سورة المطففين مكية وآياتها ست وثلاثون
هذه السورة تصور قطاعا من الواقع العملي الذي كانت الدعوة تواجهه في مكة - إلى جانب ما كانت تستهدفه من إيقاظ القلوب ، وهز المشاعر ، وتوجيهها إلى هذا الحدث الجديد في حياة العرب وفي حياة الإنسانية ، وهو الرسالة السماوية للأرض ، وما تتضمنه من تصور جديد شامل محيط .
هذا القطاع من الواقع العملي تصوره السورة في أولها ، وهي تتهدد المطففين بالويل في اليوم العظيم ، ( يوم يقوم الناس لرب العالمين ) . . كما تصوره في ختامها وهي تصف سوء أدب الذين أجرموا مع الذين آمنوا ، وتغامزهم عليهم ، وضحكهم منهم ، وقولهم عنهم : ( إن هؤلاء لضالون ! ) .
وهذا إلى جانب ما تعرضه من حال الفجار وحال الأبرار ؛ ومصير هؤلاء وهؤلاء في ذلك اليوم العظيم .
وهي تتألف من أربعة مقاطع . . يبدأ المقطع الأول منها بإعلان الحرب على المطففين : ( ويل للمطففين . الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون ؛ وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون . ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم ? يوم يقوم الناس لرب العالمين ? ) . .
ويتحدث المقطع الثاني عن الفجار في شدة وردع وزجر ، وتهديد بالويل والهلاك ، ودمغ بالإثم والاعتداء ، وبيان لسبب هذا العمى وعلة هذا الانطماس ، وتصوير لجزائهم يوم القيامة ، وعذابهم بالحجاب عن ربهم ، كما حجبت الآثام في الأرض قلوبهم ، ثم بالجحيم مع الترذيل والتأنيب : كلا . إن كتاب الفجار لفي سجين . وما أدراك ما سجين ? كتاب مرقوم . ويل يومئذ للمكذبين ! الذين يكذبون بيوم الدين . وما يكذب به إلا كل معتد أثيم ، إذا تتلى عليه آياتنا قال : أساطير الأولين . كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون . كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون . ثم إنهم لصالوا الجحيم . ثم يقال : هذا الذي كنتم به تكذبون . .
والمقطع الثالث يعرض الصفحة المقابلة . صفحة الأبرار . ورفعة مقامهم . والنعيم المقرر لهم . ونضرته التي تفيض على وجوههم . والرحيق الذي يشربون وهم على الأرائك ينظرون . . وهي صفحة ناعمة وضيئة : ( كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين . وما أدراك ما عليون ? كتاب مرقوم ، يشهده المقربون . إن الأبرار لفي نعيم ، على الأرائك ينظرون ، تعرف في وجوههم نضرة النعيم ، يسقون من رحيق مختوم ، ختامه مسك - وفي ذلك فليتنافس المتنافسون - ومزاجه من تسنيم . عينا يشرب بها المقربون ) . .
والمقطع الأخير يصف ما كان الأبرار يلاقونه في عالم الغرور الباطل من الفجار من إيذاء وسخرية وسوء أدب . ليضع في مقابله ما آل إليه أمر الأبرار وأمر الفجار في عالم الحقيقة الدائم الطويل :
( إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون ، وإذا مروا بهم يتغامزون ، وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين . وإذا رأوهم قالوا : إن هؤلاء لضالون . وما أرسلوا عليهم حافظين . فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون . هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون ? ) . .
والسورة في عمومها تمثل جانبا من بيئة الدعوة ، كما تمثل جانبا من أسلوب الدعوة في مواجهة واقع البيئة ، وواقع النفس البشرية . . . وهذا ما سنحاول الكشف عنه في عرضنا للسورة بالتفصيل . .
( ويل للمطففين : الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون ، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون . ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم : يوم يقوم الناس لرب العالمين ? ) . .
تبدأ السورة بالحرب يعلنها الله على المطففين : ( ويل للمطففين ) . . والويل : الهلاك . وسواء كان المراد هو تقرير أن هذا أمر مقضي ، أو أن هذا دعاء . فهو في الحالين واحد فالدعاء من الله قرار . .
{ 1 - 6 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ }
{ وَيْلٌ } كلمة عذاب ، ووعيد{[1373]} { لِلْمُطَفِّفِينَ }
{ ويل للمطففين } يعني الذين ينقصون المكيال والميزان ويبخسون حقوق الناس . قال الزجاج : إنما قيل للذي ينقص المكيال والميزان : مطفف ، لأنه لا يكاد يسرق في المكيال والميزان إلا الشيء اليسير الطفيف .
أخبرنا أبو بكر يعقوب بن أحمد بن محمد بن علي الصيرفي ، حدثنا أبو محمد الحسن بن أحمد المخلدي ، أنبأنا أبو حامد أحمد بن محمد بن الحسن الحافظ ، حدثنا عبد الرحمن بن بشر ، حدثنا علي بن الحسين بن واقد ، حدثني أبي ، حدثني يزيد النحوي أن عكرمة حدثه عن ابن عباس قال : " لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلاً ، فأنزل الله عز وجل : { ويل للمطففين } فأحسنوا الكيل " . وقال السدي : " قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وبها رجل يقال له : أبو جهينة ، ومعه صاعان ، يكيل بأحدهما ، ويكتال بالآخر ، فأنزل الله هذه الآية " . فالله تعالى جعل الويل للمطففين .
سورة التطفيف{[1]}
مقصودها شرح آخر الانفطار بأنه لابد من دينونة العباد يوم التناد بإسكان الأولياء أهل الرشاد دار النعيم ، والأشقياء أهل الضلال والعناد غار الجحيم ، ودل على ذلك بأنه مربيهم والمحسن إليهم بعموم النعمة ، ولا يتخيل عاقل أن أحدا يربي أحدا من غير سؤال عما{[2]}حمله إياه وكلفه به ولا أنه لا ينصف بعض من يربيهم من بعض ، واسمها التطفيف أدل{[3]} ما فيها/ على ذلك { بسم الله } الذي له الحكمة البالغة والقدرة الكاملة { الرحمن } الذي عم بنعمة الإيجاد والبيان الشاملة { الرحيم* } الذي أكرم حزبه بالتوفيق{[4]} لحسن المعاملة .
ولما{[72102]} ختم الانفطار بانقطاع الأسباب وانحسام الأنساب{[72103]} يوم الحساب-{[72104]} ، وأبلغ في التهديد بيوم الدين وأنه لا أمر لأحد معه ، وذكر الأشقياء والسعداء ، وكان أعظم ما يدور{[72105]} بين العباد{[72106]} المقادير ، وكانت المعصية بالبخس فيها من أخس المعاصي وأدناها ، حذر من الخيانة فيها وذكر ما أعد لأهلها وجمع إليهم كل من اتصف بوصفهم فحلمه وصفه على نوع من المعاصي ، كل ذلك تنبيهاً للأشقياء الغافلين على ما هم فيه من السموم الممرضة المهلكة ، ونبه على{[72107]} الشفاء لمن أراده فقال-{[72108]} : { ويل } أي هلاك ثابت عظيم في كل حال من أحوال الدنيا والآخرة { للمطففين } أي الذين ينقصون المكيال والميزان ويبخسون حقوق الناس ، وفي ذلك تنبيه على أن أصل الآفات الخلق السيىء وهو حب الدنيا الموقع في جمع الأموال من غير وجهها ولو بأخس الوجوه : التطفيف الذي لا يرضاه ذو مروءة وهم{[72109]} من يقاربون ملء الكيل وعدل الوزن ولا يملؤون ولا يعدلون ، وكأنه من الإزالة أي أزال ما أشرف من أعلى الكيل ، من الطف ، وهو ما أشرف من أرض العرب على ريف العراق ، ومنه ما في حديث ابن عمر{[72110]} رضي الله تعالى عنهما قال : كنت فارساً فسبقت الناس حتى طفت{[72111]} لي الفرس مسجد بني زريق - يعني أن الفرس وثب حتى كاد يساوي المسجد ، ويقال : طف الرجل الحائط - إذا علاه ، أو من القرب ، من قولهم : أخذت من متاعي ما خف وطف ، أي قرب مني ، وكل شيء أدنيته من شيء فقد أطففته ، والطفاف من الإناء وغيره : ما قارب أن يملأه ، ولا يتم ملأه ، وفي الحديث : " كلكم بنو آدم طف الصاع " ، أو من الطفف وهو التقتير ، يقال : طفف عليه تطفيفا - إذا قتر عليه ، أو من الطفيف وهو من الأشياء الخسيسة{[72112]} الدون والقليل ، فكأن التضعيف للإزالة على المعنى الأول كما مضى ، وللمقاربة الكثيرة على المعنى الثاني أي أنه يقار ملء المكيال مقاربة كبيرة مكراً وخداعاً حتى يظن صاحب الحق أنه-{[72113]} وفى ولا يوفي ، يقال : أطف فلان لفلان - إذا أراد ختله ، وإذا نهى عن هذا فقد نهى عما نقص أكثر بمفهوم الموافقة ، وعلى المعنى{[72114]} الثالث بمعنى التقتير والمشاححة في{[72115]} الكيل ، وعلى المعنى الرابع بمعنى التنقيص والتقليل فيه ، وكأنه اختير هذا اللفظ لأنه لا يكاد يسرق{[72116]} في الميزان والمكيال إلا الشيء-{[72117]} اليسير جداً ، هذا أصله في اللغة