في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يسٓ} (1)

مقدمة السورة:

سورة يس مكية وآياتها ثلاث وثمانون

هذه السورة المكية ذات فواصل قصيرة . وإيقاعات سريعة . ومن ثم جاء عدد آياتها ثلاثاً وثمانين ، بينما هي أصغر وأقصر من سابقتها - سورة فاطر - وعدد آياتها خمس وأربعون .

وقصر الفواصل مع سرعة الإيقاع يطبع السورة بطابع خاص ، فتتلاحق إيقاعاتها ، وتدق على الحس دقات متوالية ، يعمل على مضاعفة أثرها ما تحمله معها من الصور والظلال التي تخلعها المشاهد المتتابعة من بدء السورة إلى نهايتها . وهي متنوعة وموحية وعميقة الآثار .

والموضوعات الرئيسية للسورة هي موضوعات السور المكية . وهدفها الأول هو بناء أسس العقيدة . فهي تتعرض لطبيعة الوحي وصدق الرسالة منذ افتتاحها : ( يس . والقرآن الحكيم . إنك لمن المرسلين . على صراط مستقيم . تنزيل العزيز الرحيم . . . ) . وتسوق قصة أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون ، لتحذر من عاقبة التكذيب بالوحي والرسالة ؛ وتعرض هذه العاقبة في القصة على طريقة القرآن في استخدام القصص لتدعيم قضاياه . وقرب نهاية السورة تعود إلى الموضوع ذاته : ( وما علمناه الشعر - وما ينبغي له - إن هو إلا ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين ) . .

كذلك تتعرض السورة لقضية الألوهية والوحدانية . فيجيء استنكار الشرك على لسان الرجل المؤمن الذي جاء من أقصى المدينة ليحاج قومه في شأن المرسلين وهو يقول : وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون ? أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئاً ولا ينقذون ? إني إذاً لفي ضلال مبين . . وقرب ختام السورة يجيء ذكر هذا الموضوع مرة أخرى : ( واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون . لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون ) . .

والقضية التي يشتد عليها التركيز في السورة هي قضية البعث والنشور ، وهي تتردد في مواضع كثيرة في السورة . تجيء في أولها : ( إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين ) . . وتأتي في قصة أصحاب القرية ، فيما وقع للرجل المؤمن . وقد كان جزاؤها العاجل في السياق : ( قيل : ادخل الجنة . قال : يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين ) . . ثم ترد في وسط السورة : ( ويقولون : متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ? ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ) . . ثم يستطرد السياق إلى مشهد كامل من مشاهد القيامة . وفي نهاية السورة ترد هذه القضية في صورة حوار ( وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه . قال : من يحيي العظام وهي رميم ? قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم . .

هذه القضايا المتعلقة ببناء العقيدة من أساسها ، تتكرر في السور المكية . ولكنها تعرض في كل مرة من زاوية معينة ، تحت ضوء معين ، مصحوبة بمؤثرات تناسب جوها ، وتتناسق مع إيقاعها وصورها وظلالها .

هذه المؤثرات منتزعة في هذه السورة من مشاهد القيامة - بصفة خاصة - ومن مشاهد القصة ومواقفها وحوارها . ومن مصارع الغابرين على مدار القرون . ثم من المشاهد الكونية الكثيرة المتنوعة الموحية : مشهد الأرض الميتة تدب فيها الحياة . ومشهد الليل يسلخ منه النهار فإذا هو ظلام . ومشهد الشمس تجري لمستقر لها . ومشهد القمر يتدرج في منازله حتى يعود كالعرجون القديم . ومشهد الفلك المشحون يحمل ذرية البشر الأولين . ومشهد الأنعام مسخّرة للآدميين . ومشهد النطفة ثم مشهدها إنساناً وهو خصيم مبين ! ومشهد الشجر الأخضر تكمن فيه النار التي يوقدون !

وإلى جوار هذه المشاهد مؤثرات أخرى تلمس الوجدان الإنساني وتوقظه : منها صورة المكذبين الذين حقت عليهم كلمة الله بكفرهم فلم تعد تنفعهم الآيات والنذر : ( إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقمحون ؛ وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون ) . ومنها صورة نفوسهم في سرهم وفي علانيتهم مكشوفة لعلم الله لا يداريها منه ستار . . ومنها تصوير وسيلة الخلق بكلمة لا تزيد : ( إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له : كن . فيكون ) . . وكلها مؤثرات تلمس القلب البشري وهو يرى مصداقها في واقع الوجود .

ويجري سياق السورة في عرض موضوعاتها في ثلاثة أشواط :

يبدأ الشوط الأول بالقسم بالحرفين : يا . سين وبالقرآن الحكيم ، على رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه على صراط مستقيم . يتلو ذلك الكشف عن النهاية البائسة للغافلين الذين يكذبون . وهي حكم الله عليهم بألا يجدوا إلى الهداية سبيلاً ، وأن يحال بينهم وبينها أبداً . وبيان أن الإنذار إنما ينفع من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب ؛ فاستعد قلبه لاستقبال دلائل الهدى وموحيات الإيمان . . ثم يوجه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلى أن يضرب لهم مثلاً أصحاب القرية ، فيقص قصة التكذيب وعاقبة المكذبين . كما يعرض طبيعة الإيمان في قلب الرجل المؤمن وعاقبة الإيمان والتصديق . .

ومن ثم يبدأ الشوط الثاني بنداء الحسرة على العباد الذين ما يفتأون يكذبون كل رسول ويستهزئون به . غير معتبرين بمصارع المكذبين ، ولا متيقظين لآيات الله في الكون وهي كثير . . وهنا يعرض تلك المشاهد الكونية التي سبقت الإشارة إليها في تقديم السورة ، كما يعرض مشهداً مطولاً من مشاهد القيامة فيه الكثير من التفصيل .

والشوط الثالث يكاد يلخص موضوعات السورة كلها . فينفي في أوله أن ما جاء به محمد [ صلى الله عليه وسلم ] شعر ، وينفي عن الرسول كل علاقة بالشعر أصلاً . ثم يعرض بعض المشاهد واللمسات الدالة على الألوهية المتفردة ، وينعى عليهم اتخاذ آلهة من دون الله يبتغون عندهم النصر وهم الذين يقومون بحماية تلك الآلهة المدعاة ! . ويتناول قضية البعث والنشور فيذكرهم بالنشأة الأولى من نطفة ليروا أن إحياء العظام وهي رميم كتلك النشأة ولا غرابة ! ويذكرهم بالشجر الأخضر الذي تكمن فيه النار وهما في الظاهر بعيد من بعيد ! وبخلق السماوات والأرض وهو شاهد بالقدرة على خلق أمثالهم من البشر في الأولى والآخرة . . وأخيراً يجيء الإيقاع الأخير في السورة : ( إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له : كن . فيكون . فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون ) .

والآن نأخذ بعد هذا العرض المجمل في التفصيل . .

( يس . والقرآن الحكيم . إنك لمن المرسلين . على صراط مستقيم . تنزيل العزيز الرحيم . لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم فهم غافلون . لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون . إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقمحون . وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون . وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون . إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم . إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين . . )

يقسم الله سبحانه بهذين الحرفين : يا . سين كما يقسم بالقرآن الحكيم . وهذا الجمع بين الأحرف المقطعة والقرآن يرجح الوجه الذي اخترناه في تفسير هذه الأحرف في أوائل السور ؛ والعلاقة بين ذكرها وذكر القرآن . وأن آية كونه من عند الله ، الآية التي لا يتدبرونها فيردهم القرآن إليها ، أنه مصوغ من جنس هذه الأحرف الميسرة لهم ؛ ولكن نسقه التفكيري والتعبيري فوق ما يملكون صياغته من هذه الحروف .

 
تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{يسٓ} (1)

مقدمة السورة:

أهداف سورة يس

سورة يس مكية ، نزل في الفترة المتوسطة من حياة المسلمين بمكة ، أي فيما بين الهجرة على الحبشة والإسراء وآياتها 83 آية نزلت بعد سورة الجن .

وللسورة اسمان : سورة يس لافتتاحها بها وسورة حبيب النجار لاشتمالها على قصته فقد جاء في تفسير قوله تعالى : وجاء من أقصا المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين . ( يس : 20 ) .

أن هذا الرجل يسمى " حبيب النجار " .

مقصود السورة

قال الفيروزبادي معظم مقصود سورة يس : تأكيد أمر القرآن والرسالة وإلزام الحجة على أهل الضلالة وضرب المثل بأهل قرية أنطاكية في قوله تعالى : واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذا جاءها المرسلون . ( يس : 13 ) .

وذكر قصة حبيب النجار الذي جاء من أقصى المدينة يسعى وبيان البراهين المختلفة في إحياء الأرض الميتة وإبداء الليل والنهار وسير الكواكب ودوران الأفلاك وجرى الجواري المنشآت في البحار وذلة الكفار عند الموت وحيرتهم ساعة البعث وسعادة المؤمنين المطيعين وشغلهم في الجنة وتميز المؤمن من الكافر في القيامة ، وشهادة الجوارح على أهل المعاصي بمعاصيهم والمنة على الرسول صلى الله عليه وسلم بصيانته من الشعر ونظمه وإقامة البرهان على البعث ونفاذ أمر الحق في كن فيكون وكمال ملك ذي الجلال على كل حال1 في قوله سبحانه : فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون . ( يس : 83 ) .

ملا مح السورة

سورة يس لها وقع خاص في نفوس المسلمين يرددون قراءتها في الصباح والمساء وتقرأعلى المريض للشفاء وعلى المحتضر لتيسير خروج الروح وعلى المقابر لتنزل الرحمة على الموتى وقد أخرج ابن حبان في صحيحه مرفوعا " من قرأ يس في ليلة ابتغاء وجه الله غفر الله له " . 2

وتتميز سورة يس بقصر الآيات وسهولة القراءة وتتابع المشاهد وتنوعها من بدء السورة إلى نهايتها .

والموضوعات الرئيسية في السورة هي موضوعات السور المكية وهدفها الأول هو بناء أسس العقيدة فهي تتعرض لطبيعة الوحي والصدق الرسالة ، وتسوق قصة أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون لتحذر من عاقبة التكذيب بالوحي والرسالة ، وتعرض هذه العاقبة في القصة على طريقة القرآن في استخدام القصص لتدعيم قضاياه وقرب نهاية السورة تعود على الموضوع ذاته فتوضح أن ما يوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم ليس شعرا ولكنه ذكر وقرآن مبين .

كذلك تتعرض السورة لقضية الألوهية والوحدانية فيجيء استنكار الشرك على لسان الرجل المؤمن الذي جاء من أقصى المدينة ليعلن إيمانه بالمرسلين وهو يقول : ومالي لا اعبد الذي فطرني وإليه ترجعون . ( يس : 22 ) .

والقضية التي تشتد عليها التركيز في السورة هي قضية البعث والنشور وهي تتردد في مواضع كثيرة من السورة تحكي السورة قصة أبي بن خلف حين جاء بعظم قد رم وبلى وصار ترابا ثم ضغط عليه بيديه ونفخ فيه فطار في الفضاء ثم قال : يا محمد تزعم أن ربك يبعث هذا بعدما رم وبلى وصار ترابا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " نعم ويبعثك ويدخلك النار " قال تعالى : وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم* قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم . ( يس : 78-79 ) .

والقضايا المتعلقة ببناء العقيدة تتكرر في السور المكية ولكنها تعرض كل مرة من زاوية معينة ، تحت ضوء معين مصحوبة بمؤثرات تناسب جوها وتتناسق مع إيقاعها وصورها .

" وهذه المؤثرات متنوعة في هذه السورة من مشاهد القيامة- بصفة خاصة ومن مشاهد القصة ومواقفها وحوارها ومن مصارع الغابرين على مدار القرون ثم من المشاهد الكونية الكثيرة ، المتفرعة الموحية : مشهد الأرض الميتة تدب فيها الحياة ، ومشهد الليل يسلخ منه النهار فإذا هو ظلام ومشهد الشمس تجري لمستقر لها : ومشهد القمر يتدرج في منازله حتى يعود كالعرجون القديم ، ومشهد الفلك المشحون يحمل ذرية البشر الأولين ومشهد الأنعام مسخرة للآدميين ومشهد النطفة وتحولها في النهاية إلى إنسان فإذا هو خصيم مبين ومشهد الشجر الأخضر تكمن فيه النار التي يوقدون " . 3

فصول السورة

يجري سياق السورة في عرض موضوعاتها في ثلاثة فصول :

1- رسالة ورسول

يستغرق الفصل الأول من السورة الآيات من ( 1-29 ) ويبدأ بالقسم بالحرفين " يا سين " وبالقرآن الحكيم على صدق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه على صراط مستقيم ثم يبين أن القرآن منزل من عند الله لإنذار العرب الذين لم ينذر آباؤهم من قبل ، فوقعوا فيما وقعوا فيه من الغفلة ، وحق العذاب على أكثرهم بسببها وقد جرت سنة الله ألا يعذب قوما إلا بعد أن يرسل إليهم من ينذرهم ثم وصف حرمانهم من الهداية وإمعانهم في الغواية كأنما وضعت أغلال في أعناقهم بلغت على أذقانهم ووضعت سدود بين أيديهم ومن خلفهم فصاروا لا يبصرون وبين أن الإنذار إنما ينفع من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فاستعد قلبه لاستقبال دلائل الهدى ، وموحيات الإيمان ثم يوجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يضرب لهم مثلا أصحاب القرية .

قصة أصحاب القرية :

ضرب الله لأهل مكة مثلا قصة أهل أنطاكية بالشام أرسل الله إليهم رسولين هما يوحنا وبولس من حواريي عيسى فكذبهما أهل القرية فأرسل الله ثالثا على درجة من الذكاء في توجيهه الدعوة ، واستمر التكذيب من الكافرين وبيان الحجة وأدلة الإيمان من المرسلين ثم جاء رجل مؤمن يسمى حبيب النجار فدعا قومه إلى الإيمان بالرسل فاتهموه بأنه مؤمن فأعلن إيمانه في ظروف حرجة ، وتعرض الرجل للإيذاء والقتل فحظي بالشهادة والجنة ، وتمنى لو أن قومه يعلمون منزلته الآن عند الله .

أما القرية الظالمة فقد صاح بها ملك صيحة أهلكتها أفلا يعتبر أهل مكة بهذه القرية وبالقرون التي هلكت جزاء كفرها وسيجتمع الجميع أمام الله يوم القيامة ويتميز المؤمنون بحسن الثواب ويحل بالكافرين سوء العقاب .

2- أدلة الإيمان :

بعد الحديث في الدرس الأول عن المشركين الذي واجهوا دعوة الإسلام بالتكذيب والمثل الذي ضربه الله لهم في قصة أصحاب القرية المكذبين وما انتهى إليه أمرهم من الهلاك بصيحة الملاك فإذا هم خامدون تحدثت الآيات ( 30-68 ) عن موقف المكذبين بكل ملة ودين وعرضت صور البشرية الضالة على مدار القرون ثم أخذت في استعراض الآيات الكونية التي يمرون عليها معرضين غافلين وهي مبثوثة في أنفسهم وفيما حولهم .

فالماء الذي يحيي الأرض بأنواع الجنان والنخيل والأعناب والليل والنهار والشمس والقمر والنبات والإنسان وكل ما في الكون قد أبدع بنظام دقيق فللشمس مدارها وللقمر مساره ولليل وقته ، وللنهار أوانه لا يتأخر كوكب عن موعده ولا يختل نظام ولا تضطرب حركات الكون : وكل في فلك يسبحون . ( يس : 40 ) .

ثم تحدثت الآيات عن عناد المشركين واستعجالهم بالعذاب غير مصدقين : ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين . ( يس : 48 ) .

وبمناسبة ذلك يستعرض مشهدا من مشاهد القيامة ، يرون فيه مصيرهم الذي به يستعجلون كأنه حاضر تراه العيون .

3- وحي لا شعر :

يشتمل الدرس الثالث على الآيات من 69 على آخر السور ويكاد هذا الفصل يلخص موضوعات السورة كلها فينفى في أوله أن جاءه به محمد صلى الله عليه وسلم شعر وينفى عن الرسول كل علاقة بالشعر أصلا ، ثم يعرض بعض المشاهد واللمسات الدالة على الألوهية المنفردة ، وينعى عليهم اتخاذ آلهة من دون الله يبتغون عندهم النصر وهم الذين يقومون بحماية تلك الآلهة المدعاة ، ويتناول قضية البعث والنشور ، فيذكرهم بالنشأة الأولى من نطفة ، ليروا أن إحياء العظام وهي رميم كتلك النشأة ولا غرابة ويذكرهم بالشجر الأخضر الذي تكون فيه النار وهما في الظاهر بعيدان ، ويخلق السموات والأرض وهذا الخلق شاهد بالقدرة على خلق أمثالهم من البشر في الأولى والآخرة ، وفي ختام السورة نجد برهان القدرة الإلهية والإرادة الربانية فالله مالك كل شيء في الدنيا والآخرة وإليه المآب والمرجع قال تعالى : إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحانه الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون . ( يس : 82-83 ) .

***

بسم الله الرحمن الرحيم

{ يس( 1 ) والقرءان الحكيم( 2 ) إنك لمن المرسلين( 3 ) على صراط مستقيم ( 4 )تنزيل العزيز الرحيم( 5 ) لتنذر قوما ما أنذر ءاباؤهم فهم غافلون( 6 ) لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون( 7 ) إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون( 8 ) وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون( 9 ) وسواء عليهم آنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون( 10 ) إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم( 11 ) إنا نحن نحي الموتى ونكتب ما قدموا وءاثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين( 12 ) }

المفردات :

يس : تقرا ( يا سين ) بعد السين وإظهار النون الساكنة أو بإدغام نون السين في الواو التي بعدها والمراد من هذه الحروف المقطعة : الاستفتاح والتنبيه مثل : ألا ويا والإشارة إلى أن القرآن مؤلف من حروف عربية تنطقون بها وقد عجزتم عن الإتيان بمثله فدل ذلك على أنه ليس من صنع بشر .

1

التفسير :

{ يس }

قال ابن عباس معناها يا إنسان والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم كما يشير إليه الخطاب بعده في قوله تعالى : إنك لمن المرسلين .

وقيل : إن يس اسم من أسمائه صلى الله عليه وسلم فاسمه طه واسمه محمد وأحمد ومزمل ومدثر وبشير ونذير واسمه العاقب الذي لا نبي بعده صلى الله عليه وسلم .

وقيل : إنها حروف للتنبيه يفتتح بها الكلام مثل : ألا ، ويا .

وقيل : إنها حروف للتحدي والإعجاز .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{يسٓ} (1)

ولما كان القلب من الإنسان المقصود بالذات من الأكوان في نحو ثلث بدنه من جهة رأسه ، وكانت الياء في نحو ذلك من حروف " أبجد " فإنها العاشرة منها والسين بذلك المحل من حروف أ ب ت ث فإنها الثانية عشرة منها ، وعلا هذان الحرفان - بما فيهما من الجهر - عن غاية الضعف ونزلا بما لهما من الهمس عن نهاية الشدة ، إشارة إلى أن القلب الصحيح هو الزجاجي الشفاف الجامع بين الصلابة والرقة الذي علا بصلابته عن رقة الماء الذي لا يثبت فيه صورة ، ونزل بلطافته عن قساوة الحجر الذي لا يكاد ينطبع فيه شيء إلا بغاية الجهد ، فكان جامعاً بين الصلابة والرقة متهيئاً لأن تنطبع فيه الصور وتثبت ليكون قابلاً مفيداً ، فيكون متخلفاً من صفات موجدة بالقدرة والاختيار اللذين دلت عليهما سورة الملائكة ، وبمعرفة الخير فيجتلبه والشر فيجتنبه فيكون فيه شاهد من نفسه على الاعتقاد الحق في صانعه ، وكانت المجهورة أقوى فقدمت الياء لجهرها ، وكانتا - بعد اختلاف بالجهر والهمس - قد اتفقتا في الانفتاح والرخاوة والاستفال إشارة إلى أن القلب لا يصلح - كما تقدم - مع الصلابة التي هي في معنى الجهر إلا بالإخبات الذي هو في معنى الهمس ، وبالنزول عن غاية الصلابة إلى حد الرخاوة لئلا يكون حجرياً قاسياً ، بأن يكون فيه انفتاح ليكون مفيداً وقابلاً ، ويكون مستفلاً ليكون إلى ربه بتواضعه واصلاً ، وزادت السين بالصفير الذي فيه شدة وانتشار وقوة لضعفها عن الياء بالهمس فتعادلتا ، ودل صفيرها على النفخ في الصور الذي صرحت به هذه السورة ، ودل جهر الياء على قوته ، ودل كونها من حروف النداء على خروجه عن الحد في الشده حتى تبدو عنه تلك الآثار المخلية للديار ، المفنية للصغار والكبار ، ثم الباغتة لهم من جميع الأقطار ، امتثالاً لأمر الواحد القهار ، وكان مخرجهما من اللسان الذي هو قلب المخارج الثلاثة لتوسطه وكثرة منافعه في ذلك ، وكانت الياء من وسطه والسين من طرفه ، وكان هذان المخرجان ، مع كونهما وسطاً ، مداراً لأكثر الحروف ، هذا مع ما لهما من الأسرار التي تدق عن تصور الأفكار ، قال تعالى : { يس * } وإن كان المعنى : يا إنسان ، فهو قلب الموجودات المخلوقات كلها وخالصها وسرها ولبابها ، وإن أريد : يا سيد ، فهو خلاصة من سادهم ، وإن أريد : يا رجل ، فهو خلاصة البشر ، وإن أريد : يا محمد ، فهو خالصة الرجال الذين هم لباب البشر الذين هم سر الأحياء الذين هم عين الموجودات فهو خلاصة الخلاصة وخيارالخيار وعين القلب ، وكأن من قال معناه محمد نظر إلى الإتحاد في عدد اسمه صلى الله عليه وسلم بالجمل بالنظر إلى الميمين في المشددة وعدد { قلب } وعدد اسمي الحرفين ، ولا يخفى أن الهمزة في اسم الياء ألف ثانية ، فمبلغ عدده اثنا عشر .