والمعجزات فهي في قسوتها كالحجارة التي لا علاج للينها أو أشد قسوة من الحجارة ، فإن من الحجارة ما تتفجر منها العيون الجارية بالأنهار ، ومنها ما يشقق فيخرج منه الماء ، وإن لم يكن جاريا ، ومنها ما يهبط من رأس الجبل من خشية الله ، وفيه إدراك لذلك بحسبه ، كما قال : { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا } [ الإسراء : 44 ] .
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد أنه كان يقول : كل حجر يتفجر منه الماء ، أو يتشقق عن ماء ، أو يتردى من رأس جبل ، لمن خشية الله ، نزل بذلك القرآن .
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } أي وإن من الحجارة لألين من قلوبكم عَمَّا تدعون إليه من الحق { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }
[ وقال أبو علي الجبائي في تفسيره : { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } هو سقوط البرد من السحاب .
قال القاضي الباقلاني : وهذا تأويل بعيد وتبعه في استبعاده فخر الدين الرازي وهو كما قالا ؛ فإن هذا خروج عن ظاهر اللفظ بلا دليل ، والله أعلم ]{[2011]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا الحكم بن هشام الثقفي ، حدثني يحيى بن أبي طالب - يعني يحيى بن يعقوب - في قوله تعالى : { وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ } قال : هو كثرة البكاء { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ } قال : قليل البكاء { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } قال : بكاء القلب ، من غير دموع العين .
وقد زعم بعضهم أن هذا من باب المجاز ؛ وهو إسناد الخشوع إلى الحجارة كما أسندت الإرادة إلى الجدار في قوله : { يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ } قال الرازي والقرطبي وغيرهما من الأئمة : ولا حاجة إلى هذا فإن الله تعالى يخلق فيها هذه الصفة كما في قوله تعالى : { إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا } الآية ، وقال : { وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } و { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ } الآية ، { قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } { لَوْ أَنزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ } الآية ، { وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ } الآية ، وفي الصحيح : " هذا جبل يحبنا ونحبه " ، وكحنين الجذع المتواتر خبره ، وفي صحيح مسلم : " إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن " وفي صفة الحجر الأسود أنه يشهد لمن استلمه بحق يوم القيامة ، وغير ذلك مما في معناه . وحكى القرطبي قولا أنها للتخيير ؛ أي مثلا لهذا وهذا وهذا مثل جالس الحسن أو ابن سيرين . . وكذا حكاه الرازي في تفسيره وزاد قولا آخر : إنها للإبهام بالنسبة إلى المخاطب كقول القائل أكلت خبزًا أو تمرًا ، وهو يعلم أيهما أكل ، وقال آخر : إنها بمعنى قول القائل كل حلوًا أو حامضًا ؛ أي لا يخرج عن واحد منهما ؛ أي وقلوبكم صارت كالحجارة أو أشد قسوة منها لا تخرج عن واحد من هذين الشيئين . والله أعلم .
اختلف علماء العربية في معنى قوله تعالى : { فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } بعد الإجماع على استحالة كونها للشك ، فقال بعضهم : " أو " هاهنا بمعنى الواو ، تقديره : فهي كالحجارة وأشد قسوة كقوله تعالى : { وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا } [ الإنسان : 24 ] ، وكما قال النابغة الذبياني :
قالت ألا ليتما هذا الحمامُ لنا *** إلى حَمامتنا أو نِصفُه فَقدِ{[2012]}
تريد : ونصفه ، قاله ابن جرير . وقال جرير بن عطية :
نال الخِلافَةَ أو كانت له قدرًا *** كما أتى ربَّه مُوسى على قَدَرِ{[2013]}
قال ابن جرير : يعني نال الخلافة ، وكانت له قدرًا .
وحكى القرطبي قولا أنها للتخيير في مفهومها بهذا أو بهذا مثل جالس الحسن أو ابن سيرين ، وكذا حكاه فخر الدين في تفسيره وزاد قولا آخر وهو : أنها للإبهام وبالنسبة إلى المخاطب ، كقول القائل : أكلت خبزًا أو تمرا وهو يعلم أيهما أكل ، وقولا آخر وهو أنها بمعنى قول القائل : أكلي حلو أو حامض ، أي : لا يخرج عن واحد منهما ، أي : وقلوبكم صارت في قسوتها كالحجارة أو أشد قسوة منها لا يخرج عن واحد من هذين الشيئين والله أعلم .
وقال آخرون : " أو " هاهنا بمعنى بل ، تقديره{[2014]} فهي كالحجارة بل أشد قسوة ، وكقوله : { إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } [ النساء : 77 ] { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [ الصافات : 147 ] { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } [ النجم : 9 ] وقال آخرون : معنى{[2015]} ذلك { فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } عندكم . حكاه ابن جرير .
وقال آخرون : المراد بذلك الإبهام على المخاطب ، كما قال أبو الأسود :
أحبّ محمدًا حُبا شديدًا *** وعبَّاسا وحمزةَ والوصيا{[2016]}
فإن يك حُبّهم رشدا أصبه *** ولست{[2017]} بمخطئ إن كان غيّا{[2018]}
قال ابن جرير : قالوا : ولا شك أن أبا الأسود لم يكن شاكًّا في أن حُبّ من سَمَّى رَشَدٌ ، ولكنه أبهم على من خاطبه ، قال : وقد ذكر عن أبي الأسود أنه لما قال هذه الأبيات قيل له : شككت ؟ فقال : كلا والله . ثم انتزع بقول الله تعالى : { وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } فقال : أوَ كان شاكًّا من أخبر بهذا في الهادي منهم من الضلال{[2019]} ؟
وقال بعضهم : معنى ذلك : فقلوبكم لا تخرج عن أحد هذين المثلين ، إما أن تكون مثل الحجارة في القسوة وإما أن تكون أشد منها قسوة .
قال ابن جرير : ومعنى ذلك على هذا التأويل : فبعضها كالحجارة قسوة ، وبعضها أشد قسوة من الحجارة . وقد رجحه ابن جرير مع توجيه غيره .
قلت : وهذا القول الأخير يبقى شبيها بقوله تعالى : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا } [ البقرة : 17 ] مع قوله : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ } [ البقرة : 19 ] وكقوله : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ } [ النور : 39 ] مع قوله : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ } [ النور : 40 ] ، الآية أي : إن منهم من هو هكذا ، ومنهم من هو هكذا ، والله أعلم .
قال الحافظ أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن أيوب ، حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي الثلج ، حدثنا علي بن حفص ، حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن حاطب ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله ، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة القلب ، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي " .
رواه الترمذي في كتاب الزهد من جامعه ، عن محمد بن عبد الله بن أبي الثلج ، صاحب الإمام أحمد ، به . ومن وجه آخر عن إبراهيم بن عبد الله بن الحارث بن حاطب ، به ، وقال : غريب لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم{[2020]} .
[ وروى البزار عن أنس مرفوعا : " أربع من الشقاء : جمود العين ، وقسي القلب ، وطول الأمل ، والحرص على الدنيا " {[2021]} ]{[2022]} .