ولما بين زهادة أعراض الحياة الدنيا وهوانها على الله ؛ وأن ما يعطاه الفجار منها لا يدل على كرامة لهم عند الله ، ولا يشير إلى فلاح ؛ وأن الآخرة عند ربك للمتقين ، استطرد يبين مصير أولئك الذين قد ينالون تلك الأعراض ، وهم عمي عن ذكر الله ، منصرفون عن الطاعات التي تؤهلهم لرزق الآخرة المعد للمتقين :
( ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيّض له شيطاناً فهو له قرين . وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون . حتى إذا جاءنا قال : يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين . فبئس القرين . ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون ) . .
والعشى كلال البصر عن الرؤية ، وغالباً ما يكون عند مواجهة الضوء الساطع الذي لا تملك العين أن تحدق فيه ؛ أو عند دخول الظلام وكلال العين الضعيفة عن التبين خلاله . وقد يكون ذلك لمرض خاص . والمقصود هنا هو العماية والإعراض عن تذكر الرحمن واستشعار وجوده ورقابته في الضمير .
( ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيّض له شيطاناً فهو له قرين ) . .
وقد قضت مشيئة الله في خلقة الإنسان ذلك . واقتضت أنه حين يغفل قلبه عن ذكر الله يجد الشيطان طريقه إليه ، فيلزمه ، ويصبح له قرين سوء يوسوس له ، ويزين له السوء . وهذا الشرط وجوابه هنا في الآية يعبران عن هذه المشيئة الكلية الثابتة ، التي تتحقق معها النتيجة بمجرد تحقق السبب ، كما قضاه الله في علمه .
{ ومن يعش عن ذكر الرحمان } من يتعام ويعرض عن ذكر الله فلا ينظر في حججه إلا كنظر من عشا بصره ؛ فلا يخاف سطوته ولا يخشى عقابه ، متبعا أقاويل المبطلين . { نقيض له شيطانا } أي تتح له شيطانا يستولي عليه استيلاء القيض على البيض فيغويه . يقال : عشا – كدعا – عشي –
كرضي – إذا ضعف بصره وأظلمت عينه ، كأن عليه غشاوة ؛ ومنه ناقة : عشواء . وقرئ " يعش " بفتح الشين بمعناه .
ومن يعشُ عن ذكر الرحمن : ومن يعرض عنه ، يقال عشا يعشو عشوا : ساء بصره ، وعشا إلى النار : رآها ليلا فقصدها . وعشى وعشاوة : أصيب بصره بضعف . ذكر الرحمن : القرآن .
القرين : الرفيق الذي لا يفارق .
بعد أن بين الله أن المال متاعُ الدنيا عَرَضٌ زائل ، وأن نعيم الآخرة هو النعيم الدائم ، ذكر هنا أن الذي يهتم بالدنيا ومتاعها ويُعرِض عن القرآن وما جاء به يهيئ له شيطاناً لا يفارقه ،
{ 36-39 } { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ * وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ }
يخبر تعالى عن عقوبته البليغة ، لمن أعرض عن ذكره ، فقال : { وَمَنْ يَعْشُ } أي : يعرض ويصد { عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ } الذي هو القرآن العظيم ، الذي هو أعظم رحمة رحم بها الرحمن عباده ، فمن قبلها ، فقد قبل خير المواهب ، وفاز بأعظم المطالب والرغائب ، ومن أعرض عنها وردها ، فقد خاب وخسر خسارة لا يسعد بعدها أبدا ، وقيَّض له الرحمن شيطانا مريدا ، يقارنه ويصاحبه ، ويعده ويمنيه ، ويؤزه إلى المعاصي أزا ،
{ ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا } يعش من قولك : عشى الرجل إذا أظلم بصره ، والمراد به هنا : ظلمة القلب والبصيرة ، وقال الزمخشري : يعشى بفتح الشين إذا حصلت الآفة في عينيه ، ويعشو بضم الشين إذا نظر نظرة الأعشى وليس به آفة ، فالفرق بينهما كالفرق بين قولك عمى وتعامى ، فمعنى القراءة بالضم يتجاهل ويجحد مع معرفته بالحق ، والظاهر أن ذلك عبارة عن الغفلة وإهمال النظر ، وذكر الرحمن ، وقال الزمخشري يريد به القرآن ، وقال ابن عطية : يريد به ما ذكر الله به عباده من المواعظ ، فالمصدر مضاف إلى الفاعل ، ويحتمل عندي أن يريد ذكر العبد لله ، ومعنى الآية : أن من غفل عن ذكر الله يسر الله له شيطانا يكون له قرينا ، فتلك عقوبة على الغفلة عن الذكر بتسليط الشيطان كما أن من داوم على الذكر تباعد عنه الشيطان .
ولما كان التقدير : ولكنا لم نجعل ذلك علماً منا بأن الناس كادوا يكونون أمة واحدة وإن كنا نقيض من جبلناه على الخير على الإيمان لكن ينقصه ما أوتي في الدنيا من خطر في الآخرة لأن من وسع عليه في دنياه اشتغل في الأغلب عن ذكر الله فنفرت منه الملائكة ولزمته الشياطين ، فساقه ذلك إلى كل سوء ، ومن يتق الله فيديم ذكره يؤيده بملك فهو له معين ، عطف عليه قوله معبراً عن غفلة البصيرة بالعشا الذي هو ضعف البصر تصوراً لمن ينسى ذكر الله بأقبح صورة تنفيراً عن ذلك { ومن يعش } أي يفعل فعل المعاشي ، وهو من شاء بصره بالليل والنهار أو عمي على قراءة شاذة وردت عن يعقوب بفتح الشين وركب الأمور متجاوزاً { عن ذكر الرحمن } الذي عمت رحمته ، فلا رحمة على أحد إلا وهي منه كما فعل هؤلاء حين متعناهم وآباءهم حيث أبطرهم ذلك ، وهو شيء يسير جداً ، فأعرضوا عن الآيات والدلائل فلم ينظروا فيها إلا نظراً ضعيفاً كنظر من عشي بصره { نقيض } أي نقرر ونسلط ونقدر عقاباً { له } على إعراضه عن ذكر الله { شيطاناً } أي شخصاً نارياً بعيداً من الرحمة يكون غالباً محيطاً به مضيقاً عليه مثل قيض البيضة وهو القشر الداخل { فهو له قرين } مشدود به كما يشد الأسير ، ملازم فلا يمكنه التخلص منه ما دام متعامياً عن ذكر الله ، فهو يزين له العمى ويخيل إليه أنه على عين الهدى ، كما أن من يستبصر بذكر الرحمن يسخر له ملك فهو له ولي يبشره بكل خير ، فذكر الله حصن حصين من الشيطان ، متى خرج العبد منه أسره العدو كما ورد في الحديث ، قال في القاموس : العشى مقصور : سوء البصر بالليل والنهار أو العمى ، عشى كرضى ودعا ، والعشوة بالضم والكسر : ركوب الأمر على غير بيان ، قال ابن جرير : وأصل العشو النظر بغير ثبت لعلة في العين ، وقال الرازي في اللوامع : وأصل اللغة أن العين والشين والحرف المعتل يدل على ظلام وقلة وضوح في الشيء .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.