فأما النموذج الآخر فهو نموذج الانحراف والفسوق والضلال :
( والذي قال لوالديه : أف لكما ! أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي ? ) . .
فالوالدان مؤمنان . والولد العاق يجحد برهما أول ما يجحد ؛ فيخاطبهما بالتأفف الجارح الخشن الوقح : أف لكما ! . . ثم يجحد الآخرة بالحجة الواهية : أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي ? . . أي ذهبوا ولم يعد منهم أحد . . والساعة مقدرة إلى أجلها . والبعث جملة بعد انتهاء أجل الحياة الدنيا . ولم يقل أحد إنه تجزئة . يبعث جيل مضى في عهد جيل ياتي . فليست لعبة وليست عبثا . إنما هو الحساب الختامي للرحلة كلها بعد انتهائها !
والوالدان يريان الجحود ويسمعان الكفر ، ويفزعان مما يقوله الولد العاق لربه ولهما ؛ ويرتعش حسهما لهذا التهجم والتطاول ؛ ويهتفان به : ( وهما يستغيثان الله . ويلك آمن . إن وعد الله حق ) . . ويبدو في حكاية قولهما الفزع من هول ما يسمعان . بينما هو يصر على كفره ، ويلج في جحوده : ( فيقول : ما هذا إلا أساطير الأولين ) . .
قوله تعالى : " والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن اخرج " أي أن أبعث . " وقد خلت القرون من قبلي " قراءة نافع وحفص وغيرهما " أف " مكسور منون . وقرأ ابن كثير وابن محيصن وابن عامر والمفضل عن عاصم " أف " بالفتح من غير تنوين . الباقون بالكسر غير منون ، وكلها لغات ، وقد مضى في " بني إسرائيل " {[13842]} . وقراءة العامة " أتعدانني " بنونين مخففتين . وفتح ياءه أهل المدينة ومكة . وأسكن الباقون . وقرأ أبو حيوة والمغيرة وهشام " أتعداني " بنون واحدة مشددة ، وكذلك هي في مصاحف أهل الشام . والعامة على ضم الألف وفتح الراء من " أن أخرج " . وقرأ الحسن ونصر وأبو العالية والأعمش وأبو معمر بفتح الألف وضم الراء . قال ابن عباس والسدي وأبو العالية ومجاهد : نزلت في عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما ، وكان يدعوه أبواه إلى الإسلام فيجيبهما بما أخبر الله عز وجل .
وقال قتادة والسدي أيضا : هو عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه ، وكان أبوه وأمه أم رومان يدعوانه إلى الإسلام ويعدانه بالبعث ، فيرد عليهما بما حكاه الله عز وجل عنه ، وكان هذا منه قبل إسلامه . وروي أن عائشة رضي الله عنها أنكرت أن تكون نزلت في عبد الرحمن . وقال الحسن وقتادة أيضا : هي نعت عبد كافر عاق لوالديه . وقال الزجاج : كيف يقال نزلت في عبد الرحمن قبل إسلامه والله عز وجل يقول : " أولئك الذين حق عليهم القول في أمم " أي العذاب ، ومن ضرورته عدم الإيمان ، وعبد الرحمن من أفاضل المؤمنين ، فالصحيح أنها نزلت في عبد كافر عاق لوالديه . وقال محمد بن زياد : كتب معاوية إلى مروان بن الحكم حتى يبايع الناس ليزيد ، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر : لقد جئتم بها هرقلية{[13843]} ، أتبايعون لأبنائكم فقال مروان : هو الذي يقول الله فيه : " والذي قال لوالديه أف لكما " الآية . فقال : والله ما هو به . ولو شئت لسميت ، ولكن الله لعن أباك وأنت في صلبه ، فأنت فضض{[13844]} من لعنة الله . قال المهدوي : ومن جعل الآية في عبد الرحمن كان قوله بعد ذلك " أولئك الذين حق عليهم القول " يراد به من اعتقد ما تقدم ذكره ، فأول الآية خاص وآخرها عام . وقيل إن عبد الرحمن لما قال : " وقد خلت القرون من قبلي " قال مع ذلك : فأين عبد الله بن جدعان ، وأين عثمان بن عمرو ، وأين عامر بن كعب ومشايخ قريش حتى أسألهم عما يقولون . فقول : " أولئك الذين حق عليهم القول " يرجع إلى أولئك الأقوام .
قلت : قد مضى من خبر عبد الرحمن بن أبي بكر في سورة ( الأنعام ) عند قوله : " له أصحاب يدعونه إلى الهدى " {[13845]} [ الأنعام : 71 ] ما يدل على نزول هذه الآية فيه ، إذ كان كافرا وعند إسلامه وفضله تعين أنه ليس المراد بقوله : " أولئك الذين حق عليهم القول " . " وهما " يعني والديه . " يستغيثان الله " أي يدعوان الله له بالهداية . أو يستغيثان بالله من كفره ، فلما حذف الجار وصل الفعل فنصب . وقيل : الاستغاثة الدعاء ، فلا حاجة إلى الباء . قال الفراء : أجاب الله دعاءه وغواثه . " ويلك آمن " أي صدق بالبعث . " إن وعد الله حق " أي صدق لا خلف فيه . " فيقول ما هذا " أي ما يقوله والداه . " إلا أساطير الأولين " أي أحاديثهم وما سطروه مما لا أصل له .
{ والذي قال لوالديه أف لكما } قال مروان بن الحكم : نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق حين كفره كان أبوه وأمه يدعوانه إلى الإسلام فيأبى ويقول لهما أف ، وأنكرت عائشة رضي الله عنها ذلك ، وقالت : والله ما نزل في آل أبي بكر شيء من القرآن إلا براءتي ، ويبطل ذلك قطعا قوله تعالى : { أولئك الذين حق عليهم القول } لأن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق أسلم وكان من خيار المسلمين ، وكان له في الجهاد غنى عظيم ، وقال السدي : ما رأيت أعبد منه ، وقال ابن عباس : نزلت في ابن لأبي بكر ولم يسمه ، ويرد ذلك ما ذكرناه عن عائشة وقيل : هي على الإطلاق فيمن كان على هذه الصفة من الكفر والعقوق لوالديه ، ويدل على أنها عامة قوله تعالى : { أولئك الذين حق عليهم القول } بصيغة الجمع ، ولو أراد واحدا بعينه لقال ذلك الذي حق عليه القول ، وقد ذكرنا معنى { أف } في الإسراء .
{ أتعدانني أن أخرج } أي : أتعدانني أنا أن أخرج من القبر إلى البعث .
{ وقد خلت القرون من قبلي } أي : وقد مضت قرون من الناس ولم يبعث منهم أحد .
{ وهما يستغيثان الله } الضمير لوالديه أي : يستغيثان بالله من كراهتهما لما يقول منهما ثم يقولان له ويلك ثم يأمرانه بالإيمان : فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين أي : قد سطره الأولون في كتبهم ، وذلك تكذيب بالبعث والشريعة .
ولما ذكر سبحانه هذا المحسن بادئاً به لكون المقام للإحسان ، أتبعه المسيء المناسب لمقصود السورة المذكور{[58800]} صريحاً في مطلعها فقال تعالى : { والذي قال لوالديه } {[58801]}مع اجتماعهما كافراً لنعمهما{[58802]} نابذاً لوصيتنا بهما فكان كافراً بنعمة أعظم منعم محسوس بعد الكفر بنعم أعظم منعم مطلقاً{[58803]} ، والتثنية مشيرة إلى أنه أغلظ الناس كبداً ، لأن العادة جرت بقبول الإنسان كلام أصله ولو كان واحداً ، وأن{[58804]} الاجتماع مطلقاً له تأثير فكيف إذا كان والداً : { أف } أي تضجر وتقذر واسترذال وتكره{[58805]} مني ولغاتها{[58806]} أربعون - حكاها في القاموس ، المتواتر منها عن القراء ثلاث{[58807]} : الكسر بغير تنوين وهو قراءة الجمهور ، والمراد به أن المعنى الذي قصده مقترن بسفول ثابت{[58808]} ، ومع التنوين وهو قراءة المدنيين وحفص{[58809]} والمراد به أنه سفول عظيم سائر مع الدهر بالغلبة والقهر ، والفتح من غير تنوين وهو قراءة ابن كثير وابن عامر ويعقوب ، والمراد به اقتران المعنى المقصود {[58810]}بالاشتهار بالعلو والانتشار{[58811]} مع الدوام ، وقد تقدم في الإسراء عن الحرالي - وهو الحق - أن {[58812]}التأفيف أنهى{[58813]} الأذى وأشده ، فإن معناه{[58814]} أن المؤفف به لا خطر له ولا وزن أصلاً ، ولا يصلح لشيء بل هو-{[58815]} عدم بل العدم خير منه مع أنهى القذر{[58816]} .
ولما كان كأنه قيل : لمن هذا التأفيف ؟ قال : { لكما } ولما كانا{[58817]} كأنهما قالا له : لم هذا التقذير{[58818]} العظيم بعد الإحسان لا تقدر على {[58819]}جزائنا به{[58820]} ، قال مبكتاً موبخاً منكراً على تقدير كونه وعداً : { أتعدانني } أي على سبيل الاستمرار بالتجديد في كل وقت { أن أخرج } أي-{[58821]} من مخرج ما يخرجني من الأرض بعد أن غبت فيها وصرت تراباً أحيى كما كنت أول مرة { وقد } أي والحال أنه قد { خلت } أي {[58822]}تقدمت وسبقت{[58823]} ومضت على سنن الموت { القرون } أي الأجيال الكثيرة من صلابتهم ، وأثبت الجار لأن القرن لا ينخرم إلا بعد مدة طويلة ، فالانخرام في ذلك غير مستغرق للزمان فقال : { من قبلي } أي قرناً بعد قرن وأمة بعد أمة وتطاولت الأزمان وأغلبهم يكذب بهذا الحديث فأنا مع الأغلب ، وتأيد ذلك بأنه لم يرجع أحد منهم { وهما } أي والحال أنهما كلما قال{[58824]} لهما ذلك { يستغيثان الله } أي يطلبان بدعائهما من له جميع الكمال أن يعينهما {[58825]}بإلهامة قبول{[58826]} كلامهما ، قائلين لولدهما مجتهدين بالنصيحة له بعد الاجتهاد بالدعاء : { ويلك } كما يقول المشفق إذا زاد به الكرب وبلغ منه الغم ، إشارة إلى أنه لم يبق له-{[58827]} إن أعرض إلا الويل وهو الهلاك { آمن } أي أوقع الإيمان الذي لا إيمان غيره ، وهو الذي ينقذ من كل هلكة ، ويوجب كل فوز بالتصديق بالعبث وبكل ما جاء عن الله ، ثم عللا{[58828]} أمرهما على هذا الوجه مؤكدين في مقابلة إنكاره فقالا{[58829]} : { إن وعد الله } أي الملك الأعظم{[58830]} المحيط بجميع صفات {[58831]}المهابة و{[58832]}الكمال الموصوف بالعزة والحكمة { حق } أي ثابت أعظم ثبات لانه لو لم يكن حقاً لكان نقصاً من جهة الإخلاف الذي لا يرضاه لنفسه أقل{[58833]} العرب فكيف وهو يلزم منه منافاة{[58834]} الحكمة بكون الخلق حينئذ على وجه العبث{[58835]} لأنهم عباد ورعايا لا يعرضون على ملكهم الذي أبدعهم مع علمه بما هم عليه من ظلم بعضهم لبعض وبغي بعضهم على بعض { فيقول } {[58836]}مسبباً عن قولهما ومعقباً له : { ما هذا } أي الذي {[58837]}ذكرتماه لي من{[58838]} البعث{[58839]} { إلا أساطير الأولين * } أي خرافات كتبها-{[58840]} على وجه الكذب الأوائل {[58841]}وتناقلها منهم الأعمار{[58842]} جيلاً بعد جيل فصارت{[58843]} بحيث يظن الضعفاء أنها صحيحة - هذا والعجب كل العجب أنه بتصديقه لا يلزمه فساد على تقدير من التقادير الممكنة ، بل يحمله التصديق على محاسن الأعمال ومعالي{[58844]} الأخلاق التي هو مقر بأنها{[58845]} محاسن من لزوم طريق الخير وترك طريق الشر ، وتكذيبه يجره إلى المرح والأشر ، والبطر وأفعال الشر ، ودنايا الأخلاق مع احتمال الهلاك الذي يخوفانه به وهو لا ينفي أنه محتمل{[58846]} وإن استبعده فما دعوه{[58847]} إليه كما ترى{[58848]} لا يأباه عاقل ولكنها{[58849]} عقول كادها باريها .