في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡتَرِي لَهۡوَ ٱلۡحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٞ مُّهِينٞ} (6)

أولئك المهتدون بالكتاب وآياته ، المحسنون ، المقيمون للصلاة ، المؤتون للزكاة ، الموقنون بالآخرة ، المفلحون في الدنيا والآخرة . . أولئك فريق . . وفي مقابلهم فريق :

( ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا . أولئك لهم عذاب مهين . وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها ، كأن في أذنيه وقرا . فبشره بعذاب أليم ) . .

ولهو الحديث كل كلام يلهي القلب ويأكل الوقت ، ولا يثمر خيرا ولا يؤتي حصيلة تليق بوظيفة الإنسان المستخلف في هذه ا لأرض لعمارتها بالخير والعدل والصلاح . هذه الوظيفة التي يقرر الإسلام طبيعتها وحدودها ووسائلها ، ويرسم لها الطريق . والنص عام لتصوير نموذج من الناس موجود في كل زمان وفي كل مكان . وبعض الروايات تشير إلى أنه كان تصويرا لحادث معين في الجماعة الإسلامية الأولى . وقد كان النضر بن الحارث يشتري الكتب المحتوية لأساطير الفرس وقصص أبطالهم وحروبهم ؛ ثم يجلس في طريق الذاهبين لسماع القرآن من رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] محاولا أن يجذبهم إلى سماع تلك الأساطير والاستغناء بها عن قصص القرآن الكريم . ولكن النص أعم من هذا الحادث الخاص إذا صح أنه وارد فيه . وهو يصور فريقا من الناس واضح السمات ، قائما في كل حين . وقد كان قائما على عهد الدعوة الأولى في الوسط المكي الذي نزلت فيه هذه الآيات .

( ومن الناس من يشتري لهو الحديث ) . . يشتريه بماله ويشتريه بوقته ، ويشتريه بحياته . يبذل تلك الأثمان الغالية في لهو رخيص ، يفني فيه عمره المحدود ، الذي لا يعاد ولا يعود ، يشتري هذا اللهو ( ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا ) فهو جاهل محجوب ، لا يتصرف عن علم ، ولا يرمي عن حكمة وهوسيىء النية والغاية ، يريد ليضل عن سبيل الله . يضل نفسه ويضل غيره بهذا اللهو الذي ينفق فيه الحياة . وهو سيىء الأدب يتخذ سبيل الله هزوا ، ويسخر من المنهج الذي رسمه الله للحياة وللناس . ومن ثم يعالج القرآن هذا الفريق بالمهانة والتهديد قبل أن يكمل رسم الصورة : ( أولئك لهم عذاب مهين ) . . ووصف العذاب بأنه مهين مقصود هنا للرد على سوء الأدب والاستهزاء بمنهج الله وسبيله القويم .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡتَرِي لَهۡوَ ٱلۡحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٞ مُّهِينٞ} (6)

{ 6 - 9 } { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ * خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }

أي : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ } هو محروم مخذول { يَشْتَرِي } أي : يختار ويرغب رغبة من يبذل الثمن في الشيء . { لَهْوَ الْحَدِيثِ } أي : الأحاديث الملهية للقلوب ، الصادَّة لها عن أجلِّ مطلوب . فدخل في هذا كل كلام محرم ، وكل لغو ، وباطل ، وهذيان من الأقوال المرغبة في الكفر ، والفسوق ، والعصيان ، ومن أقوال الرادين على الحق ، المجادلين بالباطل ليدحضوا به الحق ، ومن غيبة ، ونميمة ، وكذب ، وشتم ، وسب ، ومن غناء ومزامير شيطان ، ومن الماجريات الملهية ، التي لا نفع فيها في دين ولا دنيا .

فهذا الصنف من الناس ، يشتري لهو الحديث ، عن هدي الحديث { لِيُضِلَّ } الناس { بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي : بعدما ضل بفعله ، أضل غيره ، لأن الإضلال ، ناشئ عن الضلال .

وإضلاله في هذا الحديث ؛ صده عن الحديث النافع ، والعمل النافع ، والحق المبين ، والصراط المستقيم .

ولا يتم له هذا ، حتى يقدح في الهدى والحق ، ويتخذ آيات اللّه هزوا ويسخر بها ، وبمن جاء بها ، فإذا جمع بين مدح الباطل والترغيب فيه ، والقدح في الحق ، والاستهزاء به وبأهله ، أضل من لا علم عنده وخدعه بما يوحيه إليه ، من القول الذي لا يميزه ذلك الضال ، ولا يعرف حقيقته .

{ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } بما ضلوا وأضلوا ، واستهزءوا [ بآيات اللّه ]{[1]}  وكذبوا الحق الواضح .


[1]:- هذا التنبيه جعله الشيخ -رحمه الله- على غلاف المجلد الأول فصدرت به التفسير كما فعل -رحمه الله-.
 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡتَرِي لَهۡوَ ٱلۡحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ بِغَيۡرِ عِلۡمٖ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًاۚ أُوْلَـٰٓئِكَ لَهُمۡ عَذَابٞ مُّهِينٞ} (6)

قوله تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } .

ثمة قولان في سبب نزول هذه الآية . أحدهما : أنها نزلت في النضر بن الحارث وذلك أنه كان يخرج تاجرا إلى فارس ، فيشتري أخبار الأعاجم فيرويها ، ويحدث بها قريشا ويقول لهم : إن محمدا عليه الصلاة والسلام يحدثكم بحديث عاد وثمود ، وأنا أحدثكم بحديث رستم واسفنديار وأخبار الأكاسرة ، فيستملحون حديثه ، ويتركون استماع القرآن . فنزلت فيه هذه الآية .

القول الثاني : إنها نزلت في رجل من قريش اشترى جارية مغنية فشُغل الناس بلهوها عن استماع النبي صلى الله عليه وسلم{[3633]} .

أما المراد بلهو الحديث وشرائه فهو موضع تفصيل نعرض له في هذا البيان فنقول : لهو الحديث يشمل بعمومه كل ما يلهي عن طاعة الله وفعل الخيرات والقربات . وذلك كالغناء والملاهي والأحاديث المفتراة والمصطنعة التي تنشغل بها القلوب والأذهان عن دين الله وطاعته .

وقيل : المراد بلهو الحديث ، الكفر والشرك . وهو قول الحسن البصري ، وروي عنه قول : إنه الغناء والمعازف .

وقيل : المراد من يشتري ذا لهو ، أو ذات لهو . فيكون التقدير : من يشتري أهل لهو الحديث وهم المغنّون والمغنيات والقينات . كقوله تعالى : { واسأل القرية } يعني واسأل أهل القرية .

وقيل : المراد به الغناء . وقد قال بذلك أكثر السلف من الصحابة والتابعين وقد حلف على ذلك عبد الله بن مسعود بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات أنه الغناء . وكان يقول : الغناء ينبت النفاق في القلب . وعن ابن عمر أنه الغناء . وقال الإمام الطبري : أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه . ويؤيد هذا القول ما ورد في ذلك من أخبار . منها ما رواه الترمذي من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " صوتان ملعونان فاجران أنهى عنهما : صوت مزمار ، ورنة شيطان عند نغمة ومرح ، ورنة عند مصيبة لطم خدود وشق جيوب " .

وروى الترمذي أيضا من حديث علي ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء " فذكر منها : " إذا اتخذت القينات والمعازف " وفيما رواه أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من جلس إلى قينة يسمع منها صُبَّ في أذنه الآنُك{[3634]} يوم القيامة " .

على أن الغناء المنهي عنه هو المعتاد عند المشتهرين به ، والذي يحرك النفوس فيستميلها للذة والطرب ، ويجنح بها للهوى والغزل والمجون بعد سكون الشهوة ورقادها . إلى غير ذلك من الشعر الذي يُشَبَّب فيه بالنساء ووصف محاسنهن والافتتان بهن ووصف الخمور والمحرمات ، فإن ذلك حرام قطعا . أما ما كان من غناء يخلو من ذلك فيجوز منه القليل في بعض الأحوال والظروف كالأعراس والأعياد حيث السرور والبهجة تغمر قلوب الناس في مثل هذه المناسبات . وكذلك عند التنشيط على الأعمال الشاقة مما يروح النفس ترويحا ويكفكف عنها غبار الكد والنصَب .

وذلك كما كان في حفر الخندق وحدو أنجشه ، وهو أسود كان يسوق الإبل بنساء النبي صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع وكان حسن الحداء ، وكانت الإبل تزيد في الحركة بحدائه . وفي ذلك روى الديلمي عن أنس مرفوعا : " روحوا القلوب ساعة فساعة " .

أما ما ابتدعته الصوفية من سماع المغاني وقد اختلطت بالمعازف وآلات الطرب كالشبابات والمزامير والأوتار فذلكم حرام .

أما الضرب على الدف لإظهار النكاح فمباح . وقال القرطبي في هذا الصدد : إن الطبل في النكاح كالدف ، وكذلك الآلات المشهرة للنكاح يجوز استعمالها فيه بما يحسن من الكلام ولم يكن فيه رفث .

أما الاشتغال بالغناء على الدوام فهو سفه . تُرد به الشهادة وقد ذهب الإمام مالك إلى أن الغناء حرام . ولما سئل عن ذلك قال : إنما يفعله عندنا الفساق . وذهبت الحنيفية والشافعية ، وكذا الحنبلية في رواية لهم إلى أن الغناء مكروه ، وأن سماعه من الذنوب ، ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته .

والذي نميل إليه أن الآية تتناول بعمومها سائر الأقوال والأحاديث التي تلهي عن طاعة الله والتي تشغل البال والقلب عن الخشوع والورع والتذكر ، وسماع المواعظ ودروس العلم . سواء في ذلك الغناء أو قص الأساطير الموهومة بقصد الإلهاء عن سماع الإسلام بأفكاره ومعانيه ، وكذلك اللغو من الكلام الذي يلهي الناس عن سماع القرآن ويضلهم عن الحق ليتيهوا في الباطل . وهو قوله : { ليضل عن سبيل الله } المضل يراد به صاحب اللهو على اختلاف وجوهه فهو بتلهيته يضل الناس عن دين الله فيحول بينهم وبين سماع القرآن والاتعاظ بكلماته وإيقاعاته المؤثرة . أو يلهيهم عن الاستفادة من علوم الإسلام ؛ إذ لا يستبقي لهم من الفراغ أو الوقت ما يقرأون فيه أو يسمعون القرآن وروائع الإسلام ، فضلا عن تلهيتهم عن أداء الواجبات والطاعات المفروضة والمندوبة .

وهذا هو دأب الحكام والساسة الذين يقودون المسلمين في عصرهم الراهن ؛ إذ يسوسونهم بغير شريعة الإسلام ؛ يسوسونهم بشرائع الكفر وملل الضلال والباطل مما ابتدعوه من نظم الحضارة المادية الظالمة . أولئك يصطنعون كل أسباب التلهية من مختلف وجوه اللهو الفارغ الذي تُسخّر لنشره وإشاعته كل الوسائل والأسباب وبخاصة وسائل الإعلام المختلفة ؛ وذلك من أجل أن تلتهي الأمة عن الاهتمام بدينها وقيمها ومقوماتها الثقافية والمعنوية والسلوكية ؛ وكيما تغض الطرف عن تعاليم الإسلام ولا تعبأ بسماع القرآن ، فضلا عما يبتغيه الساسة الظالمون من إفساد النفس لدى الأفراد وتشويه العقول والتصورات فتزهد في الإقبال على الإسلام كل الزهد أو تنفر منه نفورا .

قوله : { وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا } الضمير في { وَيَتَّخِذَهَا } عائد إلى { سبيل الله } والمراد بسبيل الله منهج الحق وصراط الله المستقيم ودينه الحنيف القويم . والمعنى : أن المضل عن سبيل الله بلهوه وضلاله إنما يسخر من دين الله وشرعه ، ويهزأ بالإسلام وما فيه من أحكام وقيم وتصورات . وذلك هو دأب الغاوين الذين يغوون الناس بفسقهم وفجورهم ويضلونهم عن دين الله بما ابتدعوه واصطنعوه من فتن الملاهي والمعازف والغناء الفاجر المستهجن .

قوله : { أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } هؤلاء المضلون الفسّاق الذين يلهون الناس عن دينهم ويضلونهم عن فعل الطاعات والواجبات بما ابتدعوه من لهو فاسد ماجن –صائرون إلى عذاب الخزي والهوان في النار{[3635]} .


[3633]:أسباب النزول للنيسابوري ص 232، أحكام القرآن لابن جزء 3 ص 1482
[3634]:الآنك: الرصاص الخالص. انظر المصباح المنير ج 1 ص 31.
[3635]:1 تفسير القرطبي جزء 14 ص 51-56 تفسير تبن كثير جزء 3 ص 442 وفتح القدير جزء 3 ص 234، وتفسير الطبري ج 21 ص 40-41، وتفسير الرازي ج 25 ص 142.