والأدب الثاني هو أدبهم مع نبيهم في الحديث والخطاب ؛ وتوقيرهم له في قلوبهم ، توقيرا ينعكس على نبراتهم وأصواتهم ؛ ويميز شخص رسول الله بينهم ، ويميز مجلسه فيهم ؛ والله يدعوهم إليه بذلك النداء الحبيب ؛ ويحذرهم من مخالفة ذلك التحذير الرهيب :
( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ، ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض ، أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ) . .
يا أيها الذين آمنوا . . ليوقروا النبي الذي دعاهم إلى الإيمان . . أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون . . ليحذروا هذا المزلق الذي قد ينتهي بهم إلى حبوط أعمالهم ، وهم غير شاعرين ولا عالمين ، ليتقوه !
ولقد عمل في نفوسهم ذلك النداء الحبيب ، وهذا التحذير المرهوب ، عمله العميق الشديد :
قال البخاري : حدثنا بسرة بن صفوان اللخمي ، حدثنا نافع بن عمر ، عن ابن أبي مليكة . قال : كاد الخيران أن يهلكا . . أبو بكر وعمر رضي الله عنهما . . رفعا أصواتهما عند النبي [ صلى الله عليه وسلم ] حين قدم عليه ركب بني تميم " في السنة التاسعة من الهجرة " فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس - رضي الله عنه - أخي بني مجاشع " أي ليؤمره عليهم " وأشار الآخر برجل آخر . قال نافع : لا أحفظ اسمه " في رواية أخرى أن اسمه القعقاع بن معبد " فقال : أبو بكر لعمر - رضي الله عنهما - ما أردت إلا خلافي . فقال : ما أردت خلافك . فارتفعت أصواتهما في ذلك . فأنزل الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ، ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض ، أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون ) . قال ابن الزبير - رضي الله عنه - : فما كان عمر - رضي الله عنه - يسمع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بعد هذه الآية حتى يستفهمه ! وروي عن أبي بكر - رضي الله عنه - أنه قال لما نزلت هذه الآية : قلت : يا رسول الله ، والله لا أكلمك إلا كأخي السرار " يعني كالهمس ! " .
وقال الإمام أحمد : حدثنا هاشم ، حدثنا سليمان بن المغيرة ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : لما نزلت هذه الآية : يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي - إلى قوله : وأنتم لا تشعرون وكان ثابت بن قيس بن الشماس رفيع الصوت . فقال : أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] أنا من أهل النار . حبط عملي . وجلس في أهله حزينا . ففقده رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فانطلق بعض القوم إليه ، فقالوا له : تفقدك رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] مالك ? قال : أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وأجهر له بالقول . حبط عملي . أنا من أهل النار . فأتوا النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فأخبروه بما قال . فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : " لا . بل هو من أهل الجنة " . قال أنس - رضي الله عنه - : فكنا نراه يمشي بين أظهرنا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة .
فهكذا ارتعشت قلوبهم وارتجفت تحت وقع ذلك النداء الحبيب ، وذلك التحذير الرعيب ؛ وهكذا تأدبوا في حضرة رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] خشية أن تحبط أعمالهم وهم لا يشعرون . ولو كانوا يشعرون لتداركوا أمرهم ! ولكن هذا المنزلق الخافي عليهم كان أخوف عليهم ، فخافوه واتقوه !
لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي : إذا كلمتموه ونطق ونطقتم ، فلا تبلغوا بأصواتكم وراء الحد الذي يبلغه بصوته .
2- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } .
أدب الله المسلمين وأدب العرب والأعراب ، وأدب الدنيا كلها في لزوم الأدب وخفض الصوت ، عند مخاطبة الكبراء والعلماء ، والأنبياء والمرسلين ، وإذا تكلم إنسان في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم في حياته ، أو عند قبره في مماته ، أو عند قراءة الحديث الشريف ، أو القرآن الكريم ، فيجب ألا يرفع صوته فوق صوت النبي ، بل يكون صوت النبي أعلى صوتا ، وأوقع أثرا من صوت المتكلم بحضرته ، وجهر النبي أعلى من جهر المتحدث أو المستفهم بحضرته ، حتى تكون مزية النبي واضحة ، وسابقته ظاهرة ، وامتيازه بينا .
وإذا خاطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجب أن نقول له : يا رسول الله ، أو يا نبي الله ، ولا نخاطبه باسمه مجردا ، مثل يا محمد أو يا أحمد ، أي ينبغي أن يشتمل الخطاب على التعظيم والتوقير والاحترام .
أمر الله بذلك خشية إزعاج النبي وإيلامه ، برفع أصواتنا عليه ، أو عدم اللياقة أو الجلافة في خطابه ، وعندئذ يحبط عمل المتكلم ، ويضيع ثوابه ، ويخسر حسناته ، من حيث لا يعلم ذلك في الدنيا ، بل يعلمه يوم القيامة .
وإذا وصل الجهر بالصوت إلى حد الاستخفاف والاستهانة فذلك كفر ، والعياذ بالله ، فالغرض من الآية أن يكون صوت المؤمن عند خطابه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، خفيضا مناسبا لمقامه وهيبته ، لكن بحيث يسمعه .
ونلحظ أن الله نهانا عن جهر معين فقال : { كجهر بعضكم لبعض . . . } أي : ولا تجهروا له بالقول جهرا مثل جهر بعضكم لبعض .
وفي هذا دليل على أنهم لم ينهوا عن الجهر مطلقا ، حتى لا يسوغ لهم إلا أن يكلموه بالهمس والمخافتة ، وإنما نهوا عن جهر مخصوص مقيد بصفته ، أعني الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه فيما بينهم ، وهو الخلو من مراعاة أبّهة النبوة ، وجلالة مقدارها ، وانحطاط سائر الرتب وإن جلت عن رتبتها . اه .
وقد لاحظنا أن القرآن الكريم حث على توقير الرسول وتعظيمه ، قال تعالى : { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا . . . } ( النور : 63 ) .
وقد دلت آيات من كتاب الله تعالى على أن الله العلي القدير ، لم يخاطب النبي في القرآن باسمه ، وإنما يخاطبه بما يدل على التعظيم كقوله سبحانه :
{ يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا } . ( الأحزاب : 45 ) .
{ يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك . . . } ( المائدة : 67 ) .
{ يا أيها المدثر } . ( المدثر : 1 ) .
مع أنه سبحانه نادى غيره من الأنبياء بأسمائهم ، مثل : { وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة . . . } ( البقرة : 35 ) .
ومثل : { يا نوح اهبط بسلام منا . . . } ( هود : 48 ) .
ومثل : { وناديناه أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيا . . . } ( الصافات : 104 ، 105 ) .
أما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يذكر اسمه مجردا في القرآن في خطاب ، وقد سبق أن ذكرنا أن اسم محمد صلى الله عليه وسلم تكرر أربع مرات في القرآن الكريم هي :
1- { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل . . . } ( آل عمران : 144 ) .
2- { ما كان محمدا أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين . . . } ( الأحزاب : 40 ) .
3- { والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم وأصلح بالهم } . ( محمد : 2 ) .
4- { محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم . . . } ( الفتح : 29 ) .
وكلها ليست خطابا للرسول صلى الله عليه وسلم ، بل هي حديث عنه صلى الله عليه وسلم .
( أ ) قال القاضي أبو بكر بن العربي : حرمة النبي صلى الله عليه وسلم ميتا كحرمته حيا ، وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثل كلامه المسموع من لفظه ، فإذا قرئ كلامه وجب على كل حاضر ألا يرفع صوته عليه ، ولا يعرض عنه ، كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به ، وقد نبه الله تعالى على دوام الحرمة المذكورة على مرور الأزمنة بقوله تعالى :
{ وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا . . . } ( الأعراف : 204 ) .
وكلام النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي ، وله من الحرمة مثل ما للقرآن إلا معاني مستثناة ، بيانها في كتب الفقه4 .
( ب ) النهي المذكور عن رفع الصوت ، هو الصوت الذي لا يناسب ما يهاب به العظماء ، ويوقر الكبراء ، أما الصوت الذي يرفع في حرب أو مجادلة معاند ، أو إرهاب عدو ، ونحو ذلك فليس منهيا عنه ، لأنه لمصلحة ، ففي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال للعباس بن عبد المطلب لما انهزم الناس يوم حنين : ( اصرخ بالناس ) ، وكان العباس أجهر الناس صوتا ، يروى أن غارة أتتهم يوما ، فصاح العباس : يا صباحاه ! فأسقطت الحوامل لشدة صوته .
( ج ) لقد تأدب المسلمون بهذا الأدب الرفيع ، فقال أبو بكر الصديق : والله يا رسول الله لا أكلمك إلا إسرارا أو كأخي السرار . وسلك عمر مثله في خفض صوته ، فكان إذا تكلم عند النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمع كلامه حتى يستفهمه .
وفعل مثل ذلك ثابت بن قيس ، لما نزل قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي . . . } فقد دخل بيته ، وأغلق عليه بابه ، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم ، فأرسل إليه يسأل ما خبره ؟ فقال : أنا رجل شديد الصوت ، وأنا أخاف أن يكون حبط عملي . فقال صلى الله عليه وسلم : ( لست منهم ، بل تعيش حميدا ، وتقتل شهيدا ، وتدخل الجنة )5 .
فتثبت ثباتا حميدا يوم اليمامة في قتال مسيلمة الكذاب ، حتى مات شهيدا ، وترك ذكرا حميدا .
لا ترفعوا أصواتكم : غضّوها وتكلموا بهدوء ولين .
ثم أدّبهم في الآية الثانية في الحديث والخطاب مع رسول الله ، وأن يوقّروه ،
فلا يرفعوا أصواتَهم فوق صوت النبي إذا تكلم ، بل يخفَضوها ولا يتكلّموا معه كما يتكلم بعضهم مع بعض . وأن يتأدبوا في مخاطبته فلا تقولوا : يا محمد ، بل قولوا : يا نبيّ الله ، أو يا رسول الله ، وبكل إجلال وتعظيم ، حتى لا تبطُل أعمالكم وأنتم لا تشعرون .
الأولى- قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " روى البخاري والترمذي عن ابن أبي مليكة قال : حدثني عبد الله بن الزبير أن الأقرع بن حابس قدم على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو بكر : يا رسول الله استعمله على قومه ، فقال عمر : لا تستعمله يا رسول الله ، فتكلما عند النبي صلى الله عليه وسلم حتى ارتفعت أصواتهما ، فقال أبو بكر لعمر : ما أردت إلا خلافي . فقال عمر : ما أردت خلافك ، قال : فنزلت هذه الآية : " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " قال : فكان عمر بعد ذلك إذا تكلم عند النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمع كلامه حتى يستفهمه . قال : وما ذكر ابن الزبير جده يعني أبا بكر . قال : هذا حديث غريب حسن . وقد رواه بعضهم عن ابن أبي مليكة مرسلا ، لم يذكر فيه عن عبد الله بن الزبير .
قلت : هو البخاري ، قال : عن ابن أبي مليكة كاد الخيران أن يهلكا أبو بكر وعمر ، رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم ، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع ، وأشار الآخر برجل آخر ، فقال نافع : لا أحفظ اسمه ، فقال أبو بكر لعمر : ما أردت إلا خلافي . فقال : ما أردت خلافك . فارتفعت أصواتهما في ذلك ، فأنزل الله عز وجل : " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " الآية . فقال ابن الزبير : فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه . ولم يذكر ذلك عن أبيه{[14049]} ، يعني أبا بكر الصديق . وذكر المهدوي عن علي رضي الله عنه : نزل قوله : " لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " فينا لما ارتفعت أصواتنا أنا وجعفر وزيد بن حارثة ، نتنازع ابنة حمزة لما جاء بها زيد من مكة ، فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لجعفر ، لأن خالتها عنده . وقد تقدم هذا الحديث في " آل عمران " {[14050]} .
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس فقال رجل : يا رسول الله ، أنا أعلم لك علمه ، فأتاه فوجده جالسا في بيته منكسا رأسه ، فقال له : ما شأنك ؟ فقال : شر كان{[14051]} يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم فقد حبط عمله وهو من أهل النار . فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه قال كذا وكذا . فقال موسى{[14052]} : فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة ، فقال : ( اذهب إليه فقل له إنك لست من أهل النار ولكنك من أهل الجنة ) ( لفظ البخاري ) وثابت هذا هو ثابت بن قيس بن شماس الخزرجي يكنى أبا محمد بابنه محمد . وقيل : أبا عبد الرحمن . قتل له يوم الحرة{[14053]} ثلاثة من الولد : محمد ، ويحيى ، وعبد الله . وكان خطيبا بليغا معروفا بذلك ، كان يقال له خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما يقال لحسان شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولما قدم وفد تميم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلبوا المفاخرة قام خطيبهم فافتخر ، ثم قام ثابت بن قيس فخطب خطبة بليغة جزلة فغلبهم ، وقام شاعرهم وهوالأقرع بن حابس فأنشد :
أتيناك كَيْمَا يعرفُ الناس فضلَنا *** إذا خلفونا عند ذكرِ المكارم
وإنا رؤوس الناس من كل معشر***وأن ليس في أرض الحجاز كَدَارِمِ
وإن لنا المِرْبَاعُ في كل غارة *** تكون بنجد أو بأرض التَّهَائمِ{[14054]}
بني دارمٍ لا تفخرُوا إن فخركم *** يعود وَبَالاً عند ذكر المكارم
هَبِلْتُم علينا تفخرون وأنتم *** لنا خَوَلٌ من بين ظِئْرٍ وخَادمِ{[14055]}
فقالوا : خطيبهم أخطب من خطيبنا ، وشاعرهم أشعر من شاعرنا ، فارتفعت أصواتهم فأنزل الله تعالى : " لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول " . وقال عطاء الخراساني : حدثتني ابنة ثابت بن قيس قالت : لما نزلت : " يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي " الآية ، دخل أبوها بيته وأغلق عليه بابه ، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه يسأله ما خبره ، فقال : أنا رجل شديد الصوت ، أخاف أن يكون حبط عملي . فقال عليه السلام : ( لست منهم بل تعيش بخير وتموت بخير ) . قال : ثم أنزل الله : " إن الله لا يحب كل مختال فخور " {[14056]} [ لقمان : 18 ] فأغلق بابه وطفق يبكي ، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه فأخبره ، فقال : يا رسول الله ، إني أحب الجمال وأحب أن أسود قومي . فقال : [ لست منهم بل تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة ] . قالت : فلما كان يوم اليمامة خرج مع خالد بن الوليد إلى مسيلمة فلما التقوا انكشفوا ، فقال ثابت وسالم مولى أبي حذيقة : ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم حفر كل واحد منهما له حفرة فثبتا وقاتلا حتى قتلا ، وعلى ثابت يومئذ درع له نفيسة ، فمر به رجل من المسلمين فأخذها ، فبينا رجل من المسلمين نائم أتاه ثابت في منامه فقال له : أوصيك بوصية ، فإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه ، إني لما قتلت أمس مر بي رجل من المسلمين فأخذ درعي ومنزله في أقصى الناس ، وعند خبائه فرس يستن{[14057]} في طوله ، وقد كفأ على الدرع برمة ، وفوق البرمة رحل ، فأت خالدا فمره أن يبعث إلى درعي فيأخذها ، وإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني أبا بكر - فقل له : إن علي من الدين كذا وكذا ، وفلان من رقيقي عتيق وفلان ، فأتى الرجل خالدا فأخبره ، فبعث إلى الدرع فأتى بها وحدث أبا بكر برؤياه فأجاز وصيته . قال : ولا نعلم أحدا أجيزت وصيته بعد موته غير ثابت ، رحمه الله ، ذكره أبو عمر في الاستيعاب .
الثانية- قوله تعالى : " ولا تجهروا له بالقول " أي لا تخاطبوه : يا محمد ، ويا أحمد . ولكن : يا نبي الله ، ويا رسول الله ، توقيرا له . وقيل : كان المنافقون يرفعون أصواتهم عند النبي صلى الله عليه وسلم ، ليقتدي بهم ضعفة المسلمين فنهي المسلمون عن ذلك . وقيل : " لا تجهروا له " أي لا تجهروا عليه ، كما يقال : سقط لفيه ، أي على فيه - " كجهر بعضكم لبعض " الكاف كاف التشبيه في محل النصب ، أي لا تجهروا له جهرا مثل جهر بعضكم لبعض . وفي هذا دليل على أنهم لم ينهوا عن الجهر مطلقا حتى لا يسوغ لهم إلا أن يكلموه بالهمس والمخافتة ، وإنما نهوا عن جهر مخصوص مقيد بصفة ، أعني الجهر المنعوت بمماثلة ما قد اعتادوه منهم فيما بينهم ، وهو الخلو من مراعاة أبهة النبوة وجلالة مقدارها وانحطاط سائر الرتب وإن جلت عن رتبتها . " لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون " أي من أجل أن تحبط ، أي تبطل ، هذا قول البصريين . وقال الكوفيون : أي لئلا تحبط أعمالكم .
الثالثة- معنى الآية الأمر بتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوقيره ، وخفض الصوت بحضرته وعند مخاطبته ، أي إذا نطق ونطقتم فعليكم ألا تبلغوا بأصواتكم وراء الحد الذي يبلغه بصوته ، وأن تغضوا منها بحيث يكون كلامه غالبا لكلامكم ، وجهره باهرا لجهركم ، حتى تكون مزيته عليكم لائحة ، وسابقته واضحة ، وامتيازه عن جمهوركم كشية الأبلق . لا أن تغمروا صوته بلغطكم ، وتبهروا منطقه بصخبكم . وفي قراءة ابن مسعود " لا ترفعوا بأصواتكم " . وقد كره بعض العلماء رفع الصوت عند قبره عليه السلام . وكره بعض العلماء رفع الصوت في مجالس العلماء تشريفا لهم ، إذ هم ورثة الأنبياء .
الرابعة- قال القاضي أبو بكر بن العربي : حرمة النبي صلى الله عليه وسلم ميتا كحرمته حيا ، وكلامه المأثور بعد موته في الرفعة مثال كلامه المسموع من لفظه ، فإذا قرئ كلامه ، وجب على كل حاضر ألا يرفع صوته عليه ، ولا يعرض عنه ، كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به . وقد نبه الله سبحانه على دوام الحرمة المذكورة على مرور الأزمنة بقوله تعالى : " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا " {[14058]} [ الأعراف : 204 ] . وكلامه صلى الله عليه وسلم من الوحي ، وله من الحكمة مثل ما للقرآن ، إلا معاني مستثناة ، بيانها في كتب الفقه .
الخامسة- ليس الغرض برفع الصوت ولا الجهر ما يقصد به الاستخفاف والاستهانة ، لأن ذلك كفر والمخاطبون مؤمنون . وإنما الغرض صوت هو في نفسه والمسموع من جَرْسِه{[14059]} غير مناسب لما يهاب به العظماء ويوقر الكبراء ، فيتكلف الغض منه ورده إلى حد يميل به إلى ما يستبين فيه المأمور به من التعزير والتوقير . ولم يتناول النهي أيضا رفع الصوت الذي يتأذى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو ما كان منهم في حرب أو مجادلة معاند أو إرهاب عدو أو ما أشبه ذلك ، ففي الحديث أنه قال عليه السلام للعباس بن عبد المطلب لما انهزم الناس يوم حنين : ( اصرخ بالناس ) ، وكان العباس أجهر الناس صوتا . يروى أن غارة أتتهم يوما فصاح العباس : يا صاحباه فأسقطت الحوامل لشدة صوته ، وفيه يقول نابغة بني جعدة :
زَجْرُ أبي عُرْوةَ{[14060]} السباعِ إذا *** أشفق أن يختلطن بالغنم
زعمت الرواة أنه كان يزجر السباع عن الغنم فيفتق مرارة السبع في جوفه .
السادسة- قال الزجاج : " أن تحبط أعمالكم " التقدير لأن تحبط ، أي فتحبط أعمالكم ، فاللام المقدرة لام الصيرورة وليس قوله : " أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون " بموجب أن يكفر الإنسان وهو لا يعلم ، فكما لا يكون الكافر مؤمنا إلا باختياره الإيمان على الكفر ، كذلك لا يكون المؤمن كافرا من حيث لا يقصد إلى الكفر ولا يختاره بإجماع . كذلك لا يكون الكافر كافرا من حيث لا يعلم .
ولما ثبت إعظام{[60676]} الرسول صلى الله عليه وسلم بأن لا يفتات عليه {[60677]}بأن يتأهب{[60678]} ما هو وظيفته من التقدم في الأمور وقطع المهمات ، فلا يكلم إلا جواباً أو سؤالاً في أمر ضروري لا يمكن تأخيره ، وكان من يكلمه لذلك ربما رفع صوته رفعاً الأولى به غيره مما هو دونه ، وكان من جملة أحواله أن يوحى إليه بالأمور العظيمة ، وكان رفع الصوت إذ ذاك من المشوشات في حسن التلقي للوحي مع ما فيه من قلة الاحترام والإخلاء بالإجلال والإعظام ، قال ذاكراً لثاني الأقسام ، وهو ما كان النظر فيه إلى مقامه صلى الله عليه وسلم بالقصد الأول ، مستنتجاً مما مضى من وصفه بالرسالة{[60679]} الدالة على النبوة ، آمراً بحفظ حرمته ومراعاة الأدب في خدمته وصحبته بتبجيله{[60680]} وتفخيمه ، وإعزازه وتعظيمه ، مكرراً لندائهم بما ألزموا أنفسهم به من طاعته بتصديقه و{[60681]}استدعاء لتجديد{[60682]} الاستنصار وتطرية الندب إلى الإنصات وإشارة إلى أن المنادى له أمر يستحق أن يفرد بالنداء ويستقل{[60683]} بالتوصية{[60684]} : { يا أيها الذين آمنوا } مكرراً للتعبير بالأدنى من أسنان{[60685]} القلوب للتنبيه على أن فاعل مثل هذه المنهيات والمحتاج فيها إلى التنبيه بالنهي قد فعل من هذا حاله { لا ترفعوا أصواتكم } أي في شيء من الأشياء { فوق صوت النبي } أي الذي يتلقى عن الله ، وتلقيه{[60686]} عنه متوقع في كل وقت ، وهذا يدل على أن أذى{[60687]} العلماء الذين هيأهم الله لتلقي فهم دينه عنه شديد{[60688]} جداً ، فإن تكدير أوقاتهم يمنعهم عن كثير من ذلك .
ولما بين ما في ذلك لأجل النبوة ، بين ما ينبغي في نفسه من المزية فقال : { ولا تجهروا له بالقول } أي إذا كلمتموه سواء كان {[60689]}ذلك بمثل{[60690]} صوته أو أخفض من صوته ، فإن ذلك غير مناسب لما يهاب به العظماء ، ويوقر{[60691]} الكبراء . ولما شمل هذا كل جهر مخصوص ، وهو ما يكون مسقطاً للمزية ، قال : { كجهر بعضكم لبعض } أي فإنكم إن لم تفعلوا ذلك لم يظهر فرق{[60692]} بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين غيره . ولما نهى عن ذلك ، بين ضرره{[60693]} فقال مبيناً أن من الأعمال ما يحبط ولا يدرى أنه محبط ، ليكون العامل كالماشي في طريق خطر لا يزال-{[60694]} يتوقى خطره ويديم حذره : { أن } أي النهي لأجل خشية-{[60695]} أن { تحبط } أي تفسد فتسقط { أعمالكم } أي التي هي-{[60696]} الأعمال بالحقيقة وهي الحسنات كلها { وأنتم لا تشعرون } أي بأنها حبطت ، فإن ذلك إذا اجترأ الإنسان عليه استخف به وإذا استخف به واظب عليه ، وإذا واظب عليه أوشك أن يستخف بالمخاطب فيكفر وهو لا يشعر .