ومن ثم يعود بعد هذه اللفتة إلى الحديث عن أولئك المنافقين المطموسين الغافلين ، الذين يخرجون من مجلس رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ولم يعوا مما قال شيئا ينفعهم ويهديهم . ويستجيش قلوبهم للتقوى ، ويذكرهم بما ينتظر الناس من حساب وجزاء :
( فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة ? فقد جاء أشراطها . فأنى لهم - إذا جاءتهم - ذكراهم ? ) .
وهي جذبة قوية تخرج الغافلين من الغفلة بعنف ، كما لو أخذت بتلابيب مخمور وهززته هزا !
ماذا ينتظر هؤلاء الغافلون الذين يدخلون مجالس رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ويخرجون منها ، غير واعين ، ولا حافظين ، ولا متذكرين ? ماذا ينتظرون ? ( فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة ? ) . . فتفجأهم وهم سادرون غارون غافلون .
هل ينظرون إلا الساعة ? ( فقد جاء أشراطها ) . ووجدت علاماتها . والرسالة الأخيرة أضخم هذه العلامات ، فهي إيذان بأنها النذارة الأخيرة قرب الأجل المضروب . وقد قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " بعثت أنا والساعة كهاتين " وأشار بأصبعيه السبابة والتي تليها . وإذا كان الزمن يلوح ممتدا منذ هذه الرسالة الأخيرة ؛ فإن أيام الله غير أيامنا . ولكنها في حساب الله قد جاءت الأشراط الأولى ؛ وما عاد لعاقل أن يغفل حتى تأخذه الساعة بغتة حيث لا يملك صحوا ولا ذكرا :
( فأنى لهم - إذا جاءتهم - ذكراهم ? ) . .
إنها الهزة القوية العنيفة التي تخرج الغافلين من غفلتهم ؛ والتي تتفق كذلك مع طابع السورة العنيف .
18- { فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم } .
متى يتحرك هؤلاء الكفار إلى التوبة والإيمان ، قبل أن يفاجئهم الموت ، إن من مات فقد قامت قيامته ، أي : هل ينتظر هؤلاء الغافلون اللاهون إلا القيامة تفاجئهم ، وتنهي حياتهم فجأة .
فقد جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته من علامات الساعة ، وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( بعثت أنا والساعة كهاتين ) ، وقرن بين أصبعيه الوسطى والسبابة .
وقد جاء في أسماء الرسول صلى الله عليه وسلم أنه نبي التوبة ، ونبي الملحمة ، والحاشر الذي يحشر الناس على قدميه ، والعاقب فلا نبي بعده .
{ فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم } .
من أين لهم إذا جاءتهم الساعة وانقطعت آجالهم ، أن يتذكروا ويستعتبوا ؟ فقد فات أوان ذلك ، وذهب وقت التذكر ، فقد عُمِّروا ما يتذكر فيه من تذكر وجاءهم النذير ، وفي هذا الحث على الاستعداد قبل مفاجأة الموت .
{ فهل ينظرون إلا الساعة . . } أي لم يذكهم بإتيان الساعة ما مضى من أحوال الأمم وما جاء من أخبارها ، فما ينتظرون للتذكر إلا إتيان الساعة نفسها فجأة ؛ إذ لم يبق من الأمور الموجبة للتذكر سوى المفاجأة بها ، فقد ظهرت علامتها ولم يرفعوا لها رأسا ؛ فيكون إتيانها بطريق المفاجأة لا محالة . و " أشراطها " علاماتها ، ومنها بعثته صلى الله عليه وسلم . جمع شرط – بالتحريك – وهو العلامة ، وأصله الإعلام . يقال : أشرط فلان نفسه لكذا ،
أعلمها له وأعدها ؛ ومنه الشرطي – كتركي وجهني – الجمع شرط . سموا بذلك لأنهم أعلموا أنفسهم بعلامات يعرفون بها{ فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم } فكيف لهم التذكر إذا جاءتهم الساعة بغتة ؟ .
{ 18 } { فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ }
أي : فهل ينظر هؤلاء المكذبون أو ينتظرون { إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً } أي : فجأة ، وهم لا يشعرون { فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا } أي : علاماتها الدالة على قربها .
{ فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ } أي : من أين لهم ، إذا جاءتهم الساعة وانقطعت آجالهم أن يتذكروا ويستعتبوا ؟ قد فات ذلك ، وذهب وقت التذكر ، فقد عمروا ما يتذكر فيه من تذكر ، وجاءهم النذير .
ففي هذا الحث على الاستعداد قبل مفاجأة الموت ، فإن موت الإنسان قيام ساعته .
قوله تعالى : { فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتةً } أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن سورة محمد الداودي ، أنبأنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى بن الصلت ، حدثنا أبو إسحاق الهاشمي ، حدثنا الحسين ، أنبأنا الحسن ، أنبأنا ابن المبارك ، أنبأنا معمر بن راشد ، عمن سمع المقبري يحدث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما ينتظر أحدكم من الدنيا إلا غنىً مطفياً ، أو فقراً منسياً ، أو مرضاً مفسداً ، أو هرماً مقيداً ، أو موتاً مجهزاً ، أو الدجال فالدجال شر غائب ينتظر ، أو الساعة والساعة أدهى وأمر " قوله عز وجل : { فقد جاء أشراطها } أي أماراتها وعلاماتها ، وأحدها : شرط ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة .
أخبرني عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أحمد بن المقدام ، حدثنا فضل بن سليمان ، حدثنا أبو حازم ، أنبأنا سهل بن سعد قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قال : " بأصبعيه هكذا ، بالوسطى والتي تلي الإبهام : " بعثت أنا والساعة كهاتين " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا حفص بن عمر الحوضي ، حدثنا هشام ، عن قتادة ، عن أنس قال : لأحدثنكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحدثنكم به أحد غيري ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ، ويكثر الجهل ، ويكثر الزنا ، ويكثر شرب الخمر ، ويقل الرجال ويكثر النساء ، حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا محمد بن سنان ، أنبأنا فليح ، حدثنا هلال بن علي ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم إذ جاءه أعرابي فقال : متى الساعة ؟ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث ، فقال بعض القوم : سمع ما قال فكره ما قال : وقال بعضهم : بل لم يسمع حتى إذا قضى حديثه ، قال : أين السائل عن الساعة ؟ قال : ها أنا يا رسول الله ، قال : فإذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة . قال : كيف إضاعتها ؟ قال :إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة " . قوله عز وجل : { فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم } فمن أين لهم التذكير والاتعاظ والتوبة إذا جاءتهم الساعة ؟ نظيره : { يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى }( الفجر-23 ) .
ولما كان أشد ما يتقى القيامة التي هم بها مكذبون ، سبب عن اتباعهم الهوى قوله تعالى : { فهل ينظرون } أي ينتظرون ، ولكنه جرده{[59585]} إشارة إلى شدة قربها { إلا الساعة } ولما كان كأنه قيل : ما-{[59586]} ينتظرون من أمرها ؟ {[59587]}أبدل منها قوله{[59588]} : { أن تأتيهم } أي تقوم عليهم ، وعبر بالإتيان زيادة في التخويف{[59589]} { بغتة } أي فجاءة من غير شعور بها ولا استعداد لها .
ولما دل ذلك على مزيد القرب ، وكان مجيء علامات الشيء أدل على قربه مع الدلالة على عظمته ، قال معللاً للبغتة{[59590]} : { فقد } {[59591]}ودل على القوة بتذكير الفعل فقال{[59592]} : { جاء أشراطها } أي علاماتها{[59593]} المنذرات بها من مبعث النبي صلى الله عليه وسلم{[59594]} " بعثت أنا والساعة كهاتين " انشقاق القمر المؤذن بآية الشمس في طلوعها من مغربها وغير ذلك ، وما بعد مقدمات الشيء إلا حضوره{[59595]} .
ولما كان المجيء من أهوالها تذكرها{[59596]} قبل حلولها للعمل بما يقتضيه التذكر{[59597]} ، وكانت إذا جاءت شاغلة عن كل شيء ، سبب عن مجيئها قوله تعالى : { فأنّى } أي فكيف ومن أين { لهم{[59598]} إذا جاءتهم } أي الساعة وأشراطها المعينة لها{[59599]} مثل طلوع الشمس من مغربها{[59600]} { ذكراهم{[59601]} * } لأنهم في أشغل الشغل ولو{[59602]} فرغوا لما تذكروا فعملوا{[59603]} ما أفاد لفوات وقت الأعمال وشرطها ، وهو العمل على الإيمان بالغيب ، وهكذا ساعة الإنسان التي تخصه وهي{[59604]} موته وأشراطها{[59605]} الحاثة على الذكرى {[59606]}وهو{[59607]} المرض والشيب ونحو ذلك ، ومن أشراطها المعينة لها التي لا{[59608]} ينفع معها العمل الوصول إلى حد الغرغرة .