وفي ختام الجولة الرابعة وختام السورة ، وفي ظل هذا المشهد المرهوب يجيء الإيقاع الأخير في السورة قويا عميقا مرهوبا ، يصور علم الله الشامل وقصور الإنسان المحجوب عن الغيوب . ويقرر القضية التي تعالجها السورة بكل أجزائها ، ويخرج هذا كله في مشهد من مشاهد التصوير القرآني العجيب .
( إن الله عنده علم الساعة ، وينزل الغيث ، ويعلم ما في الأرحام ، وما تدري نفس ماذا تكسب غدا ، وما تدري نفس بأي أرض تموت . إن الله عليم خبير ) . .
والله - سبحانه - قد جعل الساعة غيبا لا يعلمه سواه ؛ ليبقى الناس على حذر دائم ، وتوقع دائم ، ومحاولة دائمة أن يقدموا لها ، وهم لا يعلمون متى تأتي ، فقد تأتيهم بغتة في أية لحظة ، ولا مجال للتأجيل في اتخاذ الزاد ، وكنز الرصيد .
والله ينزل الغيث وفق حكمته ، بالقدر الذي يريده ؛ وقد يعرف الناس بالتجارب والمقاييس قرب نزوله ؛ ولكنهم لا يقدرون على خلق الأسباب التي تنشئه . والنص يقرر أن الله هو الذي ينزل الغيث ، لأنه سبحانه هو المنشىء للأسباب الكونية التي تكونه والتي تنظمه . فاختصاص الله في الغيث هو اختصاص القدرة . كما هو ظاهر من النص . وقد وهم الذين عدوه في الغيبيات المختصة بعلم الله . و إن كان علم الله وحده هو العلم في كل أمر وشأن . فهو وحده العلم الصحيح الكامل الشامل الدائم الذي لا يلحق به زيادة ولا نقصان .
( ويعلم ما في الأرحام ) . . اختصاص بالعلم كالاختصاص في أمر( الساعة )فهو سبحانه الذي يعلم وحده . علم يقين . ماذا في الأرحام في كل لحظة وفي كل طور . من فيض وغيض . ومن حمل حتى حين لا يكون للحمل حجم ولا جرم . ونوع هذا الحمل ذكرا أم أنثى ، حين لا يملك أحد أن يعرف عن ذلك شيئا في اللحظة الأولى لاتحاد الخلية والبويضة . وملامح الجنين وخواصه وحالته واستعداداته . . فكل أولئك مما يختص به علم الله تعالى .
( وما تدري نفس ماذا تكسب غدا ) . . ماذا تكسب من خير وشر ، ومن نفع وضر ، ومن يسر وعسر ، ومن صحة ومرض ، ومن طاعة ومعصية . فالكسب أعم من الربح المالي وما في معناه ؛ وهو كل ما تصيبه النفس في الغداة . و هو غيب مغلق ، عليه الأستار . والنفس الإنسانية تقف أمام سدف الغيب ، لا تملك أن ترى شيئا مما وراء الستار .
وكذلك : ( وما تدري نفس بأي أرض تموت )فذلك أمر وراء الستر المسبل السميك الذي لا تنفذ منه الأسماع والأبصار .
وإن النفس البشرية لتقف أمام هذه الأستار عاجزة خاشعة ، تدرك بالمواجهة حقيقة علمها المحدود ، وعجزها الواضح ، ويتساقط عنها غرور العلم والمعرفة المدعاة . وتعرف أمام ستر الغيب المسدل أن الناس لم يؤتوا من العلم إلا قليلا ؛ وأن وراء الستر الكثير مما لم يعلمه الناس . ولو علموا كل شيء آخر فسيظلون واقفين أمام ذلك الستر لا يدرون ماذا يكون غدا ! بل ماذا يكون اللحظة التالية . وعندئذ تطامن النفس البشرية من كبريائها وتخشع لله .
والسياق القرآني يعرض هذه المؤثرات العميقة التأثير في القلب البشري في رقعة فسيحة هائلة . .
رقعة فسيحة في الزمان والمكان ، وفي الحاضر الواقع ، والمستقبل المنظور ، والغيب السحيق . وفي خواطر النفس ، و وثبات الخيال : ما بين الساعة البعيدة المدى ، والغيث البعيد المصدر ، وما في الأرحام الخافي عن العيان . والكسب في الغد ، وهو قريب في الزمان ومغيب في المجهول . . وموضع الموت والدفن ، وهو مبعد في الظنون .
إنها رقعة فسيحة الآماد والأرجاء . ولكن اللمسات التصويرية العريضة بعد أن تتناولها من أقطارها تدق في أطرافها ، وتجمع هذه الأطراف كلها عند نقطة الغيب المجهول ؛ ونقف بها جميعا أمام كوة صغيرة مغلقة ، لو انفتح منها سم الخياط لاستوى القريب خلفها بالبعيد ، ولانكشف القاصي منها والدان . . ولكنها تظل مغلقة في وجه الإنسان ، لأنها فوق مقدور الإنسان ، و وراء علم الإنسان . تبقى خالصة لله لا يعلمها غيره ، إلا بإذن منه وإلا بمقدار . ( إن الله عليم خبير )وليس غيره بالعليم ولا بالخبير . .
وهكذا تنتهي السورة ، كما لو كانت رحلة هائلة بعيدة الآماد والآفاق والأغوار والأبعاد . ويؤوب القلب من هذه الرحلة المديدة البعيدة ، الشاملة الشاسعة ، وئيد الخطى لكثرة ما طوف ، ولجسامة ما يحمل ، ولطول ما تدبر وما تفكر ، في تلك العوالم والمشاهد والحيوات !
وهي بعد سورة لا تتجاوز الأربع والثلاثين آية . فتبارك الله خالق القلوب ، ومنزل هذا القرآن شفاء لما في الصدور ، وهدى ورحمة للمؤمنين . .
{ إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير . }
ما في الأرحام : ما في أرحام النساء من صفاته وأحواله ومستقبله وعمره ورزقه وشقى أو سعيد .
هذه الآية ختام سورة لقمان وتعرض جانبا من مظاهر علم الله تعالى فهو سبحانه علام الغيوب وتذكر الآية خمسة أمور :
1- إن الله عنده علم الساعة : فهو سبحانه المستأثر بمعرفة يوم القيامة لا يعلم ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل ، لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة . . . . ( الأعراف : 187 ) .
ولعل حكمة ذلك أن يظل الإنسان مترقبا الموت ، فقد يأتي فجأة في ليل أو نهار وفي الأثر : من مات فقد قامت قيامته .
2- وينزل الغيث : فهو سبحانه الذي يرسل المطر في وقته بلا تقديم ولا تأخير وفي بلد لا يتجاوزه إلى غيره وبمقدار تقتضيه حكمته .
3- ويعلم ما في الأرحام : فهو سبحانه العليم بكل ما يتصل بهذا الجنين من رزق وعمر وهداية أو ضلال وإن علم الإنسان ما يتصل بنوع الجنين من ذكورة أو أنوثة فإنه لا يعلم شيئا عن مستقبله وأجله ورزقه وشقاوته أو سعادته .
4- وما تدري نفس ماذا تكسب غدا لا يعلم الإنسان ماذا يكسب غدا من خير أو شر ومن نفع أو ضر ومن يسر أو عسر ومن صحة ، أو مرض ومن طاعة أو معصية كل ذلك في أمر الغيب يعلمه علام الغيوب وحده ، وشاءت حكمته أن يخفى ذلك ليستمر تعلق الإنسان بربه ودعاؤه له وصلاته فهو سبحانه يقول : ادعوني أستجب لكم . . . . ( غافر : 6 ) .
5- وما تدري نفس بأي أرض تموت أي لا يدري أحد اين مضجعه من الأرض أفي بحر أم في بر أم في سهل أم في جبل .
هو سبحانه عالم الغيب مطلع على الظاهر والباطن محيط علمه بكل كبيرة وصغيرة ، خبير بخفايا النفوس وبواطنها وظواهرها .
قال تعالى : { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } . ( الأنعام : 59 ) .
فهذا العلم الشامل لكل ما في الغيب وللبر والبحر وللأشجار والأوراق وللورقة الساقطة من فوق الشجر ولكل حبة في ظلمات الأرض وللأرض اليابسة والأرض التي غمرتها المياه كل ذلك مسجل في علم الله الذي لا يحول دونه حائل من ليل أو نهار أو أرض أو سماء أو غائب أو شاهد إن الله عليم خبير .
روى البخاري ومسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " مفاتح الغيب خمس إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير " . xiv
وأخرج ابن المنذر عن عكرمة أن رجلا يقال له الوارث بن عمرو بن حارثة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد متى قيام الساعة ؟ وقد أجدبت بلادنا فمتى تخصب ؟ وقد تركت امرأتي حبلى فما تلد ؟ وقد علمت ما كسبت اليوم فماذا أكسب غدا ؟ وقد علمت بأي أرض ولدت فبأي أرض أموت ؟ فنزلت الآية : إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير .
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
خلاصة ما اشتملت عليه سورة لقمان :
1- القرآن هداية ورحمة للمؤمنين .
2- قصص من ضل عن سبيل الله بغير علم واتخذ آيات الله هزؤا .
3- وصف العالم العلوي والعالم السفلي وما فيهما من العجائب الدالة على وحدانية الله .
4- قصص لقمان وإيتاؤه الحكمة ثم نصائحه لابنه .
5- النعي على المشركين في ركونهم إلى التقليد إذا دعوا إلى النظر في الكون و عبادة الله .
6- تعجب الرسول من المشركين حيث يقرون بأن الله هو الخالق لكل شيء ثم هم يعبدون معه غيره ممن هو مخلوق مثلهم .
7- نعم الله ومخلوقاته لا حصر لها .
8- المر بالنظر إلى الكون وعجائبه لنسترشد بذلك إلى وحدانية الصانع .
9- الأمر بالخوف من عقاب الله يوم لا يجزى والد عن ولده .
10- مفاتيح الغيب الخمسة التي استأثر الله بعلمها .
11- إحاطة علمه تعالى بجميع الكائنات ظاهرها وباطنها .
i انظر تفسير القرآن للشيخ عز الدين بن عبد السلام ( 578-660ه ) اختصار النكث للما وردي ( 364-450ه ) تحقيق د . عبد الله بن إبراهيم الوهيبي طبع ونشر المحقق السعودية الإحساء ص . ب . 1730 هاتف 5820411 ، قال المحقق راجع فتح الباري ( 2/440- العيدين 9/202- النكاح 10/51- الأشربة ) وصحيح مسلم ( 2/607- صلاة العيدين-4 ) والمحلى لابن حزم ( 5/92 )أه . وقد ذكر علماؤنا أن الشعر كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح ، ويمكن أن يقاس عليه الغناء فالحسن منه والقليل منه في أيام الأعياد والزواج عند الأعمال الشاقة حسن ولهو مباح ، وما كان فيه ميوعة أو تخنث أو إغراء بالمحرم فحرام .
ii دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار :
رواه البخاري في الجمعة ( 952 ) وفي المناقب ( 3931 ) ومسلم في المناقب ( 892 ) والنسائي في العيدين ( 1593 ) وابن ماجة في النكاح ( 1898 ) وأحمد في مسنده ( 23529-24161-24431 ) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث قالت : وليستا بمغنيتين فقال أبو بكر أمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك في يوم عيد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا أبا بكر أن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا " .
iii آتيناكم آتيناكم فحيانا وحياكم :
رواه ابن ماجة في النكاح( 1900 ) واحمد في مسنده ( 14778 ) من حديث ابن عباس قال : أنكحت عائشة ذات قرابة لها من الأنصار فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أهديتم الفتاة " ؟ قالوا : نعم فال : " أرسلتم معها من يغني " ؟ قالت : لا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الأنصار قوم فيهم غزل فلو بعثتم معها من يقول أتيناكم آتيناكم فحيانا وحياكم " . .
iv التفسير الوسيط بإشراف مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الحزب الحادي والأربعون ص 82-83 وبهامشه ما يأتي : في السنن الكبرى للبيهقي ج 7 ص 289 أن عمرة بنت عبد الرحمن قالت : كانت النساء إذا تزوجت المرأة أو الرجل خرج جواري الأنصار يغنين ويلعبن فمروا في مجلس فيه رسول الله وهن يغنين ويقلن :
أهدى لها زوجها أكبشا يبحبحن في المريد
وزوجها في النادي يعلم ما في غد
فقال سبحان الله لا يعلم ما في غد إلا الله لا تقولوا هكذا و قولوا آتيناكم آتيناكم فحيانا وحياكم .
قال البيهقي هذا مرسل جيد هامش جمع الجوامع ص 2338 العدد 19 من الجزء الثاني تفسير القرآن العظيم إسماعيل ابن كثير تحقيق سامي بن محمد السلامة دار طبعة النشر والتوزيع السعودية الرياض ج 6 ص 332 .
v تفسير روح البيان للشيخ إسماعيل حقي البر سوي دار إحياء التراث العربي بيروت لبنان مجلد 7 ص 71 .
vi تفسير ابن كثير تحقيق سامي بن محمد السلامة دار طيبة السعودية الرياض 6/333 .
رواه البخاري في الإيمان ( 32 ) وفي أحاديث الأنبياء ( 3360-3428-3429 ) وفي التفسير ( 4629-4776 ) وفي استتابة المرتدين ( 6918-6937 ) ومسلم في الإيمان ( 124 ) والترمذي في تفسير القرآن ( 3067 ) واحمد في مسنده ( 3578-4228 ) عن حديث عبد الله قال لما نزلت : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم . . . قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أينا لم يظلم فأنزل الله عز وجل : إن الشرك لظلم عظيم .
viii أي الذنب اعظم عند الله قال أن تجعل لله ندا :
رواه البخاري في تفسير القرآن ( 4477 ) ومسلم في الإيمان ( 86 ) من حديث عبد الله بن مسعود قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله ؟ قال : " أن تجعل لله ندا وهو خلقك " قلت : إن ذلك لعظيم قلت : ثم أي ؟ قال " أن تقتل ولدك تخاف أن يطعم معك " قلت : ثم أي ؟ قال : " أن تزاني حليلة جارك " .
ix جامع البيان في تأويل آي القرآن تأليف أبي جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة 310ه21/ 70 ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي 1968 م .
x إذا سمعتم صياح الديكة : رواه البخاري في بدء الخلق ( 3303 ) ومسلم في الذكر ( 2729 ) وأبو داود في الأدب ( 5102 ) والترمذي في الدعوات ( 3459 ) وأحمد في مسنده ( 8003 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله فإنها رأت ملكا ، وإذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان فإنه رأى شيطانا " .
xi إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق :
رواه أحمد في مسنده ( 8595 ) من حديث أبي هريرة .
xii إن من أحبكم إلب وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة :
رواه الترمذي في البر ( 2018 ) من حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالا : " إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهفون قالوا يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والمتشدقون ، فما المتفيهفون ؟ قال : المتكبرون وقال الترمذي حديث غريب ورواه أحمد في مسنده ( 17278 ) من حديث أبي ثعلبة الخشني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أحبكم إلي وأقربكم مني في الآخرة محاسنكم أخلاقا وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني في الآخرة مساويكم أخلاقا الثرثارون المتفيقهون المتشدقون " ورواه أحمد في مسنده ( 8604 ) من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا أنبئكم بشراركم فقال " هم الثرثارون المتشدقون ألا أنبئكم بخياركم أحاسنكم أخلاقا " .
xiii يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار :
رواه مسلم في صفة القيامة ( 3807 ) وأحمد في مسنده ( 12699 ) من حديث أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة ثم يقال يا ابن آدم هل رأيت خيرا قط ؟ هل مر بك نعيم قط ؟ فيقول : لا والله يا رب ، ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة فيقال له : يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط ؟ هل مر بك شدة قط ؟ فيقول : لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط " .
xiv مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله :
رواه البخاري في تفسير القرآن ( 4627-4697-4778 ) وفي التوحيد ( 7379 ) واحمد في مسنده ( 4752 ) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله لا يعلم ما تفيض الأرحام إلا الله ولا يعلم ما في غد إلا الله ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله " .
قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } .
هذا إخبار من الله عن مفاتيح الغيب التي استأثر بعلمها لنفسه فلا يعلمها أحد من خلقه إلا أن يُعلمه الله بها وهي :
علم الساعة فإن خبرها مستور قد خفي على العالمين فلا يدري به أحد إلا الله .
ثم إنزال المطر من السماء إلى الأرض . فإن أحدا سوى الله لا يعلم بذلك قبل نزوله إلا أن يُعلمه الله الوسيلة لمعرفة ذلك . كأهل الخبرة والدراية بعلوم الطبيعة الذين يقفون على أحوال الطقس تبعا لدرجات الحرارة التي تقاس بمقاييسها المعروفة ، مما يشير إلى احتمال نزول الغيث قبل يوم أو يومين من نزوله . ولا يندرج ذلك في عمل الكهان أو القائلين بالأنواء{[3668]} .
ثم قوله : { وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ } الله يعلم حقيقة ما في الأرحام إن كانوا صلحاء أو طلحاء ، مؤمنين أو كافرين ، طيبين أو خبيثين ، سعداء أو أشقياء ، طائعين أبرارا ، أو عصاة فجارا . كل هذه المعاني المستكنة في كينونة الجنين بدءا بكونه نطفة أو علقة أو مضغة وما بعد ذلك من المراحل البدائية ، لا يعلمها أحد سوى الله . أما ما وقف عليه أهل الخبرة من ذوي الاختصاص في التحليل أو الطب من إمكان الكشف عن الجنين ليُعلم أذكرا هو أم أنثى ، فإن ذلك لا ينافي حقيقة المفهوم للآية الكريمة وهو قوله : { وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ } و { ما } ، تستعمل لغير العاقل وفيها عموم . فهي تشمل كل ما يجتمع في الجنين من المركبات أو الخصال أو الخصائص ، أو الصفات الخَلقية والخُلقية والنفسية والعقلية الكائنة مستقبلا .
ثم قوله : { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا } أي لا يدري أحد من الناس ماذا هو عامل في غده من خير أو شر .
ثم قوله : { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } لا يدري أحد متى هو ميت وأين هو موضع مماته . لا يدري أحد أن موته كائن غدا أو بعد غد ، وهل هو في البر أو في البحر ، أو السهل ، أو الجبل ، أو في الفضاء . لا يدري أحد بذلك سوى الله { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } خبر بعد خبر . وقيل : خبير صفة لعليم . والمعنى : أن الله عليم بكل شيء وهو سبحانه علاّم الغيوب على الأسرار والأستار جميعا ، وخبير بعلوم الكون كله في الدنيا والآخرة . وفي ذلك كله روى الإمام أحمد عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله : { إن الله عنده علم الساعة وينزل ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي لأرض تموت إن الله عليم خبير } {[3669]} .