سورة القلم مكية وآياتها ثنتان وخمسون
لا يمكن تحديد التاريخ الذي نزلت فيه هذه السورة سواء مطلعها أو جملتها . كما أنه لا يمكن الجزم بأن مطلعها قد نزل أولا ، وأن سائرها نزل أخيرا - ولا حتى ترجيح هذا الاحتمال . لأن مطلع السورة وختامها يتحدثان عن أمر واحد ، وهو تطاول الذين كفروا على شخص رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وقولهم : إنه مجنون !
والروايات التي تقول : إن هذه السورة هي الثانية في النزول بعد سورة العلق كثيرة ، ومن المتفق عليه في ترتيب المصاحف المختلفة أنها هي السورة الثانية ؛ ولكن سياق السورة وموضوعها وأسلوبها يجعلنا نرجح غير هذا . حتى ليكاد يتعين أنها نزلت بعد فترة من الدعوة العامة ، التي جاءت بعد نحو ثلاث سنوات من الدعوة الفردية ، في الوقت الذي أخذت فيه قريش تدفع هذه الدعوة وتحاربها ، فتقول عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] تلك القولة الفاجرة ؛ وأخذ القرآن يردها وينفيها ، ويهدد المناهضين للدعوة ، ذلك التهديد الوارد في السورة .
واحتمال أن مطلع السورة نزل مبكرا وحده بعد مطلع سورة العلق . وأن الجنون المنفي فيه : ( ما أنت بنعمة ربك بمجنون ) . . جاء بمناسبة ما كان يتخوفه النبي [ صلى الله عليه وسلم ] على نفسه في أول الوحي ، من أن يكون ذلك جنونا أصابه . . هذا الاحتمال ضعيف . لأن هذا التخوف ذاته على هذا النحو ليست فيه رواية محققة ، ولأن سياق السورة المتماسك يدل على أن هذا النفي ينصب على ما جاء في آخرها من قوله تعالى : ( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون : إنه لمجنون ) . . فهذا هو الأمر الذي افتتح السورة بنفيه ، كما يتبادر إلى الذهن عند قراءة السورة المتماسكة الحلقات .
كذلك ذكرت بعض الروايات أن في السورة آيات مدنية من الآية السابعة عشرة إلى نهاية الآية الثالثة والثلاثين . وهي الآيات التي ذكرت قصة أصحاب الجنة وابتلاءهم ، والآيات من الثانية والأربعين إلى نهاية الخمسين وهي التي تشير إلى قصة صاحب الحوت . . ونحن نستبعد هذا كذلك . ونعتقد أن السورة كلها مكية . لأن طابع هذه الآيات عميق في مكيته . وهو أنسب شيء لأن يجيء في سياق السورة عند نزولها متسقا مع الموضوع ومع الحالة التي تعالجها .
والذي نرجحه بشأن السورة كلها أنها ليست الثانية في ترتيب النزول ؛ وأنها نزلت بعد فترة من البعثة النبوية بعد أمر النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بالدعوة العامة . وبعد قول الله تعالى له : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) . وبعد نزول طائفة من القرآن فيها شيء من قصص الأولين وأخبارهم ، التي قال عنها قائلهم : ( أساطير الأولين ) . . وبعدما أصبحت قريش مدعوة إلى الإسلام كافة ، وأصبحت تدفع هذه الدعوة بالاتهامات الباطلة والحرب العنيفة التي اقتضت تلك الحملة العنيفة الواردة في السورة على المكذبين ، والتهديد القاصم في أولها وفي آخرها على السواء . . والمشهد الأخير في السورة يوحي بهذا كذلك : ( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون : إنه لمجنون ) . . فهو مشهد دعوة عامة لمجموعات كبيرة . ولم يكن الأمر كذلك في أول الدعوة . إنما كانت الدعوة توجه إلى أفراد . بوسيلة فردية . ولا تلقى إلى الذين كفروا وهم متجمعون . ولم يقع شيء من هذا - كما تقول الروايات الراجحة - إلا بعد ثلاث سنوات من بدء الدعوة .
والسورة تشير إلى شيء من عروض المشركين على النبي [ صلى الله عليه وسلم ] للالتقاء في منتصف الطريق ، والتهادن على تراض في القضية التي يختلفون عليها وهي قضية العقيدة : ( ودوا لو تدهن فيدهنون ) . . وظاهر أن مثل هذه المحاولة لا تكون والدعوة فردية ، ولا خطر منها . إنما تكون بعد ظهورها ، وشعور المشركين بخطرها .
وهكذا تتضافر الشواهد على أن هذه السورة نزلت متأخرة عن أيام الدعوة الأولى . وأن هناك ثلاث سنوات على الأقل - قابلة للزيادة - بين بدء الدعوة وبين وقت نزولها . ولا يعقل أن ثلاث سنوات مرت لم يتنزل فيها قرآن . والطبيعي أن تكون هناك سور كثيرة ، وأجزاء من سور قد نزلت في هذه الفترة ، تتحدث عن ذات العقيدة بدون مهاجمة عنيفة للمكذبين بها كالوارد في هذه السورة منذ مطلعها .
ولكن هذا لا ينفي أن تكون هذه السورة وسورتا المدثر والمزمل قد نزلت في الفترة الأولى من الدعوة . وإن لم يكن ذلك أول ما نزل كما هو وارد في المصاحف ، للأسباب التي أوردناها هنا . وهي تكاد تنطبق كذلك على سورتي المزمل والمدثر .
لقد كانت هذه الغرسة - غرسة العقيدة الإسلامية - تودع في الأرض لأول مرة في صورتها الرفيعة المجردة الناصعة . وكانت غريبة على حس الجاهلية السائدة ، لا في الجزيرة العربية وحدها بل كذلك في أنحاء الأرض جميعا .
وكانت النقلة عظيمة بين الصورة الباهتة المحرفة المشوهة من ملة إبراهيم التي يستمسك بخيوط حائلة منها مشركو قريش ، ويلصقون بها الترهات والأساطير والأباطيل السائدة عندهم ، وبين الصورة الباهرة العظيمة المستقيمة الواضحة البسيطة الشاملة المحيطة التي جاءهم بها محمد [ صلى الله عليه وسلم ] متفقة في أصولها مع الحنيفية الأولى - دين إبراهيم عليه السلام - وبالغة نهاية الكمال الذي يناسب كونها الرسالة الأخيرة للأرض ، الباقية لتخاطب الرشد العقلي في البشرية إلى آخر الزمان .
وكانت النقلة عظيمة بين الشرك بالله وتعدد الأرباب ، وعبادة الملائكة وتماثيلها ، والتعبد للجن وأرواحها ، وسائر هذه التصورات المضطربة المفككة التي تتألف منها العقيدة الجاهلية . . وبين الصورة الباهرة التي يرسمها القرآن للذات الإلهية الواحدة وعظمتها وقدرتها ، وتعلق إرادتها بكل مخلوق .
كذلك كانت النقلة عظيمة بين الطبقية السائدة في الجزيرة ، والكهانة السائدة في ديانتها ، واختصاص طبقات بالذات بالسيادة والشرف وسدانة الكعبة والقيام بينها وبين العرب الآخرين . . وبين البساطة والمساواة أمام الله والاتصال المباشربينه وبين عباده كما جاء بها القرآن .
ومثلها كانت النقلة بين الأخلاق السائدة في الجاهلية والأخلاق التي جاء القرآن يبشر بها ، وجاء محمد [ صلى الله عليه وسلم ] يدعو إليها ويمثلها .
وكانت هذه النقلة وحدها كافية للتصادم بين العقيدة الجديدة وبين قريش ومعتقداتها وأخلاقها . ولكن هذه لم تكن وحدها . فقد كان إلى جانبها اعتبارات - ربما كانت أضخم في تقدير قريش من العقيدة ذاتها - على ضخامتها .
كانت هناك الاعتبارات الاجتماعية التي دعت بعضهم أن يقول كما حكى عنهم القرآن الكريم : ( لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ! ) . . والقريتان هما مكة والطائف . فإن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] مع شرف نسبه ، وأنه في الذؤابة من قريش ، لم تكن له مشيخة فيهم ولا رياسة قبل البعثة . بينما كان هناك مشيخة قريش ومشيخة ثقيف وغيرهما ، في بيئة تجعل للمشيخة والرياسة القبلية كل الاعتبار ، فلم يكن من السهل الانقياد خلف محمد [ صلى الله عليه وسلم ] من هؤلاء المشيخة !
وكانت هناك الاعتبارات العائلية التي تجعل رجلا كأبي جهل " عمرو بن هشام " يأبى أن يسلم بالحق الذي يواجهه بقوة في الرسالة الإسلامية ، لأن نبيها من بني عبد مناف . . وذلك كما ورد في قصته مع الأخنس بن شريق وأبي سفيان بن حرب ، حين خرجوا ثلاث ليال يستمعون القرآن خفية ، وهم في كل ليلة يتواعدون على عدم العودة خيفة أن يراهم الناس فيقع في نفوسهم شيء . فلما سأل الأخنس بن شريق أبا جهل رأيه فيما سمع من محمد كان جوابه : " ماذا سمعت ? تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف : أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا . حتى إذا تجاثينا على الركب ، وكنا كفرسي رهان ، قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء . فمتى ندرك مثل هذه ? والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه ! " .
وكانت هناك اعتبارات أخرى نفعية وطبقية ونفسية من ركام الجاهلية في المشاعر والتصورات والأوضاع كلها تحاول قتل تلك الغرسة الجديدة في مغرسها بكل وسيلة قبل أن تثبت جذورها وتتعمق ، وقبل أن تمتد فروعها وتتشابك . وبخاصة بعد أن تجاوزت دور الدعوة الفردية ؛ وأمر الله تعالى نبيه [ صلى الله عليه وسلم ] أن يجهر بالدعوة ؛ وأخذت معالم الدعوة الجديدة تبرز ، كما أخذ القرآن يتنزل بتسفيه عقيدة الشرك وما وراءها من الآلهة المدعاة والتصورات المنحرفة والتقاليد الباطلة .
والرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ولو أنه نبي ، ولو أنه يتلقى من ربه الوحي ، ولو أنه يتصل بالملأ الأعلى . . هو بشر ، تخالجه مشاعر البشر . وكان يتلقى هذه المقاومة العنيفة ، وتلك الحرب التي شنها عليه المشركون ، ويعاني وقعها العنيف الأليم ، هو والحفنة القليلة التي آمنت به على كره من المشركين .
وكان [ صلى الله عليه وسلم ] يسمع والمؤمنون به يسمعون ، ما كان يتقوله عليه المشركون ، ويتطاولون به على شخصه الكريم ، ( ويقولون : إنه لمجنون ) . . ولم تكن هذه إلا واحدة من السخريات الكثيرة ، التي حكاها القرآن في السور الأخرى ؛ والتي كانت توجه إلى شخصه [ صلى الله عليه وسلم ] وإلى الذين آمنوا معه . وغير الأذى الذي كان يصيب الكثيرين منهم على أيدي أقربائهم الأقربين !
والسخرية والاستهزاء - مع الضعف والقلة - مؤذيان أشد الإيذاء للنفس البشرية ، ولو كانت هي نفس رسول .
ومن ثم نرى في السور المكية - كسور هذا الجزء - أن الله كأنما يحتضن - سبحانه - رسوله والحفنة المؤمنة معه ، ويواسيه ويسري عنه ، ويثني عليه وعلى المؤمنين . ويبرز العنصر الأخلاقي الذي يتمثل في هذه الدعوة وفي نبيها الكريم . وينفي ما يقوله المتقولون عنه ، ويطمئن قلوب المستضعفين بأنه هو يتولى عنهم حرب أعدائهم ، ويعفيهم من التفكير في أمر هؤلاء الأعداء الأقوياء الأغنياء !
ونجد من هذا في سورة القلم مثل قوله تعالى عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] :
( ن . والقلم وما يسطرون . ما أنت بنعمة ربك بمجنون . وإن لك لأجرا غير ممنون . وإنك لعلى خلق عظيم ) . .
إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم . أفنجعل المسلمين كالمجرمين ? مالكم ? كيف تحكمون ? ! . .
ويقول عن أحد أعداء النبي البارزين :
( ولا تطع كل حلاف مهين . هماز مشاء بنميم . مناع للخير معتد أثيم . عتل بعد ذلك زنيم . أن كان ذا مال وبنين . إذا تتلى عليه آياتنا قال : أساطير الأولين . سنسمه على الخرطوم ! ) . .
ثم يقول عن حرب المكذبين عامة :
( فذرني ومن يكذب بهذا الحديث . سنستدرجهم من حيث لا يعلمون . وأملي لهم إن كيدي متين ) . .
وذلك غير عذاب الآخرة المذل للمتكبرين :
يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون . خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة . وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون . .
ويضرب لهم أصحاب الجنة - جنة الدنيا - مثلا على عاقبة البطر تهديدا لكبراء قريش المعتزين بأموالهم وأولادهم ممن لهم مال وبنون ؛ الكائدون للدعوة بسبب مالهم من مال وبنين .
وفي نهاية السورة يوصي النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بالصبر الجميل : ( فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت . . ) .
ومن خلال هذه المواساة وهذا الثناء وهذا التثبيت ، مع الحملة القاصمة على المكذبين والتهديد الرهيب ، يتولى الله - سبحانه - بذاته حربهم في ذلك الأسلوب العنيف . . من خلال هذا كله نتبين ملامح تلك الفترة ، فترة الضعف والقلة ، وفترة المعاناة والشدة ، وفترة المحاولة القاسية لغرس تلك الغرسة الكريمة في تلك التربة العنيدة !
كذلك نلمح من خلال أسلوب السورة وتعبيرها وموضوعاتها ملامح البيئة التي كانت الدعوة الإسلامية تواجهها . وهي ملامح فيها سذاجة وبدائية في التصور والتفكير والمشاعر والاهتمامات والمشكلات على السواء .
نلمح هذه السذاجة في طريقة محاربتهم للدعوة بقولهم للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] ( إنه لمجنون ) !
وهو اتهام لا حبكة فيه ولا براعة ، وأسلوب من لايجد إلا الشتمة الغليظة يقولها بلا تمهيد ولا برهان ، كما يفعل السذج البدائيون .
ونلمحها في الطريقة التي يرد الله بها عليهم فريتهم ردا يناسب حالهم : ( ما أنت بنعمة ربك بمجنون . وإن لك لأجرا غير ممنون . وإنك لعلى خلق عظيم . فستبصر ويبصرون . بأيكم المفتون ) . . وكذلك في التهديد المكشوف العنيف : ( فذرني ومن يكذب بهذا الحديث . سنستدرجهم من حيث لا يعلمون . وأملي لهم إن كيدي متين ) . .
ونلمحها في رد هذا السب على رجل منهم : ( ولا تطع كل حلاف مهين . هماز مشاء بنميم . مناع للخير معتد أثيم . عتل بعد ذلك زنيم . . . ) .
ونلمحها في القصة - قصة أصحاب الجنة - التي ضربها الله لهم . وهي قصة قوم سذج في تفكيرهم وتصورهم وبطرهم ، وفي حركاتهم كذلك وأقوالهم ( وهم يتخافتون . ألا يدخلنها اليوم عليكم مسكين . . الخ ) .
وأخيرا نلمح سذاجتهم من خلال ما يوجهه إليهم من الجدل : ( أم لكم كتاب فيه تدرسون : إن لكم فيه لما تخيرون ? أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون ? سلهم أيهم بذلك زعيم ? ) . . .
وهي ملامح تظهر بوضوح من خلال التعبير القرآني ، وتفيد في دراسة السيرة ووقائعها وخطوات الدعوة فيها ؛ ومدى ما ارتفع القرآن بعد ذلك بهذه البيئة وبتلك الجماعة في أواخر عهد الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ومدى ما نقلها من هذه السذاجة في التفكير والتصور والشعور والاهتمام . كما يتضح في أساليب الخطاب فيما بعد ، وفي الحقائق والمشاعر والتصورات والاهتمامات بعد عشرين عاما لا تزيد . وهي في حياة الأمم ومضة لا تذكر . ولا تقاس إليها تلك النقلة الواسعة الشاملة . . التي انتقلتها الجماعة في هذا الوقت القصير . والتي تسلمت بها قيادة البشرية فارتفعت بتصوراتها وأخلاقها إلى القمة التي لم ترتفع إليها قيادة قط في تاريخ البشرية ، لا من ناحية طبيعة العقيدة ، ولا من ناحية آثارها الواقعية في حياة الإنسان في الأرض ، ولا من ناحية السعة والشمول لتضم الإنسانية كلها بين جوانحها في سماحة وعطف ، وفي تلبية لكل حاجاتها الشعورية ، وحاجاتها الفكرية ، وحاجاتها الاجتماعية ، وحاجاتها التنظيمية في شتى الميادين . .
إنها المعجزة تتجلى في النقلة من هذه السذاجة التي تبدو ملامحها من خلال مثل هذه السورة إلى ذلك العمق والشمول . وهي نقلة أوسع وأكبر من تحول القلة إلى كثرة ، والضعف إلى قوة ، لأن بناء النفوس والعقول أعسر من بناء الأعداد والصفوف .
( ن ، والقلم وما يسطرون . ما أنت بنعمة ربك بمجنون . وإن لك لأجرا غير ممنون . وإنك لعلى خلق عظيم . فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون . إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله ، وهو أعلم بالمهتدين . فلا تطع المكذبين . ودوا لو تدهن فيدهنون . ولا تطع كل حلاف مهين . هماز مشاء بنميم . مناع للخير معتد أثيم . عتل بعد ذلك زنيم . أن كان ذا مال وبنين . إذا تتلى عليه آياتنا قال : أساطير الأولين . سنسمه على الخرطوم ) . .
يقسم الله - سبحانه - بنون ، وبالقلم ، وبالكتابة . والعلاقة واضحة بين الحرف " نون " . بوصفه أحد حروف الأبجدية وبين القلم ، والكتابة . . فأما القسم بها فهو تعظيم لقيمتها ، وتوجيه إليها ، في وسط الأمة التي لم تكن تتجه إلى التعلم عن هذا الطريق ، وكانت الكتابة فيها متخلفة ونادرة ، في الوقت الذي كان دورها المقدر لها فيعلم الله يتطلب نمو هذه المقدرة فيها ، وانتشارها بينها ، لتقوم بنقل هذه العقيدة وما يقوم عليها من مناهج الحياة إلى أرجاء الأرض . ثم لتنهض بقيادة البشرية قيادة رشيدة . وما من شك أن الكتابة عنصر أساسي في النهوض بهذه المهمة الكبرى .
ومما يؤكد هذا المفهوم أن يبدأ الوحي بقوله تعالى : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . اقرأ وربك الأكرم . الذي علم بالقلم . علم الإنسان ما لم يعلم ) . . وأن يكون هذا الخطاب موجها للنبي الأمي - الذي قدر الله أن يكون أميا لحكمة معينة - ولكنه بدأ الوحي إليها منوها بالقراءة والتعليم بالقلم . ثم أكد هذه اللفتة هنا بالقسم بنون ، والقلم وما يسطرون . وكان هذا حلقة من المنهج الإلهي لتربية هذه الأمة وإعدادها للقيام بالدور الكوني الضخم الذي قدره لها في علمه المكنون .
يقسم الله - سبحانه - بنون والقلم وما يسطرون ، منوها بقيمة الكتابة معظما لشأنها كما أسلفنا لينفي عن رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] تلك الفرية التي رماه بها المشركون ، مستبعدا لها ، ونعمته على رسوله ترفضها .
سورة القلم مكية وآياتها ثنتان وخمسون ، نزلت بعد سورة العلق . ويستبعد المرحوم سيد قطب أنها نزلت بعد سورة اقرأ ، فيقول : " والذي نرجّحه بشأن هذه السورة أنها ليست الثانية في ترتيب النزول ، وأنها نزلت بعد فترة من البعثة النبوية ، بعد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة العامة ، وبعد قوله تعالى : { وأنذر عشيرتك الأقربين } 214 الشعراء . وبعد نزول طائفة من القرآن فيها شيء من قصص الأولين وأخبارهم . . . " ويقدّر أنها نزلت بعد ثلاث سنوات من الدعوة .
والسورة تُعنى بالدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعث همته ، وتقوية عزيمته ، ليبقى متمسكا بالحق من غير ملاينة فيه لأحد ، بعد أن تُثبت له الأجر العظيم ، والخُلق العظيم وتثبته بقوله تعالى : { فستبصر ويبصرون ، بأيكم المفتون } . . . .
ثم قوّت عزيمته حول موقف المجرمين من دعوته ، وما أعد لهم من العذاب { فلا تطع المكذبين ، ودّوا لو تدهن فيدهنون ، ولا تطع كل حلاّف مهين . . . } .
ثم ضربت مثلا لكفار مكة في جحودهم وكفرانهم نعمة الله العظمى ، ببعثه الرسول العظيم إليهم ، رحمة وتشريفا لهم لأنه منهم ، وشبهت ما وقع لأهل مكة من العذاب ، بما وقع لأصحاب الجنة البخلاء ، الذين حذر بعضهم بعضا بقولهم : { أن لا يدخلنّها اليوم عليكم مسكين } ، وساروا إليها في أول النهار ، وهم على هذه النية السيئة ، فلما وصلوا إليها وإذا بها محترقة خاوية على عروشها ، فلما رأوها كذلك { قالوا إنا لضالون } .
ثم بشرت المؤمنين بما لهم عند ربهم من جنات ونعيم ، { أفنجعل المسلمين كالمجرمين ، ما لكم كيف تحكمون } . ثم أنكرت على المكذبين ما يدعونه لأنفسهم بغير حق ، وعمدت إلى تخويفهم بوصف حالهم في الآخرة ، وتهديدهم ، ثم إلى النصح لرسول الله بالصبر والاحتمال { فاصبر لحكم ربك . . . } ثم ختمت السورة بتمجيد القرآن الكريم ، وأن دعوته صلى الله عليه وسلم للعالمين أجمعين .
ن : حرف من حروف المعجم التي بُدئت بها بعض السور ، وقد تقدّم الكلام عليها .
أقسَم اللهُ تعالى بالقلم وما يُسطَر من الكتب ، وفي هذا تعظيمٌ للقلم والكتابة والعِلم الذي جاء به الإسلام وحثّ عليه من أول آية نزلت { اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ . . . . } [ العلق : 1 ] .
يقسم الله تعالى بنون والقلم وما يسطرون ، منوّهاً بقيمة الكتابة معظّماً لشأنها .
سورة ن{[1]} وتسمى سورة القلم
مقصودها إظهار ما استتر ، وبيان ما أبهم في آية " فستعلمون من هو في ضلال مبين " بتعيين المهتدي{[2]} الذي برهن على هدايته حيازته العلم الذي هو النور الأعظم ، الذي لا يضل بمصاحبته بتقبل القرآن والتخلق بالفرقان ، الذي هو صفة الرحمن بقدر{[3]} الإمكان الذي تصل إليه قوة الإنسان ، وأدل ما فيها على هذا الغرض " ن " وكذا و " القلم " فلذا سميت بكل منهما ، وبالكلام على كل منهما يعرف ذلك{[4]} ، وحاصله أن النون {[5]}مبين محيط{[6]} في بيانه كما يحيط ضوء الشمس بما يظهره ، وكما تحيط الدواة بمدادها ، بآية ما دل عليه {[7]} بمخرجه وصفاته{[8]} ، واستقر الكلام الواقع فيها{[9]} وفي المعاني التي اشتركت في لفظه ، وأما{[10]} القلم فإبانته للمعارف{[11]} أمر لا ينكر ( بسم الله ) الذي له الإحاطة الكاملة ، فهو على كل شيء قدير ، لأنه بكل شيء عليم ( الرحمن ) الذي عمت نعمة إيجاده لأهل معاده البريء منهم والسقيم ، ( الرحيم ) الذي/أتم تلك النعمة على من وفقه لطاعته ، فألزمه الصراط المستقيم .
لما أبهم الضال والمهتدي في آخر " الملك " والمسيء والمحسن في العمل أولها ، وختم بآية الماء المعين الذي دلت حروفه بمجموعها على تمام معناه ، ودل كل واحد منها على شيء منه ، فدلت ميمه على تمام شيء ظاهر ، وعينه على آية هادية ، وياؤه على قائم ملطف متنزل مع كل مقام ، ونونه على مظهر مبين محيط بما أظهره ، وردهم سبحانه إليه بعد شرادهم{[67195]} عنه بالاستفهام في هذه الآية بما نبههم عليه من عجزهم وعجز كل من يدعونه من دونه ، وأنه لا يقدر على الإتيان بذلك الماء الذي هو حياة الأشباح بعد ذهابه إلا من تمت قدرته ، فكان قادراً على كل ما يريد ، وكان لا يقدر على كل{[67196]} ما يريده إلا من كمل علمه الذي يحيي به ميت{[67197]} الأرواح ، دل على شمول قدرته بكمال علمه بما أفاده على هذا النبي الكريم الأمي من العلوم التي زخرت بحارها ، فأحيا مدرارها ، وأغرق تيارها ، فافتتح هذه السورة بكلمة البيان ، وهو اسم الحرف الذي هو آخر حروف تلك ، ومن لوازم بعض ما دل عليه الماء الذي هو الحياة المصححة ، ونبه على {[67198]}نصبه له{[67199]} سبحانه دليلاً على العلم{[67200]} بما دل عليه من مخرج مسماه وصفاته ومواقعه في الكلم في جميع تقلباته فقال : { ن } هذه الكلمة حرف من حروف المعجم وهي{[67201]} اسم لمسمى به ظهور الأشياء وعلمها وإدراكها ، كما دل عليه موقعه في اسم النور والنار والنيل والنمو والنباهة والنقاء والنصح والنبأ والنجابة والنجاة والنحت والندم ، وقد تقدم في البقرة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال : لكل كتاب سر وسر القرآن هذه الحروف ، ولا يعلم ما هي إلا واضعها سبحانه .
ولما كان هذا الحرف مشتركاً في اللغة بين حرف المعجم والدواة والحوت وشفرة السيف ، سكن للدلالة بادىء بدء على أنه حرف ، ولا يمنع إسكانه المتأصل في البناء من إرادة بقية المعاني ، لأن العرب ربما سكنت الكلمة بنية الوقف تنبيهاً على عظمة معناها ، فلا يلزم من الإسكان عن غير عامل البناء ، وقيل : النون اللوح ، والنونة الكلمة من الصواب ، والسمكة ، فهو صالح لحرف المعجم الكلي الصالح لكل{[67202]} فرد ، وعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه آخر حروف الرحمن{[67203]} والدواة لما يتأثر عنها من العلوم ، والحوت الذي على ظهره الكون واسمه البهموت ، لما في ذلك من عجائب القدر والأسرار ، ويكون الإقسام {[67204]}وقع بالنون{[67205]}سفلا والقلم علواً للإحاطة ، والسيف لما يتأثر عنه{[67206]} من جليل الآثار ، وكيفما كان المراد فهو الإحاطة ، وهو سر باطن لا يظهر ، وإنما تظهر نتائجه ، فهو{[67207]} الحكم ونتائجه القضاء والقدر بالإشقاء أو{[67208]} الإسعاد .
ولما كان هذا الحرف آية الكشف للأشياء ، كان مخرجه أمكن المخارج وأيسرها وأخفها وأوسعها{[67209]} وهو رأس المقول ، فإنه يخرج مما{[67210]} بين طرف اللسان وفويق الثنايا{[67211]} من اللثة ، وهو أخرج من مخرج اللام ومن مخرج الراء أيضاً ، وتسمى هذه الحروف الثلاثة{[67212]} الزلقية مع بقية حروف " فر من لب " لأن طرف كل شيء زلقة ، والنون أمكنها في هذا المخرج وأشدها انطباقاً فيما بين اللسان واللثة ، وهو مما كرر مسماه في اسمه فانتهى إلى حيث ابتدأ ، واختص بكون عماده وقوامه الحرف الأقوى الأظهر ذا الرفعة والعلو وهو الواو والزلقية التي هو أحدها ضد المصمتة{[67213]} وهي أخف الحروف على اللسان وأكثرها امتزاجاً بغيرها ، وأما المصمتة فمنعت{[67214]} أن تنفرد بنفسها في لغة العرب في كلمة هي أكثر من ثلاثة أحرف ، بل لا بد أن يكون معها بعض الزلقية ، والألف خارجة {[67215]}عن الصنفين{[67216]} لأنها مجرد إهواء لا مستقر لها ، فقد ناسبت بمخرجها لسعته وخفته ، ووصفها بالزلاقة التي تقع لما اتصف بها من الحروف الكمال{[67217]} غنية عن سواها ولا يقع لما لم يخالطها كمال فيما ذكر ما{[67218]} ذكر من أن معناها البيان والإظهار ومن صفاتها الجهر وبين الشدة والرخاوة والانفتاح والاستفال ، والغنة الخارجة من الخيشوم إذا سكن ، وكل هذا واضح في العلم الذي له الاتساع والانتشار والتغلغل في الأشياء الباطنة ، ويشاركه الميم في الغنة كما أنه يشاركه في أن له حظاً من الظهور والنون وهو الأصل في الغنة كما أنه{[67219]} الأصل في الظهور لما له من العلو بالعماد ، وهو أيضاً من حروف الذبذبة والزيادة التي لا تستقر على حال ، فتقع مرة زوائد وأخرى أصولاً ، كما أن العلم أيضاً كذلك لا استقرار له بل مهما وسعته اتسع ، ومهما تركته اضمحل وانجمع ، وهو من حروف الإبدال التي تبدل من غيرها ولا يكون غيرها بدلاً منها ، فلازب ولازم الميم بدل من الباء ، بخلاف العكس ، كما أن العلم أصل يتبعه غيره ولا يكون هو تابعاً لغيره ، وهي{[67220]} من الحروف الصحيحة وليست معتلة ، والعلم جدير بهذا الوصف ، وهو إذا كان مخفي{[67221]} من الحروف المشربة ويقال لها المخالطة - بكسر اللام وفتحها ، وهي التي اتسعت فيها العرب فزادتها على التسعة والعشرين المستعملة وهي{[67222]} من الحروف الصم وهي ما عدا الحلقية ، {[67223]}سميت بذلك لتمكنها في خروجها{[67224]} من الفم واستحكامها فيه ، يقال للمحكم المصمت و{[67225]}العلم أشد ما يكون مناسبة لهذا الوصف ، فقد انطبقت بمخرجها وجميع صفاتها على العلم الذي هو مقصود السورة فتبين حقاً أنه مقصودها ، وأما رتبة القلم في بيان{[67226]} العلم وإظهاره وكشف خفاياه وأسراره وبثه وإشهاره ، فهي بحيث لا يجهلها أحد اتصف بالعقل ، ومما يختص به هذا الحرف أنه يصحب كل حرف ، لأن حده هو ما يعبر عنه التنوين الذي انتظامه بالحركات ، هو ما آيته العلم المكمل {[67227]}به الحياة{[67228]} التي هي آية ما يعبر عنه هذه الحركات ، فلما كانت هذه الحركات آية على ما هو الحياة ، كان التنوين عقبها آية على ما به كمال الحياة من العلم ، وهو سبب لما به القيام من{[67229]} الظهور ، ومن معناه اسمه تعالى النور ، ثم {[67230]}هو اسم لكل ما يظهر ما{[67231]} خفي باطناً كالعلم في الإدراك الذي تظهر حقائق الأشياء به ، وظاهراً كالنيرين للعيون ، وسائر الأنوار الظاهرة والباطنة ، وما هو وسيلة الظهور كالعيون مما به تشاهد الأشياء ويظهر به{[67232]} صورها ، والدواة التي منها مداد ما كتب بالقلم في العوالم أعلاها وأدناها ، وكل آلة يتوصل بها إلى إظهار صورة تكون تماماً كماء المزن ، الذي هو مداد كل شيء كوّن الله به الكائنات والبادئات " وجعلنا من الماء كل شيء حي " ومنه معنى النجم النباتي الذي هو للشجر بمنزلة الفول للبشر متلبساً{[67233]} بالنور - بالفتح - الذي فيه حظ من النور - بالضم - والذرء الذي هو ظاهر في نفسه مظهر لطرق الاهتداء ، وكذلك الأمر في النار المخلصة من رتبة ظلمتها التي هي غايتها بالرماد ، وابتداؤها بما يخرج منه من شجر وحديد وحجر .
ولما كان هذا الحرف اسماً لما به ظهور أمر لم يختص بشيء من المظهرات دون آخر ، بل شمل النور والحاسة والمراد والمادة ، ولذلك كان مع الكاف الذي هو علم التكوين سبب ظهور كل شيء .
{ إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون }[ النحل : 40 ] ولصدقه على كل{[67234]} مظهر فسره ابن عباس رضي الله عنهما بالدواة ، ففسر بما يستمد منه القلم ، وليلحظ موقعه في نجد ، فإنه اسم لما ارتفع من الأرض ، وظهر في نفسه وأظهر غيره ، وفي نهود الجارية وهو ظهور نهدها ، {[67235]}وفي{[67236]} النهب وهو ما أخذ أخذاً ظاهراً كما قال صلى الله عليه وسلم{[67237]} " ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم " وفي النفخ والنفع والنصر والنقر والنقب وما أشبهها ، فإنها كلها ظهور وإظهار كالنم والمن والنمء . ولأجل علوه واستبطانه وأنه استغراق المظهر المبين كانت إقامته {[67238]}يتعالى{[67239]} الألف وهو الواو وانتهاؤه إلى مثل ما بدأ به ، ولكون الميم تماماً كان قوامه بمتنزل كالألف التي هي الياء{[67240]} في قولك ميم ، ولرجوع الواو إلى علو الألف كان عمادها الألف في قولك " واو " وهذه الحروف الثلاثة ظاهرة في عالمين ظاهرهما المبدوء به{[67241]} وباطنهما المختوم به ، فالنون الأولى يعبر بها عن نور الأبصار ، والخاتمة يعبر بها عن نور القلب ، ولما كان الهاء وتر الدال ، وكان محيطاً باطناً غيباً ، وجب أن يكون محل تضعيفه بالياء محل محيط باطن{[67242]} نازل الرتبة في الغيب عن الهاء لوقوعه في رتب العشرات وهو النون ، فكان ظاهراً بالإضافة {[67243]}إلى خفاء الهاء باطناً بالإضافة{[67244]} إلى ظهور الميم ، فيكون بالنون ظهور الميم المعبر عن " الملك " الذي سبق في السورة الماضية ، كما كان{[67245]} شهادة الدال وثبوته بالهاء .
ولذلك انبنى تمام كل عمل على نور علم ، كما كان قوام ظاهر كل دال غير هاء ، وكان النون مداداً{[67246]} لمثل العلم الذي يظهر صورها بسطر القلم ، حتى أن آية ما بطن منه فأظهره القلم ، هو ما بطن دون الأرض من النون الذي عليه الأرض ، الذي أول ما يطعمه أهل الجنة زيادة كبده مع الثور الذي عليه الأرض أيضاً{[67247]} الذي يذبح لهم - على ما ورد في الخبر ، وقابل استبطان النون في الأرض ظهور القاف على ظاهرها ، الذي هو جبل الزبرجد المحيط بالدنيا ، وعن ذلك الاستيلاء على القلوب في الدنيا إنما يكون بالعلم الذي هو حقيقة نون ، كما أن الاستيلاء على الأجسام في ظاهر الدنيا إنما يكون بالقدرة التي هي حقيقة قاف ، على ما يظهر من إجالتي العلماء في النون الأبطن ، والملوك في القاف الأظهر ، وهذان الصنفان{[67248]} من الخلق هما المستوليان على الناس بالأيالة ونفوذ الأمر ، ولذلك أقيم المفصل من القرآن بحرفي قاف ونون ، واقترن أيضاً هذان{[67249]} الحرفان في كلمة القرآن ولفظ الفرقان اللذين هما في ظواهر أسمائه ، وإنما كان أول ما يطعمه أهل الجنة من الثور الذي عليه الدنيا الذي كان{[67250]} يرعى في أطراف الجنة - على ما ورد عنه عليه أفضل الصلاة والسلام ، لأن صورة الثور هي معنى ما هو الكد والكدح{[67251]} وجهد{[67252]} العمل في الأرض الذي قام عليه أمر الدنيا ، ولما كان أهل الدنيا أول ما يراحون منه من أمر الدنيا تقديم أمر الكد بين يدي معاشهم في الجنة ، كان الذي يذبح{[67253]} لهم الثور الذي هو صورة كدهم فيأكلونه ، فهو جزاء ما عملوا به في دنياهم من حيث كانوا ذوي دين ، فاستحقوا بذلك جزاء كدهم بما هو صورته ، وأضيف لذلك زيادة{[67254]} كبد النون التي{[67255]} هي صورة حظهم من أصل العلم ، فأطعموها وجوزوا بها ، وروعي في أعمالهم حسن نيتهم في أصل دينهم ، فلما أتوا عليهما استقبلوا الراحة والخروج عن الكلفة في معاشهم في الجنة ، والذي جرهم به سبحانه إلى سني هذه الرتبة ما أتقنه بحكمته من ثناء المفصل القرآني على حرفي القاف الذي به {[67256]}القوة والقهر{[67257]} والقدرة ، والنون الذي به إظهار ذلك للعقل بنور العلم ، و{[67258]}ذلك أن القرآن نزله سبحانه مثاني ، ضمّن ما عدا المفصل منه الذي هو{[67259]} من قاف إلى خاتمة الكتاب العزيز ، وفاتحته ما يختص بأولي العلم والفقه من مبسوطات الحكم ومحكمات الأحكام ومطولات الأقاصيص ومتشابه الآيات ، والسور المفتتحة بالحروف العلية{[67260]} الإحاطة الغيبية المنحى المستندة إلى آحاد الأعداد ، مما يختص بعلم ظاهرها خاصة الأمة ، ويختص بأمر باطنها آل محمد صلى الله عليه وسلم ، فلعلو رتبة إيراد ما عدا المفصل ثنى {[67261]}الحق تعالى{[67262]} الخطاب وانتظمه في سور{[67263]} كثيرة العدد يسيرة عد الآي هي المفصل ، ذكر فيها من أطراف القصص والمواعظ والأحكام والأنباء وأمر الجزاء ، ما يليق بسماع العامة ليسهل عليهم سماعه ، وليأخذوا بحظ مما أخذ الخاصة ، ويتكرر على أسماعهم في قراءة الأئمة له في الصلوات المفروضة{[67264]} التي لا مندوحة لهم عنها ما يكون لهم خلقاً مما يفوتهم من مضمون سائر السور المطولات ، فكان أحق ما افتتح به مفصلهم حرف القاف الذي هو وتر الآحاد حتى صارت عشرة ، ثم إذا ضربت{[67265]} في نفسها صارت مائة ، فافتتح به المفصل ، ليكون مضمون ما يحتوي عليه أظهر مما يحتوي عليه ما افتتح ب الم ، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقرأ في خطبة يوم الجمعة سورة " ق " {[67266]} فيفتتح للعامة المتوجه بخطبة يوم الجمعة إليهم ، لأنها صلاة جامعة الظاهر بفاتحة المفصل الخاص ، وفي مضمونها من معنى القدرة والقهر المحتاج إليه في إقامة أمر العامة ما فيه كفاية ، وشفعت بسورة " ن " {[67267]} المظهرة ظاهر " ق " فخصوا بما فيه القهر والإبانة ، واختصت سورة " ن " من مقتضى العلم بما هو محيط بأمر العامة المنتهي إلى غاية الذكر الشامل للعالمين ، لأن القوة المعربة عن العلم ، ربما كان ضررها أكثر من نفعها ، كما قال بعض السلف : كل عز لم يوطده علم فإلى ذل يؤول ، وكما كان جميع السور{[67268]} التسع والعشرين المفتتحة بالحروف المتضمنة للمراتب التسع في التسعة وللعاشر الجامع للمراتب التسع بإيتار{[67269]} آحادها ، والعاشر الجامع يضرب العشر الموتر في نفسه قواماً وإحاطة في جميع القرآن ، كذلك كانت سورة " ق " وسورة " ن " قواماً خاصاً وإحاطة{[67270]} خاصة بما يخص العامة من القرآن الذي يجمعهم الأرض بما أحاط من ظاهرها من صورة جبل " ق " وما أحاط بباطنها من صورة حيوان " ن " الذين تمام أمرهم بما بين مددي إقامتهما{[67271]} ، وبهذه السورة المفتتحة بالحروف{[67272]} ظهر اختصاص القرآن وتميز عن سائر الكتب لتضمنه الإحاطة التي لا تكون إلا {[67273]}للخاتم الجامع{[67274]} ، واقترن من التفصيل في سورها ما يليق بإحاطتها ، ولإحاطة معانيها وإبهامها كان كل ما فسرت به من معنى يرجع إلى مقتضاها صحيحاً في إحاطتها بمتنزلها{[67275]} من أسماء الله وترتبها في{[67276]} جميع العوالم ، فلا يخطىء فيها مفسر لذلك ، لأنه كلما قصد وجهاً من التفسير لم يخرج عن إحاطة ما يقتضيه ، ومهما فسرت به من{[67277]} أسماء الله أو من أسماء الملائكة أو من أسماء الأنبياء ، أو من مثل{[67278]} الأشياء أو صور الموجودات ، أو من أنها أقسام أقسم بها أو فواتح عرفت بها{[67279]} السور أو{[67280]} أعداد تدل على حوادث وحظوظ من ظاهر الأمر أو{[67281]} باطنه على اختلاف رتب وأحوال ، مما أعطيه المنزل عليه صلى الله عليه وسلم من مقدار أمد الخلافة والملك والسلطنة ، وما ينتهي إليه أمره من ظهور الهداية ونحو ذلك مما يحيط بأمد يومه إلى غير ذلك وكل داخل في إحاطتها ، ولذلك أيضاً لا يختص بمحل مخصوص يلزمه علامة إعراب مخصوصة ، فمهما قدر{[67282]} في مواقعها من هذه السور{[67283]} جراً أو رفعاً أو نصباً فداخل في إحاطة رتبتها ولم يلزمها{[67284]} معنى خاص لما لم يكن لها انتظام ، لأنها{[67285]} مستقلات محيطات ، وإنما ينتظم {[67286]}ما يتم معنى{[67287]} كل واحد من المنتظمين بحصول الانتظام ، وذلك يختص من الكلم بما يقصر{[67288]} عن إحاطة مضمون الحروف حتى أنه متى{[67289]} وقع استقلال وإحاطة في كلمة لم يقع فيها انتظام{[67290]} .
ولما كان قوام هذا الوجود بالسيف والقلم ، وكان " نون " {[67291]} مشتركاً بين معان منها السيف والدواة التي هي آلة القلم ، واللوح الذي هو محل ما يثبت {[67292]}من العلم{[67293]} ، وكان السيف قد تقدم في حيز القاف الذي افتتحت به سورة " ق " كما هو أنسب لتضمنه{[67294]} القوة والقدرة والقهر{[67295]} في سورة الحديد بعد الوعظ والتهديد والتذكير بالنعم في السورة الواقعة بينهما ، ذكر هنا ما هو لحيز النون من آية العلم فقال مقسماً بعد حرف " ن " {[67296]} : { والقلم } أي قلم القدرة الذي هو أول ما أبدعه الله ، ثم قال له : اكتب ، فخط جميع الكائنات{[67297]} إلى يوم القيامة في اللوح المحفوظ حقيقة ، وفي ألواح صفحات الكائنات حالاً ومجازاً ، فأظهر جميع العلوم ، ثم ختم على فيه فلم ينطق ولا ينطق إلى يوم القيامة ، والذي يكتب فيه{[67298]} الخلق ما نولهم الله من تلك المعارف والفهوم ، وذلك هو قوام أمور الدنيا ، والإشارة به إلى القضاء الذي هو من نتائج " ن " لأنه من مصنوعات{[67299]} الله الظاهرة التي اقتضت{[67300]} حكمته سبحانه إيجادها ووجهه إلى تفصيل ما جرى به الحكم .
ولما كان الحاصل بالقلم من بث الأخبار ونشر العلوم على تشعبها والأسرار ما يفوق الحصر ، فصار{[67301]} كأنه العالم المطيق واللسن المنطيق ، وكان المراد به الجنس أسند إليه كما يسند إلى{[67302]} العقلاء فقال : { وما يسطرون * } أي قلم القدرة ، وجمعه وأجراه مجرى أولي العلم للتعظيم لأنه فعل أفعالهم ، أو الأقلام على إرادة الجنس ، ويجوز أن يكون{[67303]} الإسناد إلى الكاتبين به لما دل عليهم من ذكره ، إما الملائكة إن كان المراد ما كتب في الكتاب المبين واللوح المحفوظ وغيره مما يكتبونه ، وإما كل من يكتب منهم ومن غيرهم حتى أصحاب الصحيفة الظالمة التي تقاسموا فيها على أن يقاطعوا بني هاشم ومن{[67304]} لافهم ، حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعون به ما شاؤوا ، وكيف ما كان فهو إشارة إلى المقدر {[67305]}لأنه إنما{[67306]} يسطر ما قضى به وحكم .
هذه السورة مكية وآياتها ثنتان وخمسون . وهي مبدوءة بالقسم من الله ، إذ يقسم بالقلم وبما يكتبه الكاتبون ، على صدق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأمانته وأنه غير مجنون ، كما يهذي السفهاء والجهلاء من المشركين الضالين . بل إنه في غاية الحسن والكمال من الخلق البشري المفضال بشهادة الله الخالق { وإنك لعلى خلق عظيم } .
وفي السورة تحذير من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من الاغترار بالمشركين المكذبين ، ومن مداهنتهم وكيدهم وإضلالهم . وفيها تخويف من أهوال القيامة وما يقع فيها من أحداث مخوفة جسام . ويتجلى ذلك في قوله سبحانه : { يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون } لا جرم أن الساعة رعيبة مخوفة ، وفيها من البلايا والنوازل والفظائع ما يزلزل القلوب والأبدان .
وفي السورة بيان بحقيقة العين الحاسدة ، التي تزلق المصابين المحسودين ، لنبين عند ذلك أن سبيل التحرز من حسد الحاسدين ، قراءة القرآن ، ثم الضراعة إلى الله بالدعاء .
إلى غير ذلك من المعاني والمواعظ التي تفيض بها هذه السورة في آياتها العجاب ، وعباراتها المثيرة الحسان ، وألفاظها الربانية العليا .
{ ن والقلم وما يسطرون 1 ما أنت بنعمة ربك بمجنون 2 وإن لك لأجرا غير ممنون 3 وإنك لعلى خلق عظيم 4 فستبصر ويبصرون 5 بأييّكم المفتون 6 إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين } .
{ ن } حرف من حروف التهجي كغيره من فواتح السور وقد سميت به السورة ، وما ينبغي أن نذهب بعيدا في تأويل هذا الحرف ، كي لا نوغل أو نتيه في الشطحات من الإسرائيليات . فالله أعلم بما يريده من مثل هذه الحروف .
قوله : { والقلم وما يسطرون } أقسم الله بالقلم لما فيه من البيان وما يناط به من التبيين . وهو في ذلك كاللسان ينطق بالمعاني فتعيها الآذان وتدركها الأذهان . وفي القسم من الله بالقلم ما يدل على الأهمية البالغة للقلم الذي تخطّ به العلوم والمعارف وكل الدروس والأخبار والحكم . والمراد به كل قلم مما يكتب به الكاتبون سواء في الأرض أو السماء { وما يسطرون } ما ، اسم موصول . أي والذي يسطرون . والضمير عائد إلى أصحاب القلم الذين يكتبون به . والمعنى : وما يكتبه الكاتبون من الناس أو الملائكة الحفظة .