ويستطرد السياق يوجه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إلى إنذار القوم بذلك اليوم ، في مشهد من مشاهد القيامة يتفرد فيه الله بالحكم والقضاء ؛ بعدما عرضه عليهم في صورة حكاية لم يوجه لهم فيها الخطاب :
( وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ، ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع . يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور . والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء إن الله هو السميع البصير ) . .
والآزفة . . القريبة والعاجلة . . وهي القيامة . واللفظ يصورها كأنها مقتربة زاحفة . والأنفاس من ثم مكروبة لاهثة ، وكأنما القلوب المكروبة تضغط على الحناجر ؛ وهم كاظمون لأنفاسهم ولآلامهم ولمخاوفهم ، والكظم يكربهم ، ويثقل على صدورهم ؛ وهم لا يجدون حميماً يعطف عليهم ولا شفيعاً ذا كلمة تطاع في هذا الموقف العصيب المكروب !
قوله تعالى : " وأنذرهم يوم الآزفة " أي يوم القيامة . سميت بذلك لأنها قريبة ؛ إذ كل ما هو آت قريب . وأزف فلان أي قرب يأزف أزفا ، قال النابغة :
أزِفَ التَّرَحُّل غيرَ أن رِكَابَنَا *** لمَّا تَزَلْ برِحَالِنَا وكأنْ قَدِ
أي قرب . ونظير هذه الآية : " أزفت الآزفة " {[13365]} [ النجم : 57 ] أي قربت الساعة . وكان بعضهم يتمثل ويقول :
أزِفَ الرَّحيلُ وليس لي من زادِ *** غير الذنوب لِشِقْوَتِي ونَكَادِي
" إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين " على الحال وهو محمول على المعنى . قال الزجاج : المعنى إذ قلوب الناس " لدى الحناجر " في حال كظمهم . وأجاز الفراء أن يكون التقدير " وأنذرهم " كاظمين . وأجاز رفع " كاظمين " على أنه خبر للقلوب . وقال : المعنى إذ هم كاظمون . وقال الكسائي : يجوز رفع " كاظمين " على الابتداء . وقد قيل : إن المراد ب " يوم الآزفة " يوم حضور المنية . قاله قطرب . وكذا " إذ القلوب لدى الحناجر " عند حضور المنية . والأول أظهر . وقال قتادة : وقعت في الحناجر المخافة فهي لا تخرج ولا تعود في أمكنتها ، وهذا لا يكون إلا يوم القيامة كما قال : " وأفئدتهم هواء " . وقيل : هذا إخبار عن نهاية الجزع ، كما قال : " وبلغت القلوب الحناجر " وأضيف اليوم إلى " الآزفة " على تقدير يوم القيامة " الآزفة " أو يوم المجادلة " الآزفة " . وعند الكوفيين هو من باب إضافة الشيء إلى نفسه مثل مسجد الجامع وصلاة الأولى . " ما للظالمين من حميم " أي من قريب ينفع " ولا شفيع يطاع " فيشفع فيهم .
ولما تم هذا على هذا الوجه المهول ، وكان يوم القيامة له أسماء تدل على أهواله باعتبار مواقفه وأحواله ، منها يوم البعث وهو ظاهر ، ومنها يوم التلاق لما تقدم ، ومنها يوم التغابن لغبن أكثر من فيه خسارته ، ومنها يوم الآزفة لقربه وسرعة أخذه ، وكان كأنه قيل خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم : وأمن ممن ألقينا إليك هذا الروح الأعظم من أمرنا فأنذرهم ما مضى من يوم التلاقي وما عقبناه به ، عطف عليه قوله زيادة في بيان هوله إعلاماً بأنه مع ثبوته وثبوت التلاقي فيه قريب تحذيراً من تزيين إبليس للشهوات وتقريره بالتسويف بالتوبة : { وأنذرهم } أي هؤلاء المعرضين إعراض من لا يجوز الممكن { يوم الآزفة } أي الحالة الدائبة العاجلة السريعة جداً مع الضيق في الوقت وسوء العيش لأكثر الناس ، وهي القيامة ، كرر ذكرها وذكر الإنذار منها تصريحاً وتلويحاً تهويلاً لها وتعظيماً لشأنها .
ولما ذكر اليوم ، هول أمره بما يحصل فيه من المشاق فقال : { إذ القلوب } أي من كل من حضره . ولما كان هذا الرعب على وجه غريب باطن ، عبر ب " لدى " فقال : { لدى الحناجر } أي حناجر المجموعين فيه إلا من شاء الله ، وهي جمع حنجور وهي الحلقوم وزناً ومعنى ، يعني أنها زالت عن أمكانها صاعدة من كثرة الرعب حتى كادت تخرج وصارت مواضعها من الأفئدة هواء ، وكانت الأفئدة معترضة كالشجا لا هي ترجع إلى مقارها فيستريحوا ولا تخرج فيموتوا .
ولما كان الحديث - وإن كان في الظاهر عن القلوب - إنما هو عن أصحابها ، جمع على طريقة جمع العقلاء ، وزاده حسناً أن القلوب محل الكظم ، وبها صلاح الجملة وفسادها ، وقد أسند إليها ما يسند للعقلاء فقال : { كاظمين } أي ممتلئين خوفاً ورعباً وحزناً ، ساكتين مكروبين ، قد انسدت مجاري أنفاسهم وأخذ بجميع إحساسهم . ولما كان من المعلوم أن ذلك الكرب إنما هو للخوف من ديان ذلك اليوم ، وكان من المعهود أن الصداقات تنفع في مثل ذلك اليوم والشفاعات ، قال مستأنفاً : { ما للظالمين } أي العريقين في الظلم منهم { من حميم } أي قريب صادق في مودتهم مهتم بأمورهم مزيل لكروبهم ، قال ابن برجان : والحميم : الماء الحار الناهي في الحرارة ، سمي القريب به لأنه يحمي لقريبه غضباً ، والغضب حرارة تعرض في القلب تخرج إلى الوجه فيحمر وتنتفخ الأوداج فيستشيط غيظاً { ولا شفيع يطاع * } أي ليس لهم شفيع أصلاً لأن الشفيع يعلم أنه لو شفع ما أطيع فهو لا ينفع ، وقد يشفع في بعضهم بعض المقربين لعلامة فيهم يحصل بها اشتباه يظن بهم أنهم ممن يستحق الشفاعة فينبه على أنهم ليسوا بذلك ، فيبرأ منهم .
{ وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع }
( وأنذرهم يوم الآزفة ) يوم القيامة من أزف الرحيل : قرب ( إذا القلوب ) ترتفع خوفاً ( لدى ) عند ( الحناجر كاظمين ) ممتلئين غماً حال من القلوب عوملت بالجمع بالياء والنون معاملة أصحابها ( ما للظالمين من حميم ) محب ( ولا شفيع يطاع ) لا مفهوم للوصف إذ لا شفيع لهم أصلاً " فما لنا من شافعين " أوله مفهوم بناء على زعمهم أن لهم شفعاء ، أي لو شفعوا فرضاً لم يقبلوا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.