في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{نٓۚ وَٱلۡقَلَمِ وَمَا يَسۡطُرُونَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة القلم مكية وآياتها ثنتان وخمسون

لا يمكن تحديد التاريخ الذي نزلت فيه هذه السورة سواء مطلعها أو جملتها . كما أنه لا يمكن الجزم بأن مطلعها قد نزل أولا ، وأن سائرها نزل أخيرا - ولا حتى ترجيح هذا الاحتمال . لأن مطلع السورة وختامها يتحدثان عن أمر واحد ، وهو تطاول الذين كفروا على شخص رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وقولهم : إنه مجنون !

والروايات التي تقول : إن هذه السورة هي الثانية في النزول بعد سورة العلق كثيرة ، ومن المتفق عليه في ترتيب المصاحف المختلفة أنها هي السورة الثانية ؛ ولكن سياق السورة وموضوعها وأسلوبها يجعلنا نرجح غير هذا . حتى ليكاد يتعين أنها نزلت بعد فترة من الدعوة العامة ، التي جاءت بعد نحو ثلاث سنوات من الدعوة الفردية ، في الوقت الذي أخذت فيه قريش تدفع هذه الدعوة وتحاربها ، فتقول عن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] تلك القولة الفاجرة ؛ وأخذ القرآن يردها وينفيها ، ويهدد المناهضين للدعوة ، ذلك التهديد الوارد في السورة .

واحتمال أن مطلع السورة نزل مبكرا وحده بعد مطلع سورة العلق . وأن الجنون المنفي فيه : ( ما أنت بنعمة ربك بمجنون ) . . جاء بمناسبة ما كان يتخوفه النبي [ صلى الله عليه وسلم ] على نفسه في أول الوحي ، من أن يكون ذلك جنونا أصابه . . هذا الاحتمال ضعيف . لأن هذا التخوف ذاته على هذا النحو ليست فيه رواية محققة ، ولأن سياق السورة المتماسك يدل على أن هذا النفي ينصب على ما جاء في آخرها من قوله تعالى : ( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون : إنه لمجنون ) . . فهذا هو الأمر الذي افتتح السورة بنفيه ، كما يتبادر إلى الذهن عند قراءة السورة المتماسكة الحلقات .

كذلك ذكرت بعض الروايات أن في السورة آيات مدنية من الآية السابعة عشرة إلى نهاية الآية الثالثة والثلاثين . وهي الآيات التي ذكرت قصة أصحاب الجنة وابتلاءهم ، والآيات من الثانية والأربعين إلى نهاية الخمسين وهي التي تشير إلى قصة صاحب الحوت . . ونحن نستبعد هذا كذلك . ونعتقد أن السورة كلها مكية . لأن طابع هذه الآيات عميق في مكيته . وهو أنسب شيء لأن يجيء في سياق السورة عند نزولها متسقا مع الموضوع ومع الحالة التي تعالجها .

والذي نرجحه بشأن السورة كلها أنها ليست الثانية في ترتيب النزول ؛ وأنها نزلت بعد فترة من البعثة النبوية بعد أمر النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بالدعوة العامة . وبعد قول الله تعالى له : ( وأنذر عشيرتك الأقربين ) . وبعد نزول طائفة من القرآن فيها شيء من قصص الأولين وأخبارهم ، التي قال عنها قائلهم : ( أساطير الأولين ) . . وبعدما أصبحت قريش مدعوة إلى الإسلام كافة ، وأصبحت تدفع هذه الدعوة بالاتهامات الباطلة والحرب العنيفة التي اقتضت تلك الحملة العنيفة الواردة في السورة على المكذبين ، والتهديد القاصم في أولها وفي آخرها على السواء . . والمشهد الأخير في السورة يوحي بهذا كذلك : ( وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون : إنه لمجنون ) . . فهو مشهد دعوة عامة لمجموعات كبيرة . ولم يكن الأمر كذلك في أول الدعوة . إنما كانت الدعوة توجه إلى أفراد . بوسيلة فردية . ولا تلقى إلى الذين كفروا وهم متجمعون . ولم يقع شيء من هذا - كما تقول الروايات الراجحة - إلا بعد ثلاث سنوات من بدء الدعوة .

والسورة تشير إلى شيء من عروض المشركين على النبي [ صلى الله عليه وسلم ] للالتقاء في منتصف الطريق ، والتهادن على تراض في القضية التي يختلفون عليها وهي قضية العقيدة : ( ودوا لو تدهن فيدهنون ) . . وظاهر أن مثل هذه المحاولة لا تكون والدعوة فردية ، ولا خطر منها . إنما تكون بعد ظهورها ، وشعور المشركين بخطرها .

وهكذا تتضافر الشواهد على أن هذه السورة نزلت متأخرة عن أيام الدعوة الأولى . وأن هناك ثلاث سنوات على الأقل - قابلة للزيادة - بين بدء الدعوة وبين وقت نزولها . ولا يعقل أن ثلاث سنوات مرت لم يتنزل فيها قرآن . والطبيعي أن تكون هناك سور كثيرة ، وأجزاء من سور قد نزلت في هذه الفترة ، تتحدث عن ذات العقيدة بدون مهاجمة عنيفة للمكذبين بها كالوارد في هذه السورة منذ مطلعها .

ولكن هذا لا ينفي أن تكون هذه السورة وسورتا المدثر والمزمل قد نزلت في الفترة الأولى من الدعوة . وإن لم يكن ذلك أول ما نزل كما هو وارد في المصاحف ، للأسباب التي أوردناها هنا . وهي تكاد تنطبق كذلك على سورتي المزمل والمدثر .

لقد كانت هذه الغرسة - غرسة العقيدة الإسلامية - تودع في الأرض لأول مرة في صورتها الرفيعة المجردة الناصعة . وكانت غريبة على حس الجاهلية السائدة ، لا في الجزيرة العربية وحدها بل كذلك في أنحاء الأرض جميعا .

وكانت النقلة عظيمة بين الصورة الباهتة المحرفة المشوهة من ملة إبراهيم التي يستمسك بخيوط حائلة منها مشركو قريش ، ويلصقون بها الترهات والأساطير والأباطيل السائدة عندهم ، وبين الصورة الباهرة العظيمة المستقيمة الواضحة البسيطة الشاملة المحيطة التي جاءهم بها محمد [ صلى الله عليه وسلم ] متفقة في أصولها مع الحنيفية الأولى - دين إبراهيم عليه السلام - وبالغة نهاية الكمال الذي يناسب كونها الرسالة الأخيرة للأرض ، الباقية لتخاطب الرشد العقلي في البشرية إلى آخر الزمان .

وكانت النقلة عظيمة بين الشرك بالله وتعدد الأرباب ، وعبادة الملائكة وتماثيلها ، والتعبد للجن وأرواحها ، وسائر هذه التصورات المضطربة المفككة التي تتألف منها العقيدة الجاهلية . . وبين الصورة الباهرة التي يرسمها القرآن للذات الإلهية الواحدة وعظمتها وقدرتها ، وتعلق إرادتها بكل مخلوق .

كذلك كانت النقلة عظيمة بين الطبقية السائدة في الجزيرة ، والكهانة السائدة في ديانتها ، واختصاص طبقات بالذات بالسيادة والشرف وسدانة الكعبة والقيام بينها وبين العرب الآخرين . . وبين البساطة والمساواة أمام الله والاتصال المباشربينه وبين عباده كما جاء بها القرآن .

ومثلها كانت النقلة بين الأخلاق السائدة في الجاهلية والأخلاق التي جاء القرآن يبشر بها ، وجاء محمد [ صلى الله عليه وسلم ] يدعو إليها ويمثلها .

وكانت هذه النقلة وحدها كافية للتصادم بين العقيدة الجديدة وبين قريش ومعتقداتها وأخلاقها . ولكن هذه لم تكن وحدها . فقد كان إلى جانبها اعتبارات - ربما كانت أضخم في تقدير قريش من العقيدة ذاتها - على ضخامتها .

كانت هناك الاعتبارات الاجتماعية التي دعت بعضهم أن يقول كما حكى عنهم القرآن الكريم : ( لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ! ) . . والقريتان هما مكة والطائف . فإن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] مع شرف نسبه ، وأنه في الذؤابة من قريش ، لم تكن له مشيخة فيهم ولا رياسة قبل البعثة . بينما كان هناك مشيخة قريش ومشيخة ثقيف وغيرهما ، في بيئة تجعل للمشيخة والرياسة القبلية كل الاعتبار ، فلم يكن من السهل الانقياد خلف محمد [ صلى الله عليه وسلم ] من هؤلاء المشيخة !

وكانت هناك الاعتبارات العائلية التي تجعل رجلا كأبي جهل " عمرو بن هشام " يأبى أن يسلم بالحق الذي يواجهه بقوة في الرسالة الإسلامية ، لأن نبيها من بني عبد مناف . . وذلك كما ورد في قصته مع الأخنس بن شريق وأبي سفيان بن حرب ، حين خرجوا ثلاث ليال يستمعون القرآن خفية ، وهم في كل ليلة يتواعدون على عدم العودة خيفة أن يراهم الناس فيقع في نفوسهم شيء . فلما سأل الأخنس بن شريق أبا جهل رأيه فيما سمع من محمد كان جوابه : " ماذا سمعت ? تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف : أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا . حتى إذا تجاثينا على الركب ، وكنا كفرسي رهان ، قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء . فمتى ندرك مثل هذه ? والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه ! " .

وكانت هناك اعتبارات أخرى نفعية وطبقية ونفسية من ركام الجاهلية في المشاعر والتصورات والأوضاع كلها تحاول قتل تلك الغرسة الجديدة في مغرسها بكل وسيلة قبل أن تثبت جذورها وتتعمق ، وقبل أن تمتد فروعها وتتشابك . وبخاصة بعد أن تجاوزت دور الدعوة الفردية ؛ وأمر الله تعالى نبيه [ صلى الله عليه وسلم ] أن يجهر بالدعوة ؛ وأخذت معالم الدعوة الجديدة تبرز ، كما أخذ القرآن يتنزل بتسفيه عقيدة الشرك وما وراءها من الآلهة المدعاة والتصورات المنحرفة والتقاليد الباطلة .

والرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ولو أنه نبي ، ولو أنه يتلقى من ربه الوحي ، ولو أنه يتصل بالملأ الأعلى . . هو بشر ، تخالجه مشاعر البشر . وكان يتلقى هذه المقاومة العنيفة ، وتلك الحرب التي شنها عليه المشركون ، ويعاني وقعها العنيف الأليم ، هو والحفنة القليلة التي آمنت به على كره من المشركين .

وكان [ صلى الله عليه وسلم ] يسمع والمؤمنون به يسمعون ، ما كان يتقوله عليه المشركون ، ويتطاولون به على شخصه الكريم ، ( ويقولون : إنه لمجنون ) . . ولم تكن هذه إلا واحدة من السخريات الكثيرة ، التي حكاها القرآن في السور الأخرى ؛ والتي كانت توجه إلى شخصه [ صلى الله عليه وسلم ] وإلى الذين آمنوا معه . وغير الأذى الذي كان يصيب الكثيرين منهم على أيدي أقربائهم الأقربين !

والسخرية والاستهزاء - مع الضعف والقلة - مؤذيان أشد الإيذاء للنفس البشرية ، ولو كانت هي نفس رسول .

ومن ثم نرى في السور المكية - كسور هذا الجزء - أن الله كأنما يحتضن - سبحانه - رسوله والحفنة المؤمنة معه ، ويواسيه ويسري عنه ، ويثني عليه وعلى المؤمنين . ويبرز العنصر الأخلاقي الذي يتمثل في هذه الدعوة وفي نبيها الكريم . وينفي ما يقوله المتقولون عنه ، ويطمئن قلوب المستضعفين بأنه هو يتولى عنهم حرب أعدائهم ، ويعفيهم من التفكير في أمر هؤلاء الأعداء الأقوياء الأغنياء !

ونجد من هذا في سورة القلم مثل قوله تعالى عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] :

( ن . والقلم وما يسطرون . ما أنت بنعمة ربك بمجنون . وإن لك لأجرا غير ممنون . وإنك لعلى خلق عظيم ) . .

وقوله تعالى عن المؤمنين :

إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم . أفنجعل المسلمين كالمجرمين ? مالكم ? كيف تحكمون ? ! . .

ويقول عن أحد أعداء النبي البارزين :

( ولا تطع كل حلاف مهين . هماز مشاء بنميم . مناع للخير معتد أثيم . عتل بعد ذلك زنيم . أن كان ذا مال وبنين . إذا تتلى عليه آياتنا قال : أساطير الأولين . سنسمه على الخرطوم ! ) . .

ثم يقول عن حرب المكذبين عامة :

( فذرني ومن يكذب بهذا الحديث . سنستدرجهم من حيث لا يعلمون . وأملي لهم إن كيدي متين ) . .

وذلك غير عذاب الآخرة المذل للمتكبرين :

يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون . خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة . وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون . .

ويضرب لهم أصحاب الجنة - جنة الدنيا - مثلا على عاقبة البطر تهديدا لكبراء قريش المعتزين بأموالهم وأولادهم ممن لهم مال وبنون ؛ الكائدون للدعوة بسبب مالهم من مال وبنين .

وفي نهاية السورة يوصي النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بالصبر الجميل : ( فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت . . ) .

ومن خلال هذه المواساة وهذا الثناء وهذا التثبيت ، مع الحملة القاصمة على المكذبين والتهديد الرهيب ، يتولى الله - سبحانه - بذاته حربهم في ذلك الأسلوب العنيف . . من خلال هذا كله نتبين ملامح تلك الفترة ، فترة الضعف والقلة ، وفترة المعاناة والشدة ، وفترة المحاولة القاسية لغرس تلك الغرسة الكريمة في تلك التربة العنيدة !

كذلك نلمح من خلال أسلوب السورة وتعبيرها وموضوعاتها ملامح البيئة التي كانت الدعوة الإسلامية تواجهها . وهي ملامح فيها سذاجة وبدائية في التصور والتفكير والمشاعر والاهتمامات والمشكلات على السواء .

نلمح هذه السذاجة في طريقة محاربتهم للدعوة بقولهم للنبي [ صلى الله عليه وسلم ] ( إنه لمجنون ) !

وهو اتهام لا حبكة فيه ولا براعة ، وأسلوب من لايجد إلا الشتمة الغليظة يقولها بلا تمهيد ولا برهان ، كما يفعل السذج البدائيون .

ونلمحها في الطريقة التي يرد الله بها عليهم فريتهم ردا يناسب حالهم : ( ما أنت بنعمة ربك بمجنون . وإن لك لأجرا غير ممنون . وإنك لعلى خلق عظيم . فستبصر ويبصرون . بأيكم المفتون ) . . وكذلك في التهديد المكشوف العنيف : ( فذرني ومن يكذب بهذا الحديث . سنستدرجهم من حيث لا يعلمون . وأملي لهم إن كيدي متين ) . .

ونلمحها في رد هذا السب على رجل منهم : ( ولا تطع كل حلاف مهين . هماز مشاء بنميم . مناع للخير معتد أثيم . عتل بعد ذلك زنيم . . . ) .

ونلمحها في القصة - قصة أصحاب الجنة - التي ضربها الله لهم . وهي قصة قوم سذج في تفكيرهم وتصورهم وبطرهم ، وفي حركاتهم كذلك وأقوالهم ( وهم يتخافتون . ألا يدخلنها اليوم عليكم مسكين . . الخ ) .

وأخيرا نلمح سذاجتهم من خلال ما يوجهه إليهم من الجدل : ( أم لكم كتاب فيه تدرسون : إن لكم فيه لما تخيرون ? أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون ? سلهم أيهم بذلك زعيم ? ) . . .

وهي ملامح تظهر بوضوح من خلال التعبير القرآني ، وتفيد في دراسة السيرة ووقائعها وخطوات الدعوة فيها ؛ ومدى ما ارتفع القرآن بعد ذلك بهذه البيئة وبتلك الجماعة في أواخر عهد الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ومدى ما نقلها من هذه السذاجة في التفكير والتصور والشعور والاهتمام . كما يتضح في أساليب الخطاب فيما بعد ، وفي الحقائق والمشاعر والتصورات والاهتمامات بعد عشرين عاما لا تزيد . وهي في حياة الأمم ومضة لا تذكر . ولا تقاس إليها تلك النقلة الواسعة الشاملة . . التي انتقلتها الجماعة في هذا الوقت القصير . والتي تسلمت بها قيادة البشرية فارتفعت بتصوراتها وأخلاقها إلى القمة التي لم ترتفع إليها قيادة قط في تاريخ البشرية ، لا من ناحية طبيعة العقيدة ، ولا من ناحية آثارها الواقعية في حياة الإنسان في الأرض ، ولا من ناحية السعة والشمول لتضم الإنسانية كلها بين جوانحها في سماحة وعطف ، وفي تلبية لكل حاجاتها الشعورية ، وحاجاتها الفكرية ، وحاجاتها الاجتماعية ، وحاجاتها التنظيمية في شتى الميادين . .

إنها المعجزة تتجلى في النقلة من هذه السذاجة التي تبدو ملامحها من خلال مثل هذه السورة إلى ذلك العمق والشمول . وهي نقلة أوسع وأكبر من تحول القلة إلى كثرة ، والضعف إلى قوة ، لأن بناء النفوس والعقول أعسر من بناء الأعداد والصفوف .

( ن ، والقلم وما يسطرون . ما أنت بنعمة ربك بمجنون . وإن لك لأجرا غير ممنون . وإنك لعلى خلق عظيم . فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون . إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله ، وهو أعلم بالمهتدين . فلا تطع المكذبين . ودوا لو تدهن فيدهنون . ولا تطع كل حلاف مهين . هماز مشاء بنميم . مناع للخير معتد أثيم . عتل بعد ذلك زنيم . أن كان ذا مال وبنين . إذا تتلى عليه آياتنا قال : أساطير الأولين . سنسمه على الخرطوم ) . .

يقسم الله - سبحانه - بنون ، وبالقلم ، وبالكتابة . والعلاقة واضحة بين الحرف " نون " . بوصفه أحد حروف الأبجدية وبين القلم ، والكتابة . . فأما القسم بها فهو تعظيم لقيمتها ، وتوجيه إليها ، في وسط الأمة التي لم تكن تتجه إلى التعلم عن هذا الطريق ، وكانت الكتابة فيها متخلفة ونادرة ، في الوقت الذي كان دورها المقدر لها فيعلم الله يتطلب نمو هذه المقدرة فيها ، وانتشارها بينها ، لتقوم بنقل هذه العقيدة وما يقوم عليها من مناهج الحياة إلى أرجاء الأرض . ثم لتنهض بقيادة البشرية قيادة رشيدة . وما من شك أن الكتابة عنصر أساسي في النهوض بهذه المهمة الكبرى .

ومما يؤكد هذا المفهوم أن يبدأ الوحي بقوله تعالى : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . اقرأ وربك الأكرم . الذي علم بالقلم . علم الإنسان ما لم يعلم ) . . وأن يكون هذا الخطاب موجها للنبي الأمي - الذي قدر الله أن يكون أميا لحكمة معينة - ولكنه بدأ الوحي إليها منوها بالقراءة والتعليم بالقلم . ثم أكد هذه اللفتة هنا بالقسم بنون ، والقلم وما يسطرون . وكان هذا حلقة من المنهج الإلهي لتربية هذه الأمة وإعدادها للقيام بالدور الكوني الضخم الذي قدره لها في علمه المكنون .

يقسم الله - سبحانه - بنون والقلم وما يسطرون ، منوها بقيمة الكتابة معظما لشأنها كما أسلفنا لينفي عن رسوله [ صلى الله عليه وسلم ] تلك الفرية التي رماه بها المشركون ، مستبعدا لها ، ونعمته على رسوله ترفضها .

 
تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{نٓۚ وَٱلۡقَلَمِ وَمَا يَسۡطُرُونَ} (1)

مقدمة السورة:

أهداف سورة القلم .

( سورة القلم مكية ، وآياتها 52 آية ، نزلت بعد سورة العلق )

وتشير الروايات إلى أنها من أوائل السور التي نزلت من القرآن ، ونلمح من سياق السورة أنها نزلت بعد الجهر بالدعوة الإسلامية في مكة ، حيث تعرض النبي الأمين صلى الله عليه وسلم للاتهام بالجنون ، فنزلت السورة تنفي عنه هذه التهمة ، وتصف مكارم أخلاقه ، وتتهدد المكذبين ، وتذكر قصة أصحاب الجنة الذين منعوا زكاة الثمار والفاكهة ، فأهلك الله جنتهم ، وكذلك يهلك كل كافر معاند ، وتوجهت السورة إلى أهل مكة بهذا الاستفهام الإنكاري : أفنجعل المسلمين كالمجرمين . ( القلم : 35 ) . هل يستوي المستقيم والفاجر ؟ أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون . ( القلم : 46 ) . هل تطلب منهم أجرا كبيرا على تبليغ الرسالة ، فلا يستطيعون أداءه ولذلك يتثاقلون عن اتباعك ؟

ثم تذكر السورة طرفا من قصة يونس عليه السلام من باب التسلية والاعتبار ، وتختم السورة ببيان حقد الكافرين وحسدهم ، حتى أن عيونهم ينبعث منها شرار الحسد والغيظ ، ويتهمون النبي صلى الله عليه وسلم بالجنون ، وما يحمل إلا الذكر والهداية للعالمين .

مع آيات السورة

1- أقسم الله بالقلم والدواة والكتابة ، ليدل على عظيم شأنها في نشر الرسالات والدعوات والعلم والمعرفة ، وكانت أول آية من القرآن : اقرأ باسم ربك الذي خلق . ( العلق : 1 ) .

2 ، 3- نفى القرآن عن النبي صلى الله عليه وسلم الاتهام الكاذب بالجنون ، ثم أثبت أن له أجرا كاملا غير منقوص على تبليغ الرسالة .

4-ومدحه الله بحسن الخلق ، فقال سبحانه : وإنك لعلى خلق عظيم . ( القلم : 4 ) . لقد كان خلقه القرآن ، وكان جامعا للصفات الكريمة ، والقدوة الحسنة ، فقد اتصف بالفصاحة والشجاعة والكرم والحلم ، والأدب والعفة والنزاهة والأمانة ، والصدق والرحمة والتسامح واللين وحسن المعاملة .

وكان صلى الله عليه وسلم حسن الصورة ، معتدل البناء ، جياش العواطف ، قويا في دين الله ، حريصا على تبليغ الرسالة ، قائدا ومعلما ومربيّا وموجها ، أمينا على وحي السماء .

وكانت عظمة أخلاقه في أنه تمثل القرآن سلوكا وهديا وتطبيقا ، فكان قرآنا متحركا ، يجد فيه الصحابة القدوة العملية ، والتطبيق الأمين للوحي ، فيقتدون بخلقه وعمله وهديه وسلوكه .

لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا . ( الأحزاب : 21 ) .

5 ، 6- فسيكشف الغد عن حقيقة النبي وحقيقة مكذبيه ، ويثبت أيهم الممتحن بما هو فيه ، وأيهم الضالّ فيما يدعيه ، وستبصر ويبصرون غلبة الإسلام ، واستيلاءك عليهم بالقتل والأسر ، وهيبتك في أعين الناس أجمعين ، وصيرورتهم أذلاء صاغرين .

7- إن ربك هو الذي أوحى إليك ، فهو يعلم أنك المهتدي ، والمكذب بك ضال عن طريق الهدى ، وسيجازي كل إنسان بحسب ما يستحق .

8 ، 9- وقد ساوم الكفار النبي صلى الله عليه وسلم ، وعرضوا عليه أن يعبدوا إلهه يوما وأن يعبد آلهتهم يوما ، فيصيب كل واحد بحظه من إله الآخر : فنزل قوله تعالى : قل يا أيها الكافرون* لا أعبد ما تعبدون . ( الكافرون : 1 ، 2 ) .

وفي كتب السيرة : أن الكفار حرّضوا أبا طالب على أن يكفّ عنهم محمدا ، وأن ينهاه عن عيب آلهتهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمّه : ( والله لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في يساري ، على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه ) .

وقد نزل الوحي ينهاه عن طاعة المكذبين ، وينهاه عن قبول المساومة أو الحل الوسط ، فإما إيمانا أو لا إيمان : ودّوا لو تدهن فيدهنون . ( القلم : 9 ) . والإدهان هو اللين والمصانعة ، أي : ودّ المشركون لو تلين لهم في دينك بالركون إلى آلهتهم ، وتتخلى عن مهاجمتها ، حتى يتركوا خصامك وجدالك .

10-13- نزلت هذه الآيات في الوليد بن المغيرة ، وقيل : في الأخنس بن شريق ، وكلاهما كان ممن خاصموا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولجّوا في حربه ، والآيات تصف هذا الكافر بتسع صفات كلها ذميم :

1- فهو حلاّف ، كثير الحلف .

2- مهين ، لا يحترم نفسه ولا يحترم الناس قوله .

3- همّاز ، يهمز الناس ويعيبهم بالقول والإشارة .

4- مشاء بنميم ، يمشي بين الناس بالنميمة والفتنة والفساد .

5-منّاع للخير ، بخيل ممسك ، وكان يمنع الناس من الإيمان ، ويهدد من يحس منه الاستعداد للإيمان .

6- معتد ، متجاوز للحق والعدل ، ثم هو معتد على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين .

7- أثيم ، كثير الآثام ، لا يبالي بما ارتكب ولا بما اجترح .

8- عتل بعد ذلك ، جامع للصفات المذمومة ، وهو فظّ غليظ جاف .

9- زنيم ، أي لصيق في قومه متهم في نسبه ، أو معروف بالشرور والآثام .

14- 16- تذكر هذه الآيات موقفه من دين الله ، وجحوده بنعمة الله عليه ، فلأنه صاحب مال وولد ، إذا تلي عليه القرآن استهزأ بآياته ، وسخر من الرسول ، وهذه وحدها تعدل كل ما مرّ من وصف ذميم ، سنسمه على الخرطوم . ( القلم : 16 ) . أي : سنجعل له سمة وعلامة على أنفه ، والمراد أنا سنبين أمره بيانا واضحا حتى لا يخفى على أحد ، أو سنذله في الدنيا غاية الإذلال ، ونجعله ممقوتا مذموما مشهورا بالشر .

قصة أصحاب الجنة

تتناول الآيات ( 17-33 ) قصة أصحاب الجنة ، وهم قوم ورثوا عن أبيهم بستانا جميلا مثمرا يانعا ، وكان أبوهم يخرج زكاة البستان ، ويوزع مقدارا منه على الفقراء والمساكين ، فعاقبهم الله بهلاك البستان ، وكذلك يعاقب الكافرين يوم القيامة ، وقد عرضتها الآيات عرضا رائعا يمثل خطوات القصة ، وضعف تدبير الإنسان أمام تدبير الله الواحد الديان ، فلنسر مع الآيات :

17 ، 18- لقد استقر رأس أصحاب الجنة أن يقطعوا ثمرها عند الصباح ، دون أن يستثنوا منه شيئا للمساكين ، وأقسموا على هذا ، وعقدوا النية عليه .

19 ، 20- فطرق تلك الجنة طارق من أمر الله ليلا وهم نيام : فأصبحت كالصّريم . ( القلم : 20 ) . أي كالبستان الذي صرمت ثماره أي قطعت ، كأنها مقطوعة الثمار ، فقد ذهب الطائف الذي طاف عليها بكل ثمرها .

21-24- فنادى بعضهم بعضا في الصباح ، وانطلقوا يتحدثون في خفوت ، زيادة في إحكام التدبير ، ويوصى بعضهم بعضا بأن يحتجزوا الثمر كله ، ويحرموا منه المساكين .

25- وغدوا مصممين على حردi المساكين ومنعهم وحرمانهم ، قادرين عند أنفسهم على المنع وحجب منفعتها على المساكين .

26 ، 27- فلما شاهدوا بستانهم ورأوه محترقا أنكروه ، وشكوا فيه وقالوا : أبستاننا هذا أم نحن ضالون طريقه ؟ ثم تيقنوا أنه بستانهم وقد حاق بهم الحرمان والندم .

28- 32- وبعد أن حدث ما حدث ألقى كل منهم تبعة ما وقع على غيره ، وتشاحنوا ، ثم تركوا التلاوم ، واعترفوا بالخطيئة أما العاقبة الرديئة ، عسى أن يغفر الله لهم ، ويعوضهم عن الجنة الضائعة .

33- هكذا عذاب من خالف أمر الله ، وبخل بما آتاه ، وأنعم به عليه ، ومنع حق البائس الفقير ، وفي الآخرة عذاب أكبر من هذا العذاب ، لكل جاحد بنعمة الله ، ولكل مكذب بالدين والإيمان ، فليعلم ذلك المشركون وأهل مكة ، وليحذروا عاقبة كفرهم وعنادهم .

والقصة مسوقة لغاية معينة هي بيان عاقبة الجحود ومنع حق الله ، إنها عاقبة سيئة في الدنيا وفي الآخرة ، وفي القصة تهديد للكافرين ، وعظة للمؤمنين .

34- وفي مقابل ما أعد للكافرين ، بيان بالنعيم الذي أعد للمتقين .

35- 47- وعند هاتين الخاتمتين يدخل القرآن معهم في جدل لا تعقيد فيه ولا تركيب ، ويتحداهم ويحرجهم بالسؤال تلو السؤال ، عن أمور ليس لها إلا جواب واحد تصعب فيه المغالطة ، ويهددهم في الآخرة بمشهد رهيب ، وفي الدنيا بحرب من العزيز الجبار القوي الشديد .

48 -50- توجه الآيات النبي الكريم صلى الله عليه وسلم إلى الصبر على تكاليف الرسالة ، والصبر على الأذى والتكذيب ، وتذكر له تجربة أخ له من قبل ضاق صدره بتكذيب قومه ، وهو يونس عليه السلام .

قصة يونس

أرسل الله يونس بن متى عليه السلام ، إلى أهل قرية نينوى بجوار مدينة الموصل بالعراق ، فاستبطأ إيمانهم وشق عليه تلكؤهم ، وضاق صدره بتكذيبهم ، فهجرهم مغاضبا لهم ، قاده الغضب إلى شاطئ البحر ، حيث ركب سفينة مع آخرين ، فلما كانوا في وسط اللجّة ثقلت السفينة وتعرضت للغرق ، فأقرعوا بين الركاب للتخفف من واحد منهم ، لتخفّ السفينة ، فكانت القرعة على يونس ، فألقوه في اليمّ ، فابتلعه الحوت ، عندئذ نادى يونس ، وهو مكظوم . ( القلم : 48 ) . مملوء غيظا ، لوقوعه في كرب شديد ، في ظلمات البحر ، وفي بطن الحوت ، وفي وسط اللجّة ، نادى ربه : أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين . ( الأنبياء : 87 ) . فتداركه نعمة من ربه ، فنبذه الحوت على الشاطئ مريضا سقيما ، ثم يسر الله له الأمور ، واصطفاه وأوحى إليه ، وأرسله إلى مائة ألف يزيدون فآمنوا به ، وجعله الله من الصالحين ، حيث رّ إليه الوحي ، وشفعه في نفسه وقومه .

50- 52- وفي ختام السورة مشهدا للكافرين ، وهم يتلقون الدعوة من الرسول الكريم في غيظ عنيف ، وحسد عميق ، ينسكب في نظرات مسمومة قاتلة يوجهونها إليه .

قال جار الله الزمخشري :

وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون . ( القلم : 51 ) . يعني أنهم من شدة تخوفهم ، ونظرهم إليك سرّا بعيون العداوة والبغضاء ، يكادون يزلون قدمك ، أو يهلكونك ، من قولهم : نظر إليّ نظرا يكاد يصرعني ، أو يكاد يأكلني ، أي لو أمكنه بنظره الصرع أو الأكل لفعله .

وعن الحسن : دواء الإصابة بالعين أن تقرأ هذه الآية ، وقد كان الكفار يريدون إصابة النبي صلى الله عليه وسلم بعيونهم وحسدهم ، فعصمه الله تعالى وأنزل عليه الآية .

وقد صح في الحديث من عدة طرق : ( إن العين لتدخل الرجل القبر ، والجمل القدر )ii .

وروى الإمام أحمد ، عن أبي ذر مرفوعا : ( إن العين لتولع بالرجل بإذن الله حتى يصعد حالقا ثم يتردى منه )iii .

ومما يحفظ المؤمن من الحسد خمسة أشياء ، هي :

1- قراءة : قل أعوذ برب الفلق ، وقل أعوذ برب الناس .

2- إخراج صدقة .

3- قراءة : ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وله الملك وله الحمد ، يحيي ويميت ، وهو على كل شيء قدير ) عشر مرات بعد صلاة المغرب ، وعشر مرات بعد صلاة الصبح .

4- قراءة قوله تعالى : وإن يكاد الذي كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون . ( القلم : 51 ) .

5- وأهم شيء في الوقاية من حسد ، الثقة الكاملة والاعتقاد اليقيني بأن الله هو النافع الضار ، وأن أحدا لن ينفعك إلا بإذن الله ، ولن يضرك إلا بمشيئة الله .

المعنى الإجمالي للسورة

بيان محاسن الأخلاق النبوية ، سوء أخلاق بعض الكفار ، وعذاب مانعي الزكاة ، وضرب المثل بقصة أصحاب الجنة ، وتقريع المجرمين وتوبيخهم وإقامة الحجة عليهم ، وتهديد المشركين المكذبين بالقرآن ، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالصبر ، والإشارة إلى حال يونس عليه السلام في قلة الصبر على قومه ، وقصد الكفار رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصيبوه بالعين في قوله : وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون . ( القلم : 51 ) .

أسماء السورة :

للسورة اسمان : سورة ( ن ) ، وسورة القلم .

والاسم الثاني أشهر من الأول .

***

تمهيد

تفيد كتب علوم القرآن الكريم أن سورة القلم من أوائل من نزل من القرآن الكريم ، فأول سورة من القرآن الكريم نزلت هي سورة العلق ، وفي صدر السورة حثّ على القراءة والعلم ، وكذلك سورة القلم فيها مدح للكتابة والتعليم ، وفيها قسم بالقلم والكتابة والتسطير ، لبيان أهمية ذلك في تبليغ الدعوة الإسلامية ، وارتفاع شأن الأمّة .

وقد اختار الله رسوله أميا لحكمة عليا : حتى لا يرتاب المبطلون ، ولا يظن الظانون أنه نقل القرآن من الكتب السابقة ، وهذا النبي الأمي علّم الناس الوحي ، وارتقى بأمّته من الجهل والتدابر إلى العلم والتواصل .

وإذا كان صدر سورة القلم قد نزل مبكرا ، فإن بقية السورة نزلت بعد ذلك ، ويرجّح الأستاذ سيد قطب في تفسيره ( في ظلال القرآن ) أن السورة نزلت تهاجم الكافرون وتهددهم ، وذلك يوضّح أن تاريخ نزولها كان بعد الجهر بالدعوة ، أي بعد ثلاث سنوات من مرحلة الإسرار بالدعوة .

الخلق العظيم

بسم الله الرحمان الرحيم

{ ن ، والقلم وما يسطرون 1 ما أنت بنعمة ربك بمجنون 2 وإن لك لأجرا غير ممنون 3 وإنك لعلى خلق عظيم 4 فستبصر ويبصرون 5 بأييّكم المفتون 6 إن ربك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين 7 }

المفردات :

ن : حروف أقسم الله بها ، أو استفتح بها السور ، أو هي للتحدّي والإعجاز ، أو هي كالجرس الذي يقرع فيتنبه التلاميذ لدخول المدرسة ، أو هي إشارة إلى أسماء الله تعالى أو صفاته .

يسطرون : يكتبون .

1

التفسير :

1- ن والقلم وما يسطرون .

أقسم الله تعالى ببعض الحروف التي افتتح بها بعض سور القرآن الكريم ، مثل : ن ص ، حم ، طسم ، المر ، المص ، حم عسق ، كهيعص .

وهي حروف يقصد بها التحدّي والإعجاز ، وبيان أن القرآن مكوّن من حروف عربية تنطقون بها ، وقد عجزتم عن الإتيان بمثله ، فدل ذلك على أنه ليس من صنع بشر ، ولكنه تنزيل من عليم حكيم .

وقيل : هي أدوات للتنبيه ، كالجرس الذي يقرع فيتنبه التلاميذ لدخول المدرسة .

والقلم .

أقسم الله بالقلم ، وهو وسيلة الكتابة وأداة التعليم ، تحريرا لنا من الأمّية ، وتوجيها لنا إلى فضل العلم وأهمية الكتابة ، حتى قال القائل :

تعلم العلم واقرأ *** تحز فخار النبوّة

فالله قال ليحيى *** خذ الكتاب بقوّة

ويمكن أن يراد بالقلم أيضا ، القلم الذي يكتب به الملائكة ما في اللوح المحفوظ ، ويسجّلون به في صحائفهم أعمال الناس .

إن ديننا العلم والكتابة ، والتسابق العلمي والفكري ، ومن واجب الأمة الإسلامية أن تتسابق في ميادين العلم النظري والعملي والديني ، ليعود لها مجدها وعزّها .

قال تعالى : قل هل يستوي الذي يعلمون والذين لا يعملون . . . ( الزمر : 9 ) .

وقال سبحانه وتعالى : شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم . . . ( آل عمران : 18 ) .

وقال سبحانه وتعالى : وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون . ( العنكبوت : 43 ) .

وما يسطرون .

وما يكتب بالقلم ، وما يسطّر به من الكتب .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{نٓۚ وَٱلۡقَلَمِ وَمَا يَسۡطُرُونَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة القلم مكية وآياتها ثنتان وخمسون ، نزلت بعد سورة العلق . ويستبعد المرحوم سيد قطب أنها نزلت بعد سورة اقرأ ، فيقول : " والذي نرجّحه بشأن هذه السورة أنها ليست الثانية في ترتيب النزول ، وأنها نزلت بعد فترة من البعثة النبوية ، بعد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة العامة ، وبعد قوله تعالى : { وأنذر عشيرتك الأقربين } 214 الشعراء . وبعد نزول طائفة من القرآن فيها شيء من قصص الأولين وأخبارهم . . . " ويقدّر أنها نزلت بعد ثلاث سنوات من الدعوة .

والسورة تُعنى بالدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعث همته ، وتقوية عزيمته ، ليبقى متمسكا بالحق من غير ملاينة فيه لأحد ، بعد أن تُثبت له الأجر العظيم ، والخُلق العظيم وتثبته بقوله تعالى : { فستبصر ويبصرون ، بأيكم المفتون } . . . .

ثم قوّت عزيمته حول موقف المجرمين من دعوته ، وما أعد لهم من العذاب { فلا تطع المكذبين ، ودّوا لو تدهن فيدهنون ، ولا تطع كل حلاّف مهين . . . } .

ثم ضربت مثلا لكفار مكة في جحودهم وكفرانهم نعمة الله العظمى ، ببعثه الرسول العظيم إليهم ، رحمة وتشريفا لهم لأنه منهم ، وشبهت ما وقع لأهل مكة من العذاب ، بما وقع لأصحاب الجنة البخلاء ، الذين حذر بعضهم بعضا بقولهم : { أن لا يدخلنّها اليوم عليكم مسكين } ، وساروا إليها في أول النهار ، وهم على هذه النية السيئة ، فلما وصلوا إليها وإذا بها محترقة خاوية على عروشها ، فلما رأوها كذلك { قالوا إنا لضالون } .

ثم بشرت المؤمنين بما لهم عند ربهم من جنات ونعيم ، { أفنجعل المسلمين كالمجرمين ، ما لكم كيف تحكمون } . ثم أنكرت على المكذبين ما يدعونه لأنفسهم بغير حق ، وعمدت إلى تخويفهم بوصف حالهم في الآخرة ، وتهديدهم ، ثم إلى النصح لرسول الله بالصبر والاحتمال { فاصبر لحكم ربك . . . } ثم ختمت السورة بتمجيد القرآن الكريم ، وأن دعوته صلى الله عليه وسلم للعالمين أجمعين .

وما يسطرون : وما يكتبون .

ن : حرف من حروف المعجم التي بُدئت بها بعض السور ، وقد تقدّم الكلام عليها .

أقسَم اللهُ تعالى بالقلم وما يُسطَر من الكتب ، وفي هذا تعظيمٌ للقلم والكتابة والعِلم الذي جاء به الإسلام وحثّ عليه من أول آية نزلت { اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ . . . . } [ العلق : 1 ] .

يقسم الله تعالى بنون والقلم وما يسطرون ، منوّهاً بقيمة الكتابة معظّماً لشأنها .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{نٓۚ وَٱلۡقَلَمِ وَمَا يَسۡطُرُونَ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة ن وهي مكية .

{ 1 - 7 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ * فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }

يقسم تعالى بالقلم ، وهو اسم جنس شامل للأقلام ، التي تكتب بها [ أنواع ] العلوم ، ويسطر بها المنثور والمنظور .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{نٓۚ وَٱلۡقَلَمِ وَمَا يَسۡطُرُونَ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

سورة القلم: سورة ن، مكية.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

سورة ن و القلم...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

وهي مكية، ولا خلاف فيها بين أحد من أهل التأويل...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

مقصودها:

إظهار ما استتر، وبيان ما أبهم في آية "فستعلمون من هو في ضلال مبين " بتعيين المهتدي الذي برهن على هدايته حيازته العلم الذي هو النور الأعظم، الذي لا يضل بمصاحبته بتقبل القرآن والتخلق بالفرقان، الذي هو صفة الرحمن بقدر الإمكان الذي تصل إليه قوة الإنسان.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

لا يمكن تحديد التاريخ الذي نزلت فيه هذه السورة سواء مطلعها أو جملتها. كما أنه لا يمكن الجزم بأن مطلعها قد نزل أولا، وأن سائرها نزل أخيرا -ولا حتى ترجيح هذا الاحتمال. لأن مطلع السورة وختامها يتحدثان عن أمر واحد، وهو تطاول الذين كفروا على شخص رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وقولهم: إنه مجنون!... والروايات التي تقول: إن هذه السورة هي الثانية في النزول بعد سورة العلق كثيرة، ومن المتفق عليه في ترتيب المصاحف المختلفة أنها هي السورة الثانية؛ ولكن سياق السورة وموضوعها وأسلوبها يجعلنا نرجح غير هذا. حتى ليكاد يتعين أنها نزلت بعد فترة من الدعوة العامة، التي جاءت بعد نحو ثلاث سنوات من الدعوة الفردية، في الوقت الذي أخذت فيه قريش تدفع هذه الدعوة وتحاربها، فتقول عن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] تلك القولة الفاجرة؛ وأخذ القرآن يردها وينفيها، ويهدد المناهضين للدعوة، ذلك التهديد الوارد في السورة...

واحتمال أن مطلع السورة نزل مبكرا وحده بعد مطلع سورة العلق. وأن الجنون المنفي فيه: (ما أنت بنعمة ربك بمجنون).. جاء بمناسبة ما كان يتخوفه النبي [صلى الله عليه وسلم] على نفسه في أول الوحي، من أن يكون ذلك جنونا أصابه.. هذا الاحتمال ضعيف. لأن هذا التخوف ذاته على هذا النحو ليست فيه رواية محققة، ولأن سياق السورة المتماسك يدل على أن هذا النفي ينصب على ما جاء في آخرها من قوله تعالى: (وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون: إنه لمجنون).. فهذا هو الأمر الذي افتتح السورة بنفيه، كما يتبادر إلى الذهن عند قراءة السورة المتماسكة الحلقات...

كذلك ذكرت بعض الروايات أن في السورة آيات مدنية من الآية السابعة عشرة إلى نهاية الآية الثالثة والثلاثين. وهي الآيات التي ذكرت قصة أصحاب الجنة وابتلاءهم، والآيات من الثانية والأربعين إلى نهاية الخمسين وهي التي تشير إلى قصة صاحب الحوت.. ونحن نستبعد هذا كذلك. ونعتقد أن السورة كلها مكية. لأن طابع هذه الآيات عميق في مكيته. وهو أنسب شيء لأن يجيء في سياق السورة عند نزولها متسقا مع الموضوع ومع الحالة التي تعالجها.

والذي نرجحه بشأن السورة كلها أنها ليست الثانية في ترتيب النزول؛ وأنها نزلت بعد فترة من البعثة النبوية بعد أمر النبي [صلى الله عليه وسلم] بالدعوة العامة. وبعد قول الله تعالى له: (وأنذر عشيرتك الأقربين). وبعد نزول طائفة من القرآن فيها شيء من قصص الأولين وأخبارهم، التي قال عنها قائلهم: (أساطير الأولين).. وبعدما أصبحت قريش مدعوة إلى الإسلام كافة، وأصبحت تدفع هذه الدعوة بالاتهامات الباطلة والحرب العنيفة التي اقتضت تلك الحملة العنيفة الواردة في السورة على المكذبين، والتهديد القاصم في أولها وفي آخرها على السواء.. والمشهد الأخير في السورة يوحي بهذا كذلك: (وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون: إنه لمجنون).. فهو مشهد دعوة عامة لمجموعات كبيرة. ولم يكن الأمر كذلك في أول الدعوة. إنما كانت الدعوة توجه إلى أفراد. بوسيلة فردية. ولا تلقى إلى الذين كفروا وهم متجمعون. ولم يقع شيء من هذا- كما تقول الروايات الراجحة -إلا بعد ثلاث سنوات من بدء الدعوة...

والسورة تشير إلى شيء من عروض المشركين على النبي [صلى الله عليه وسلم] للالتقاء في منتصف الطريق، والتهادن على تراض في القضية التي يختلفون عليها وهي قضية العقيدة: (ودوا لو تدهن فيدهنون).. وظاهر أن مثل هذه المحاولة لا تكون والدعوة فردية، ولا خطر منها. إنما تكون بعد ظهورها، وشعور المشركين بخطرها...

وهكذا تتضافر الشواهد على أن هذه السورة نزلت متأخرة عن أيام الدعوة الأولى. وأن هناك ثلاث سنوات على الأقل- قابلة للزيادة -بين بدء الدعوة وبين وقت نزولها. ولا يعقل أن ثلاث سنوات مرت لم يتنزل فيها قرآن. والطبيعي أن تكون هناك سور كثيرة، وأجزاء من سور قد نزلت في هذه الفترة، تتحدث عن ذات العقيدة بدون مهاجمة عنيفة للمكذبين بها كالوارد في هذه السورة منذ مطلعها...

ولكن هذا لا ينفي أن تكون هذه السورة وسورتا المدثر والمزمل قد نزلت في الفترة الأولى من الدعوة. وإن لم يكن ذلك أول ما نزل كما هو وارد في المصاحف، للأسباب التي أوردناها هنا.

وهي تكاد تنطبق كذلك على سورتي المزمل والمدثر...

لقد كانت هذه الغرسة- غرسة العقيدة الإسلامية -تودع في الأرض لأول مرة في صورتها الرفيعة المجردة الناصعة. وكانت غريبة على حس الجاهلية السائدة، لا في الجزيرة العربية وحدها بل كذلك في أنحاء الأرض جميعا. وكانت النقلة عظيمة بين الصورة الباهتة المحرفة المشوهة من ملة إبراهيم التي يستمسك بخيوط حائلة منها مشركو قريش، ويلصقون بها الترهات والأساطير والأباطيل السائدة عندهم، وبين الصورة الباهرة العظيمة المستقيمة الواضحة البسيطة الشاملة المحيطة التي جاءهم بها محمد [صلى الله عليه وسلم] متفقة في أصولها مع الحنيفية الأولى- دين إبراهيم عليه السلام -وبالغة نهاية الكمال الذي يناسب كونها الرسالة الأخيرة للأرض، الباقية لتخاطب الرشد العقلي في البشرية إلى آخر الزمان. وكانت النقلة عظيمة بين الشرك بالله وتعدد الأرباب، وعبادة الملائكة وتماثيلها، والتعبد للجن وأرواحها، وسائر هذه التصورات المضطربة المفككة التي تتألف منها العقيدة الجاهلية.. وبين الصورة الباهرة التي يرسمها القرآن للذات الإلهية الواحدة وعظمتها وقدرتها، وتعلق إرادتها بكل مخلوق. كذلك كانت النقلة عظيمة بين الطبقية السائدة في الجزيرة، والكهانة السائدة في ديانتها، واختصاص طبقات بالذات بالسيادة والشرف وسدانة الكعبة والقيام بينها وبين العرب الآخرين.. وبين البساطة والمساواة أمام الله والاتصال المباشر بينه وبين عباده كما جاء بها القرآن. ومثلها كانت النقلة بين الأخلاق السائدة في الجاهلية والأخلاق التي جاء القرآن يبشر بها، وجاء محمد [صلى الله عليه وسلم] يدعو إليها ويمثلها. وكانت هذه النقلة وحدها كافية للتصادم بين العقيدة الجديدة وبين قريش ومعتقداتها وأخلاقها. ولكن هذه لم تكن وحدها. فقد كان إلى جانبها اعتبارات- ربما كانت أضخم في تقدير قريش من العقيدة ذاتها -على ضخامتها. كانت هناك الاعتبارات الاجتماعية التي دعت بعضهم أن يقول كما حكى عنهم القرآن الكريم: (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم!).. والقريتان هما مكة والطائف. فإن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] مع شرف نسبه، وأنه في الذؤابة من قريش، لم تكن له مشيخة فيهم ولا رياسة قبل البعثة. بينما كان هناك مشيخة قريش ومشيخة ثقيف وغيرهما، في بيئة تجعل للمشيخة والرياسة القبلية كل الاعتبار، فلم يكن من السهل الانقياد خلف محمد [صلى الله عليه وسلم] من هؤلاء المشيخة! وكانت هناك الاعتبارات العائلية التي تجعل رجلا كأبي جهل "عمرو بن هشام " يأبى أن يسلم بالحق الذي يواجهه بقوة في الرسالة الإسلامية، لأن نبيها من بني عبد مناف.. وذلك كما ورد في قصته مع الأخنس بن شريق وأبي سفيان بن حرب، حين خرجوا ثلاث ليال يستمعون القرآن خفية، وهم في كل ليلة يتواعدون على عدم العودة خيفة أن يراهم الناس فيقع في نفوسهم شيء. فلما سأل الأخنس بن شريق أبا جهل رأيه فيما سمع من محمد كان جوابه: " ماذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا. حتى إذا تجاثينا على الركب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء. فمتى ندرك مثل هذه؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه!". وكانت هناك اعتبارات أخرى نفعية وطبقية ونفسية من ركام الجاهلية في المشاعر والتصورات والأوضاع كلها تحاول قتل تلك الغرسة الجديدة في مغرسها بكل وسيلة قبل أن تثبت جذورها وتتعمق، وقبل أن تمتد فروعها وتتشابك. وبخاصة بعد أن تجاوزت دور الدعوة الفردية؛ وأمر الله تعالى نبيه [صلى الله عليه وسلم] أن يجهر بالدعوة؛ وأخذت معالم الدعوة الجديدة تبرز، كما أخذ القرآن يتنزل بتسفيه عقيدة الشرك وما وراءها من الآلهة المدعاة والتصورات المنحرفة والتقاليد الباطلة. والرسول [صلى الله عليه وسلم] ولو أنه نبي، ولو أنه يتلقى من ربه الوحي، ولو أنه يتصل بالملأ الأعلى.. هو بشر، تخالجه مشاعر البشر. وكان يتلقى هذه المقاومة العنيفة، وتلك الحرب التي شنها عليه المشركون، ويعاني وقعها العنيف الأليم، هو والحفنة القليلة التي آمنت به على كره من المشركين. وكان [صلى الله عليه وسلم] يسمع والمؤمنون به يسمعون، ما كان يتقوله عليه المشركون، ويتطاولون به على شخصه الكريم، (ويقولون: إنه لمجنون).. ولم تكن هذه إلا واحدة من السخريات الكثيرة، التي حكاها القرآن في السور الأخرى؛ والتي كانت توجه إلى شخصه [صلى الله عليه وسلم] وإلى الذين آمنوا معه. وغير الأذى الذي كان يصيب الكثيرين منهم على أيدي أقربائهم الأقربين! والسخرية والاستهزاء- مع الضعف والقلة -مؤذيان أشد الإيذاء للنفس البشرية، ولو كانت هي نفس رسول. ومن ثم نرى في السور المكية- كسور هذا الجزء -أن الله كأنما يحتضن- سبحانه -رسوله والحفنة المؤمنة معه، ويواسيه ويسري عنه، ويثني عليه وعلى المؤمنين. ويبرز العنصر الأخلاقي الذي يتمثل في هذه الدعوة وفي نبيها الكريم. وينفي ما يقوله المتقولون عنه، ويطمئن قلوب المستضعفين بأنه هو يتولى عنهم حرب أعدائهم، ويعفيهم من التفكير في أمر هؤلاء الأعداء الأقوياء الأغنياء! ونجد من هذا في سورة القلم مثل قوله تعالى عن النبي [صلى الله عليه وسلم]: (ن. والقلم وما يسطرون. ما أنت بنعمة ربك بمجنون. وإن لك لأجرا غير ممنون. وإنك لعلى خلق عظيم).. وقوله تعالى عن المؤمنين: إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم. أفنجعل المسلمين كالمجرمين؟ مالكم؟ كيف تحكمون؟!.. ويقول عن أحد أعداء النبي البارزين: (ولا تطع كل حلاف مهين. هماز مشاء بنميم. مناع للخير معتد أثيم. عتل بعد ذلك زنيم. أن كان ذا مال وبنين. إذا تتلى عليه آياتنا قال: أساطير الأولين. سنسمه على الخرطوم!).. ثم يقول عن حرب المكذبين عامة: (فذرني ومن يكذب بهذا الحديث. سنستدرجهم من حيث لا يعلمون. وأملي لهم إن كيدي متين).. وذلك غير عذاب الآخرة المذل للمتكبرين: يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون. خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة. وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون.. ويضرب لهم أصحاب الجنة- جنة الدنيا -مثلا على عاقبة البطر تهديدا لكبراء قريش المعتزين بأموالهم وأولادهم ممن لهم مال وبنون؛ الكائدون للدعوة بسبب مالهم من مال وبنين. وفي نهاية السورة يوصي النبي [صلى الله عليه وسلم] بالصبر الجميل: (فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت..). ومن خلال هذه المواساة وهذا الثناء وهذا التثبيت، مع الحملة القاصمة على المكذبين والتهديد الرهيب، يتولى الله- سبحانه -بذاته حربهم في ذلك الأسلوب العنيف.. من خلال هذا كله نتبين ملامح تلك الفترة، فترة الضعف والقلة، وفترة المعاناة والشدة، وفترة المحاولة القاسية لغرس تلك الغرسة الكريمة في تلك التربة العنيدة! كذلك نلمح من خلال أسلوب السورة وتعبيرها وموضوعاتها ملامح البيئة التي كانت الدعوة الإسلامية تواجهها. وهي ملامح فيها سذاجة وبدائية في التصور والتفكير والمشاعر والاهتمامات والمشكلات على السواء. نلمح هذه السذاجة في طريقة محاربتهم للدعوة بقولهم للنبي [صلى الله عليه وسلم] (إنه لمجنون)! وهو اتهام لا حبكة فيه ولا براعة، وأسلوب من لا يجد إلا الشتمة الغليظة يقولها بلا تمهيد ولا برهان، كما يفعل السذج البدائيون. ونلمحها في الطريقة التي يرد الله بها عليهم فريتهم ردا يناسب حالهم: (ما أنت بنعمة ربك بمجنون. وإن لك لأجرا غير ممنون. وإنك لعلى خلق عظيم. فستبصر ويبصرون. بأيكم المفتون).. وكذلك في التهديد المكشوف العنيف: (فذرني ومن يكذب بهذا الحديث. سنستدرجهم من حيث لا يعلمون. وأملي لهم إن كيدي متين).. ونلمحها في رد هذا السب على رجل منهم: (ولا تطع كل حلاف مهين. هماز مشاء بنميم. مناع للخير معتد أثيم. عتل بعد ذلك زنيم...). ونلمحها في القصة- قصة أصحاب الجنة -التي ضربها الله لهم. وهي قصة قوم سذج في تفكيرهم وتصورهم وبطرهم، وفي حركاتهم كذلك وأقوالهم (وهم يتخافتون. ألا يدخلنها اليوم عليكم مسكين.. الخ). وأخيرا نلمح سذاجتهم من خلال ما يوجهه إليهم من الجدل: (أم لكم كتاب فيه تدرسون: إن لكم فيه لما تخيرون؟ أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون؟ سلهم أيهم بذلك زعيم؟)... وهي ملامح تظهر بوضوح من خلال التعبير القرآني، وتفيد في دراسة السيرة ووقائعها وخطوات الدعوة فيها؛ ومدى ما ارتفع القرآن بعد ذلك بهذه البيئة وبتلك الجماعة في أواخر عهد الرسول [صلى الله عليه وسلم] ومدى ما نقلها من هذه السذاجة في التفكير والتصور والشعور والاهتمام. كما يتضح في أساليب الخطاب فيما بعد، وفي الحقائق والمشاعر والتصورات والاهتمامات بعد عشرين عاما لا تزيد. وهي في حياة الأمم ومضة لا تذكر. ولا تقاس إليها تلك النقلة الواسعة الشاملة.. التي انتقلتها الجماعة في هذا الوقت القصير. والتي تسلمت بها قيادة البشرية فارتفعت بتصوراتها وأخلاقها إلى القمة التي لم ترتفع إليها قيادة قط في تاريخ البشرية، لا من ناحية طبيعة العقيدة، ولا من ناحية آثارها الواقعية في حياة الإنسان في الأرض، ولا من ناحية السعة والشمول لتضم الإنسانية كلها بين جوانحها في سماحة وعطف، وفي تلبية لكل حاجاتها الشعورية، وحاجاتها الفكرية، وحاجاتها الاجتماعية، وحاجاتها التنظيمية في شتى الميادين.. إنها المعجزة تتجلى في النقلة من هذه السذاجة التي تبدو ملامحها من خلال مثل هذه السورة إلى ذلك العمق والشمول. وهي نقلة أوسع وأكبر من تحول القلة إلى كثرة، والضعف إلى قوة، لأن بناء النفوس والعقول أعسر من بناء الأعداد والصفوف...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

أغراضها:

جاء في هذه السورة بالإيماء بالحرف الذي في أولها إلى تحدي المعاندين بالتعجيز عن الإتيان بمثل سور القرآن وهذا أول التحدي الواقع في القرآن إذ ليس في سورة العلق ولا في المزمل ولا في المدثر إشارة إلى التحدي ولا تصريح.

وفيها إشارة إلى التحدي بمعجزة الأمية بقوله {والقلم وما يسطرون}.

وابتدئت بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم تأنيسا له وتسلية عما لقيه من أذى المشركين.

وإبطال مطاعن المشركين في النبي صلى الله عليه وسلم.

وإثبات كمالاته في الدنيا والآخرة وهديه وضلال معانديه وتثبيته.

وأكد ذلك بالقسم بما هو من مظاهر حكمة الله تعالى في تعليم الإنسان الكتابة فتضمن تشريف حروف الهجاء والكتابة والعلم لتهيئة الأمة لخلع دثار الأمية عنهم وإقبالهم على الكتابة والعلم لتكون الكتابة والعلم سببا لحفظ القرآن.

ثم أنحى على زعماء المشركين مثل أبي جهل والوليد بن المغيرة بمذمات كثيرة وتوعدهم بعذاب الآخرة وببلايا في الدنيا بأن ضرب لهم مثلا بمن غرهم عزهم وثراؤهم، فأزال الله ذلك عنهم وأباد نعمتهم.

وقابل ذلك بحال المؤمنين المتقين وأن الله اجتباهم بالإسلام، وأن آلهتهم لا يغنون عنهم شيئا من العذاب في الدنيا ولا في الآخرة.

ووعظهم بأن ما هم فيه من النعمة استدراج وإملاء جزاء كيدهم. وأنهم لا معذرة لهم فيما قابلوا به دعوة النبي صلى الله عليه وسلم من طغيانهم ولا حرج عليهم في الإنصات إليها.

وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر في تبليغ الدعوة وتلقي أذى قومه، وأن لا يضجر في ذلك ضجرا عاتب الله عليه نبيه يونس عليه السلام.

التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :

في السورة تثبيت وتطمين للنبي صلى الله عليه وسلم وثناء عليه، وحملة على المكذبين وإنذار لهم، وصور لمواقفهم من الدعوة.

وفيها قصة جاءت في معرض التذكير والإنذار، كما فيها إشارة إلى قصة يونس في معرض تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم.

ومضمون الأربع الأولى منها والتالية لها، يحتمل أن تكون الآيات الأربع نزلت لحدة، وأن تكون بقية الآيات نزلت بعد مدة ما، كما يحتمل أن تكون جميعها نزلت دفعة واحدة.

وترتيبها كثانية السور نزولا ًهو بناء على احتمال نزول الآيات الأربع لحدتها. وعقب آيات سورة العلق الخمس الأولى. فإذا لم يكن هذا الاحتمال صحيحاً وكانت الآيات الأربع وما بعدها قد نزلت معاً، فلا يكون ترتيبها هذا صحيحاً والحالة هذه، ويقتضي أن تكون نزلت متأخرة بعض الشيء. وقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات [17-33] و [48-50] مدنيات. وأسلوبها ومضمونها يلهمان عدم صحة ذلك. وآيات السور منسجمة في موضوعها وتسلسلها وسبكها. وهذا يسوغ القول: إنها من السور التي نزلت دفعة واحدة أو فصولاً متلاحقة، مع ملاحظة ما ذكرناه في صدد آياتها الأربع الأولى.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

وهذه السورة هي من السور المكية التي تضع في عنوانها القلم والكتابة اللذين أراد الله للإسلام أن يتحرك من خلالهما بين الناس وتوجيههم إلى الانفتاح على المعرفة المقروءة والمكتوبة، ليرتفع مستواهم الثقافي العلمي، ولينطلقوا من خلالهما إلى تعريف العالمين بالقرآن المكتوب، وبالإسلام الذي تتنوّع أغراضه وتمتدّ معارفه في شتى فروع الحياة، وحركة الإنسان فيها، لأن ذلك هو السبيل الذي يُغني تجربة الأمة في فكرها وحركتها واندفاعها نحو المستوى الأعلى في التقدّم والارتفاع.

كما تؤكد على شخصية الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) في عقله الكبير الذي احتوى الرسالة، في الوحي الذي أنزل عليه، وفي الحكمة التي اختزنها، وفي التجربة الحية المعصومة التي حركها، وفي القيادة التي أدارها وقاد الأمة إلى الصراط المستقيم في خطواتها، وفي حركة الدعوة التي خطط لها في الأسلوب والكلمة والمضمون، حتى امتدت إلى آفاق الحياة الواسعة في وقت قصير، وفي خلقه العظيم الذي جسّد الرسالة بكل أَخلاقيتها الروحية والسلوكية، حتى استطاع أن يحوّلها إلى صورةٍ حيةٍ متحركة ليعطي الناس الفكرة من موقع القدوة، كما أعطاها لهم من قاعدة الدعوة. وهكذا وضع له البرنامج العملي في مواجهته للفئات القلقة في المجتمع التي تمثل نماذج الأخلاق الشريرة التي تسيء إلى من حولهم.

ثم تطوف السورة في أجواء القيامة لتتحدث عن المتقين وهم في جنات النعيم، وعن الكافرين وهم في عذاب الله وسخطه.

وتختم السورة الخطاب الرسالي للنبي بأن يتمسّك بالقوّة أمام كل التهاويل التي يحشدها الكافرون في طريقه، وذلك من خلال الصبر على حكم ربه في ما فرضه عليه من مواقف،

ثم تطرح الحديث عن يونس (عليه السلام) صاحب الحوت الذي لم يصبر على ما عاناه من الشدّة في مواجهة الكافرين له.

ثم يأتي الحديث عن كلماتهم غير المسؤولة، ونظراتهم غير الحميمة في ما يثيرونه من تهمة الجنون، في طريقة تعاملهم معه، ليوحي إليه بأنّ المسألة ليست مسألتك الشخصية لأنهم كانوا يحترمون عقلك ووعيك وصدقك وأمانتك قبل ذلك، ولكن المسألة هي مسألة الذكر الذي أنزله الله عليك، فأحرجهم بتحدياته، فأثاروا الحديث بالجنون حول شخصك ليبطلوا أثره. فتابع سيرك، لأن القضية ليست قضيتهم، بل هي قضية العالمين الذين جاء الذكر ليكون ذكراً لهم جميعاً.

اسم السورة وسميت بالقلم تبياناً لأهميته كوسيلةٍ من وسائل تحريك المعرفة عند الناس في ما ينتجونه من قضايا المعرفة بالله وبالكون وبالإنسان وبالحياة في آفاق العلم الذي يرتفع بالحياة إلى مستواها العظيم في القرب من الله.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

وبشكل عامّ يمكن تلخيص مباحث هذه السورة بسبعة أقسام:

في البداية تستعرض السورة بعض الصفات الخاصّة لرسول الإنسانية محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) وخصوصاً أخلاقه البارّة السامية الرفيعة، ولتأكيد هذا الأمر يقسِمُ البارئ عزّ وجلّ في هذا الصدد.

ثمّ تتعرّض بعض الآيات الواردة في هذه السورة إلى قسم من الصفات السيّئة والأخلاق الذميمة لأعدائه.

كما يبيّن قسم آخر من الآيات الشريفة قصّة (أصحاب الجنّة) والتي هي بمثابة توجيه إنذار وتهديد للسالكين طريق العناد من المشركين.

وفي قسم آخر من السورة ذكرت عدّة أمور حول القيامة والعذاب الأليم للكفّار في ذلك اليوم.

كما جاء في آيات أخرى جملة إنذارات وتهديدات للمشركين.

ونلاحظ في آيات أخرى من السورة الأمر الإلهي للرسول العظيم محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يواجه الأعداء بصبر واستقامة وقوّة وصلابة.

وأخيراً تختتم السورة موضوعاتها بحديث حول عظمة القرآن الكريم، وطبيعة المؤامرات التي كان يحوكها الأعداء ضدّ الرّسول محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)...

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{ن والقلم} يعني بنون الحوت.

{وما يسطرون} يقول: وما تكتب الملائكة من أعمال بني آدم، وذلك حين قال كفار مكة، أبو جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وغيرهم: إن محمدا مجنون، فأقسم الله تعالى بالحوت والقلم وما يسطرون الملائكة من أعمال بني آدم...

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"ن"؛

فقال بعضهم: هو الحوت...

وقال آخرون: ن: حرف من حروف الرحمن...

وقال آخرون: ن: الدواة، والقلم: القلم...

وقال آخرون: ن: لوح من نوره...

وقال آخرون: ن: قَسَم أقسم الله به...

وقال آخرون: هي اسم من أسماء السورة...

وقال آخرون: هي حرف من حروف المعجم...

وأما القلم: فهو القلم المعروف، غير أن الذي أقسم به ربنا من الأقلام: القلم الذي خلقه الله تعالى ذكره، فأمره فجرى بكتابة جميع ما هو كائن إلى يوم القيامة. وقوله: "ومَا يَسْطُرُون"، يقول: والذي يخُطّون ويكتبون...

وإذا وُجّهَ التأويل إلى هذا الوجه كان القسم بالخلق وأفعالهم.

وقد يحتمل الكلام معنى آخر، وهو أن يكون معناه: وسطرهم ما يسطرون، فتكون «ما» بمعنى المصدر. وإذا وُجه التأويل إلى هذا الوجه، كان القسم بالكتاب، كأنه قيل: ن والقلم والكتاب...

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

اختلف في تأويل {ن}... منهم من يقول: هو من الحروف المقطعة. ويشبه أن يكون هو المراد، لأنه ذكر القلم {وما يسطرون} على إثره، وإنما يكتب بالقلم، وتسطر الحروف المعجمة. فأخبر تعالى عظيم صنعه ولطفه بإنشائه هذه الحروف، وخلقه القلم وما يسطر به حين يوصل بها إلى تعرف الحكمة وكل ما تكون به المصلحة من الدين والدنيا. بل جعل قوام الدين والدنيا بها...

النكت و العيون للماوردي 450 هـ :

وفي قوله {وما يَسْطرون} ثلاثة أقاويل:

أحدها: وما يعملون، قاله ابن عباس.

الثالث: أنهم الملائكة الكاتبون يكتبون أعمال الناس من خير وشر...

تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :

الدواة والقلم الذي يكتب به بنو آدم.

ومعنى الآية هو القسم، ولله أن يقسم بما شاء من خلقه.

وقال قتادة: لولا القلم ما قام لله دين، ولا كان للخلق عيش.

جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :

من فضل القلم وشرفه، أن الله تعالى أقسم به فقال عز من قائل: {ن والقلم وما يسطرون}. (التبر المسبوك في نصيحة الملوك: 93).

من شرف الكتابة أن الله سبحانه وتعالى أقسم بها فقال: {ن والقلم وما يسطرون} فإن: الكتابة نعمة من نعم الله تعالى، ولها مزية حسنة عند ذوي الألباب، لأنها تحفظ ما يتولد عن أفاهم العقلاء، وتقيد ما تصطاده أذهان الحكماء. (المعارف العقلية: 78)

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

قرئ: «ن والقلم» بالبيان والإدغام، وبسكون النون وفتحها وكسرها، كما في ص. والمراد هذا الحرف من حروف المعجم: وأمّا قولهم: هو الدواة فما أدري أهو وضع لغوي أم شرعي؟ ولا يخلو إذا كان اسماً للدواة من أن يكون جنساً أو علماً، فإن كان جنساً فأين الإعراب والتنوين، وإن كان علماً فأين الإعراب، وأيهما كان فلا بد له من موقف في تأليف الكلام. فإن قلت: هو مقسم به، وجب إن كان جنساً أن تجرّه وتنوّنه، ويكون القسم بدواة منكرة مجهولة، كأنه قيل: ودواة والقلم، وإن كان علماً أن تصرفه وتجرّه، أو لا تصرفه وتفتحه للعلمية والتأنيث، وكذلك التفسير بالحوت: إما أن يراد نون من النينان، أو يجعل علماً للبهموت الذي يزعمون، والتفسير باللوح من نور أو ذهب، والنهر في الجنة نحو ذلك.

وأقسم بالقلم: تعظيماً له، لما في خلقه وتسويته من الدلالة على الحكمة العظيمة، ولما فيه من المنافع والفوائد التي لا يحيط بها الوصف.

{وَمَا يَسْطُرُونَ} وما يكتب من كتب، وقيل ما يسطره الحفظة.

ويجوز أن يراد بالقلم أصحابه فيكون الضمير في {يَسْطُرُونَ} لهم كأنه قيل: وأصحاب القلم ومسطوراتهم. أو وسطورهم، ويراد بهم كل ما يسطر، أو الحفظة...

أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :

رَوَى الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ سَمِيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ، ثُمَّ خَلَقَ النُّونَ، وَهِيَ الدَّوَاةُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {ن وَالْقَلَمِ}؛ ثُمَّ قَالَ: اُكْتُبْ. قَالَ: وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: مَا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلٍ، أَوْ أَجَلٍ، أَوْ رِزْقٍ، أَوْ أَثَرٍ؛ فَجَرَى الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ خَتَمَ عَلَى الْقَلَمِ فَلَمْ يَنْطِقْ، وَلَا يَنْطِقُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ خَلَقَ الْعَقْلَ فَقَالَ الْجَبَّارُ: مَا خَلَقْت خَلْقًا أَعْجَبَ إلَيَّ مِنْك، وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَأُكَمِّلَنَّكَ فِيمَنْ أَحْبَبْت، وَلَأُنْقِصَنَّكَ فِيمَنْ أَبْغَضْت، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَكْمَلُ النَّاسِ عَقْلًا أَطْوَعُهُمْ لِلَّهِ وَأَعْمَلُهُمْ بِطَاعَتِهِ»

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

يقسم الله -سبحانه- بنون، وبالقلم، وبالكتابة. والعلاقة واضحة بين الحرف "نون". بوصفه أحد حروف الأبجدية وبين القلم، والكتابة..

فأما القسم بها فهو تعظيم لقيمتها، وتوجيه إليها، في وسط الأمة التي لم تكن تتجه إلى التعلم عن هذا الطريق، وكانت الكتابة فيها متخلفة ونادرة، في الوقت الذي كان دورها المقدر لها فيعلم الله يتطلب نمو هذه المقدرة فيها، وانتشارها بينها، لتقوم بنقل هذه العقيدة وما يقوم عليها من مناهج الحياة إلى أرجاء الأرض. ثم لتنهض بقيادة البشرية قيادة رشيدة. وما من شك أن الكتابة عنصر أساسي في النهوض بهذه المهمة الكبرى. ومما يؤكد هذا المفهوم أن يبدأ الوحي بقوله تعالى: (اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم).. وأن يكون هذا الخطاب موجها للنبي الأمي -الذي قدر الله أن يكون أميا لحكمة معينة- ولكنه بدأ الوحي إليها منوها بالقراءة والتعليم بالقلم. ثم أكد هذه اللفتة هنا بالقسم بنون، والقلم وما يسطرون. وكان هذا حلقة من المنهج الإلهي لتربية هذه الأمة وإعدادها للقيام بالدور الكوني الضخم الذي قدره لها في علمه المكنون. يقسم الله -سبحانه- بنون والقلم وما يسطرون، منوها بقيمة الكتابة معظما لشأنها كما أسلفنا لينفي عن رسوله [صلى الله عليه وسلم] تلك الفرية التي رماه بها المشركون، مستبعدا لها، ونعمته على رسوله ترفضها...

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

افتتاح هذه السورة بأحد حروف الهجاء جار على طريقة أمثالها من فواتح السور ذوات الحروف المقطعة المبيّنة في سورة البقرة وهذه أول سورة نزلت مفتتحة بحرف مقطع من حروف الهجاء.

ورَسمُوا حرف {ن} بصورته التي يرسم بها في الخط وهي مسمّى اسمه الذي هو {نُون} (بنونٍ بعدها واو ثم نون) وكان القياس أن تكتب الحُروف الثلاثةُ لأن الكتابة تبَع للنطق والمنطوق به هو اسم الحرف لا ذاته، لأنك إذا أردتَ كتابةَ سيف مثلاً فإنما ترسم سينا، وياء، وفَاء، ولا ترسم صورة سَيْف.

وإنما يُقرأ باسم الحرف لا بهجائه كما تقدم في أول سورة البقرة.

ويُنطق باسم نون ساكنَ الآخر سكون الكلمات قبل دخول العوامل عليها، وكذلك قرئ في القراءات المتواترة.

{والقلم وما يسطرون}

يجري القسم هنا على سنن الأقسام الصادرة في كلام الله تعالى أن تكون بأشياء معظمة دالة على آثار صفات الله تعالى.

والقلم المقسم به قيل هو ما يكنى عنه بالقلم من تعلق علم الله بالموجودات الكائنة والتي ستكون، أو هو كائن غيبي لا يعلمه إلا الله. وعن مجاهد وقتادة: أنه القلم الذي في قوله تعالى {الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم}. قلت: وهذا هو المناسب لقوله {وما يسطرون} في الظاهر وهو الذي يقتضيه حال المشركين المقصودين بالخطاب الذين لا يعرفوا إلا القلم الذي هو آلة الكتابة عند أهل الكتاب وعند الذين يعرفون الكتابة من العرب.

ومن فوائد هذا القسم أن هذا القرآن كتاب الإسلام، وأنه سيكون مكتوبا مقروءا بين المسلمين، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بكتابة ما يوحى به إليه. وتعريف {القلم} تعريف الجنس.

فالقسم بالقلم لشرفه بأنه يكتب به القرآن وكتبت به الكتب المقدسة وتكتب به كتب التربية ومكارم الأخلاق والعلوم وكل ذلك مما له حظ شرف عند الله تعالى.

وهذا يرجحه أن الله نوه بالقلم في أول سورة نزلت من القرآن لقوله {اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم}.

و {ما يسطرون} هي السطور المكتوبة بالقلم و {ما} يجوز أن تكون موصولة، أي وما يكتبونه من الصحف، ويجوز أن تكون مصدرية. والمعنى: وسطرهم الكتابة سطورا.

ويجوز أن يكون قسما بالأقلام التي يكتب بها كتاب الوحي القرآن، {وما يسطرون} قسما بكتابتهم، فيكون قسما بالقرآن على أن القرآن ما هو بكلام مجنون كما تقدم في قوله تعالى {والكتاب المبين إنا جعلناه قرءانا عربيا} في سورة الزخرف...

ويسطرون: مضارع سطر، يقال: سطر من باب نصر، إذا كتب كلمات عدة تحصل منها صفوف من الكتابة. وأصله مشتق من السطر وهو القطع، لأن صفوف الكتابة تبدو كأنها قطع.

وضمير {يسطرون} راجع إلى غير مذكور في الكلام وهو معلوم للسامعين لأن ذكر القلم ينبئ بكتبة يكتبون به فكان لفظ القسم متعلقا بآلة الكتابة والكتابة، والمقصود: المكتوب في إطلاق المصدر على المفعول. فهو بمنزلة الفعل المبني للمجهول لأن الساطرين غير معلومين، فكأنه قيل: والمسطور، نضير قوله تعالى {وكتاب مسطور في رق منشور}.

ومن فسر {القلم} بمعنى تعلق علم الله تعالى بما سيكون جعل ضمير {يسطرون} راجعا إلى الملائكة فيكون السطر رمزا لتنفيذ الملائكة ما أمر الله بتنفيذه حين تلقي ذلك، أي يكتبون ذلك للعمل به أو لإبلاغه من بعضهم إلى بعض على وجه لا يقبل الزيادة ولا النقصان، فشبه ذلك الضبط بضبط الكاتب ما يريد إبلاغه بدون تغيير.

وأوثر القسم بالقلم والكتابة للإيماء إلى أن باعث الطاعنين على الرسول صلى الله عليه وسلم واللامزين له بالجنون، إنما هو ما أتاهم به من الكتاب.

والمقسم عليه نفي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم مجنونا والخطاب له بهذا تسلية له لئلا يحزنه قول المشركين لما دعاهم إلى الإسلام: هو مجنون، وذلك ما شافهوا به النبي صلى الله عليه وسلم وحكاه الله عنهم في آخر السورة {وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون}. وهكذا كل ما ورد فيه نفي صفة الجنون عنه فإنما هو رد على أقوال المشركين كقوله {وما صاحبكم بمجنون}. وقد زل فيه صاحب الكشاف زلة لا تليق بعلمه.

والمقصود من نفي الجنون عنه إثبات ما قصد المشركون نفيه وهو أن يكون رسولا من الله لأنهم لما نفوا عنه صفة الرسالة وضعوا موضعها صفة الجنون، فإذا نفي ما زعموه فقد ثبت ما ادعاه.

وقد أجيب قولهم وتأكيدهم ذلك بحرف {إن} ولام الابتداء إذ قالوا {إنه لمجنون} بمؤكدات أقوى مما في كلامهم إذ أقسم عليه وجيء بعد النفي بالباء التي تزاد بعد النفي لتأكيده، وبالجملة الاسمية منفية لدلالة الجملة الاسمية على ثبات الخبر، أي تحققه فهذه ثلاثة مؤكدات.

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :

يقسم تعالى بموضوعين يعتبران من أهمّ المسائل في حياة الإنسان، فيقول تعالى: (والقلم وما يسطرون). كم هو قسم عجيب؟ وقد يتصوّر أنّ القسم هنا يتعلّق ظاهراً بمواضيع صغيرة، أي قطعة من القصب أو شيء يشبه ذلك وبقليل من مادّة سوداء، ثمّ السطور التي تكتب وتخطّ على صفحة صغيرة من الورق. إلاّ أنّنا حينما نتأمّل قليلا فيه نجده مصدراً لجميع الحضارات الإنسانية في العالم أجمع، إنّ تطور وتكامل العلوم والوعي والأفكار وتطور المدارس الدينية والفكرية، وبلورة الكثير من المفاهيم الحياتية.. كان بفضل ما كُتب من العلوم والمعارف الإنسانية في الحقول المختلفة، ممّا كان له الأثر الكبير في يقظة الأمم وهداية الإنسان.. وكان ذلك بواسطة (القلم). لقد قسّمت حياة الإنسان إلى عصرين: (عصر التأريخ) و (عصر ما قبل التأريخ) وعصر تأريخ البشر يبدأ منذ أن اخترع الإنسان الخطّ واستطاع أن يدوّن قصّة حياته وأحداثها على الصفحات، وبتعبير آخر، يبدأ عندما أخذ الإنسان القلم بيده، ودوّن للآخرين ما توصّل إليه (وما يسطرون) تخليداً لماضيه. وتتّضح عظمة هذا القسم بصورة أكثر عندما نلاحظ أنّ هذه الآيات المباركة حينما نزلت لم يكن هنالك كتاب ولا أصحاب قلم، وإذا كان هنالك أشخاص يعرفون القراءة والكتابة، فإنّ عددهم في كلّ مكّة التي تمثّل المركز العبادي والسياسي والاقتصادي لأرض الحجاز لم يتجاوز ال (20) شخصاً. ولذا فإنّ القسم ب (القلم) في مثل ذلك المحيط له عظمة خاصّة. والرائع هنا أنّ الآيات الأولى التي نزلت على قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في (جبل النور) أو (غار حراء) قد أشير فيها أيضاً إلى المنزلة العليا للقلم، حيث يقول تعالى: (اقرأ باسم ربّك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربّك الأكرم، الذي علّم بالقلم، علّم الإنسان ما لم يعلم). والأروع من ذلك كلّه أنّ هذه الكلمات كانت تنطلق من فمّ شخص لم يكن يقرأ أو يكتب، ولم يذهب للمكاتب من أجل التعليم قطّ، وهذا دليل أيضاً على أنّ ما ينطق به لم يكن غير الوحي السماوي...

 
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي - الواحدي [إخفاء]  
{نٓۚ وَٱلۡقَلَمِ وَمَا يَسۡطُرُونَ} (1)

مقدمة السورة:

مكية وهي خمسون وآيتان بلا خلاف .

{ ن } أقسم الله بالحوت الذي على ظهره الأرض { والقلم } يعني القلم الذي خلقه الله تعالى فجرى بالكائنات إلى يوم القيامة { وما يسطرون } أي وما تكتب الملائكة .

 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{نٓۚ وَٱلۡقَلَمِ وَمَا يَسۡطُرُونَ} (1)

مقدمة السورة:

مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر . وقال ابن عباس وقتادة : من أولها إلى قوله تعالى : " سنسمه على الخرطوم{[1]} " [ القلم : 16 ] مكي . ومن بعد ذلك إلى قوله تعالى : " أكبر لو كانوا يعلمون{[2]} " [ القلم : 33 ] مدني . ومن بعد ذلك إلى قوله : " يكتبون{[3]} " [ القلم : 47 ] مكي . ومن بعد ذلك إلى قوله تعالى : " من الصالحين{[4]} " [ القلم : 50 ] مدني ، وما بقي مكي ، قاله الماوردي .

قوله تعالى : " ن والقلم " أدغم النون الثانية في هجائها في الواو أبو بكر والمفضل وهبيرة وورش وابن محيصن وابن عامر والكسائي ويعقوب . والباقون بالإظهار . وقرأ عيسى بن عمر بفتحها ، كأنه أضمر فعلا . وقرأ ابن عباس ونصر وابن أبي إسحاق بكسرها على إضمار حرف القسم . وقرأ هارون ومحمد بن السميقع بضمها على البناء . واختلف في تأويله ، فروى معاوية بن قرة عن أبيه يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( ن لوح من نور ) . وروى ثابت البناني أن " ن " الدواة . وقاله الحسن وقتادة . وروى الوليد بن مسلم قال : حدثنا مالك بن أنس عن سمي مولى أبي بكر عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( أول ما خلق الله القلم ثم خلق النون وهي الدواة ، وذلك قوله تعالى : " ن والقلم " ثم قال له اكتب قال : وما أكتب قال : ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل أو أجل أو رزق أو أثر ، فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة - قال - ثم ختم فم القلم فلم ينطق ولا ينطق إلى يوم القيامة . ثم خلق العقل فقال الجبار : ما خلقت خلقا أعجب إلي منك وعزتي وجلالي لأُكَمِّلَنَّكَ فيمن أحببت ولأنقصنك فيمن أبغضت ) قال : ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أكمل الناس عقلا أطوعهم لله وأعملهم بطاعته ) . وعن مجاهد قال : " ن " الحوت الذي تحت الأرض السابعة . قال : " والقلم " الذي كتب به الذكر . وكذا قال مقاتل ومرة الهمداني وعطاء الخراساني والسدي والكلبي : إن النون هو الحوت الذي عليه الأرضون . وروى أبو ظبيان عن ابن عباس قال : أول ما خلق الله القلم فجرى بما هو كائن ، ثم رفع بخار الماء فخلق منه السماء ، ثم خلق النون فبسط الأرض على ظهره ، فمادت الأرض فأثبتت بالجبال ، وإن الجبال لتفخر على الأرض . ثم قرأ ابن عباس " ن والقلم " الآية . وقال الكلبي ومقاتل : اسمه البهموت{[15216]} . قال الراجز :

مالي أراكم كلكم سكوتَا *** والله ربي خلق البَهْمُوتَا

وقال أبو اليقظان والواقدي : ليوثا . وقال كعب : لوثوثا . وقال : بلهموثا{[15217]} . وقال كعب : إن إبليس تغلغل إلى الحوت الذي على ظهره الأرضون فوسوس في قلبه ، وقال : أتدري ما على ظهرك يا لوثوثا من الدواب والشجر والأرضين وغيرها ، لو لفظتهم ألقيتهم عن ظهرك أجمع ، فهم ليوثا أن يفعل ذلك ، فبعث الله إليه دابة فدخلت منخره ووصلت إلى دماغه ، فضج الحوت إلى الله عز وجل منها فأذن الله لها فخرجت . قال كعب : فوالله إنه لينظر إليها وتنظر إليه ، إن هم بشيء من ذلك عادت كما كانت . وقال الضحاك عن ابن عباس : إن " ن " آخر حروف من حروف الرحمن . قال : الر ، وحم ، ون ، الرحمن تعالى متقطعة . وقال ابن زيد : هو قسم أقسم تعالى به . وقال ابن كيسان : هو فاتحة السورة . وقيل : اسم السورة . وقال عطاء وأبو العالية : هو افتتاح اسمه نصير ونور وناصر . وقال محمد بن كعب : أقسم الله تعالى بنصره للمؤمنين ، وهو حق . بيانه قوله تعالى : " وكان حقا علينا نصر المؤمنين{[15218]} " [ الروم : 47 ] وقال جعفر الصادق : هو نهر من أنهار الجنة يقال له نون . وقيل : هو المعروف من حروف المعجم ؛ لأنه لو كان غير ذلك لكان معربا ، وهو اختيار القشيري أبو نصر عبدالرحيم في تفسيره . قال : لأن " ن " حرف لم يعرب ، فلو كان كلمة تامة أعرب كما أعرب القلم ، فهو إذا حرف هجاء كما في سائر مفاتيح السور . وعلى هذا قيل : هو اسم السورة ، أي هذه السورة " ن " . ثم قال : " والقلم " أقسم بالقلم لما فيه من البيان كاللسان ؛ وهو واقع على كل قلم مما يكتب به من في السماء ومن في الأرض ، ومنه قول أبي الفتح البستي :

إذا أقسم الأبطال يوما بسيفهم *** وعدّوه مما يكسب المجد والكرم

كفى قلم الكُتَّاب عزا ورفعة *** مدى الدهر أن الله أقسم بالقلم

وللشعراء في تفضيل القلم على السيف أبيات كثيرة ، ما ذكرناه أعلاه . وقال ابن عباس : هذا قسم بالقلم الذي خلقه الله ، فأمره فجرى بكتابة جميع ما هو كائن إلى يوم القيامة . قال : وهو قلم من نور طوله كما بين السماء والأرض . ويقال . خلق الله القلم ثم نظر إليه فانشق نصفين ، فقال : اجْرِ ، فقال : يا رب بم أجري ؟ قال بما هو كائن إلى يوم القيامة ، فجرى على اللوح المحفوظ . وقال الوليد بن عبادة بن الصامت : أوصاني أبي عند موته فقال : يا بني ، اتق الله ، واعلم أنك لن تتقي ولن تبلغ العلم حتى تؤمن بالله وحده ، والقدر خيره وشره ، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن أول ما خلق الله القلم فقال له : اكتب فقال : يا رب وما أكتب ؟ فقال : اكتب القدر ، فجرى القلم في تلك الساعة بما كان وما هو كائن إلى الأبد ) . وقال ابن عباس : أول ما خلق الله القلم ، فأمره أن يكتب ما هو كائن ، فكتب فيما كتب " تبت يدا أبي لهب " [ المسد : 1 ] . وقال قتادة : القلم نعمة من الله تعالى على عباده . قال غيره : فخلق الله القلم الأول فكتب ما يكون في الذكر ، ووضعه عنده فوق عرشه ، ثم خلق القلم الثاني ليكتب به في الأرض ، على ما يأتي بيانه في سورة " اقرأ باسم ربك{[15219]} " [ العلق : 1 ] .

قوله تعالى : " وما يسطرون " أي وما يكتبون . يريد الملائكة يكتبون أعمال بني آدم ، قاله ابن عباس : وقيل : وما يكتبون أي الناس ويتفاهمون به . وقال ابن عباس : ومعنى " وما يسطرون " وما يعلمون . و " ما " موصولة أو مصدرية ، أي ومسطوراتهم أو وسطرهم ، ويراد به كل من يسطر أو الحفظة ، على الخلاف .


[1]:لعله عمرو بن مرة المذكور في سند الحديث (انظر ابن ماجه ج 1 ص 139 وسنن أبي داود ج 1 ص 77 طبع مصر).
[2]:في بعض النسخ: "أبي قاسم"
[3]:في بعض النسخ: "المسيي".
[4]:آية 92 سورة الحج
[15216]:ضبطه الألوسي في تفسيره فقال: "اليهموت بفتح الياء المثناة التحتية وسكون الهاء".
[15217]:اضطربت الأصول والمراجع التي بين أيدينا في هذه الأسماء. وقد خرج المؤلف رحمه الله عما اشترطه في مقدمة كتابه. (ص3) حيث قال: "... وأضرب عن كثير من قصص المفسرين، وأخبار المؤرخين..."الخ.
[15218]:راجع جـ 14 ص 43.
[15219]:راجع جـ 20 ص 117.
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{نٓۚ وَٱلۡقَلَمِ وَمَا يَسۡطُرُونَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة ن{[1]} وتسمى سورة القلم

مقصودها إظهار ما استتر ، وبيان ما أبهم في آية " فستعلمون من هو في ضلال مبين " بتعيين المهتدي{[2]} الذي برهن على هدايته حيازته العلم الذي هو النور الأعظم ، الذي لا يضل بمصاحبته بتقبل القرآن والتخلق بالفرقان ، الذي هو صفة الرحمن بقدر{[3]} الإمكان الذي تصل إليه قوة الإنسان ، وأدل ما فيها على هذا الغرض " ن " وكذا و " القلم " فلذا سميت بكل منهما ، وبالكلام على كل منهما يعرف ذلك{[4]} ، وحاصله أن النون {[5]}مبين محيط{[6]} في بيانه كما يحيط ضوء الشمس بما يظهره ، وكما تحيط الدواة بمدادها ، بآية ما دل عليه {[7]} بمخرجه وصفاته{[8]} ، واستقر الكلام الواقع فيها{[9]} وفي المعاني التي اشتركت في لفظه ، وأما{[10]} القلم فإبانته للمعارف{[11]} أمر لا ينكر ( بسم الله ) الذي له الإحاطة الكاملة ، فهو على كل شيء قدير ، لأنه بكل شيء عليم ( الرحمن ) الذي عمت نعمة إيجاده لأهل معاده البريء منهم والسقيم ، ( الرحيم ) الذي/أتم تلك النعمة على من وفقه لطاعته ، فألزمه الصراط المستقيم .

لما أبهم الضال والمهتدي في آخر " الملك " والمسيء والمحسن في العمل أولها ، وختم بآية الماء المعين الذي دلت حروفه بمجموعها على تمام معناه ، ودل كل واحد منها على شيء منه ، فدلت ميمه على تمام شيء ظاهر ، وعينه على آية هادية ، وياؤه على قائم ملطف متنزل مع كل مقام ، ونونه على مظهر مبين محيط بما أظهره ، وردهم سبحانه إليه بعد شرادهم{[67195]} عنه بالاستفهام في هذه الآية بما نبههم عليه من عجزهم وعجز كل من يدعونه من دونه ، وأنه لا يقدر على الإتيان بذلك الماء الذي هو حياة الأشباح بعد ذهابه إلا من تمت قدرته ، فكان قادراً على كل ما يريد ، وكان لا يقدر على كل{[67196]} ما يريده إلا من كمل علمه الذي يحيي به ميت{[67197]} الأرواح ، دل على شمول قدرته بكمال علمه بما أفاده على هذا النبي الكريم الأمي من العلوم التي زخرت بحارها ، فأحيا مدرارها ، وأغرق تيارها ، فافتتح هذه السورة بكلمة البيان ، وهو اسم الحرف الذي هو آخر حروف تلك ، ومن لوازم بعض ما دل عليه الماء الذي هو الحياة المصححة ، ونبه على {[67198]}نصبه له{[67199]} سبحانه دليلاً على العلم{[67200]} بما دل عليه من مخرج مسماه وصفاته ومواقعه في الكلم في جميع تقلباته فقال : { ن } هذه الكلمة حرف من حروف المعجم وهي{[67201]} اسم لمسمى به ظهور الأشياء وعلمها وإدراكها ، كما دل عليه موقعه في اسم النور والنار والنيل والنمو والنباهة والنقاء والنصح والنبأ والنجابة والنجاة والنحت والندم ، وقد تقدم في البقرة عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال : لكل كتاب سر وسر القرآن هذه الحروف ، ولا يعلم ما هي إلا واضعها سبحانه .

ولما كان هذا الحرف مشتركاً في اللغة بين حرف المعجم والدواة والحوت وشفرة السيف ، سكن للدلالة بادىء بدء على أنه حرف ، ولا يمنع إسكانه المتأصل في البناء من إرادة بقية المعاني ، لأن العرب ربما سكنت الكلمة بنية الوقف تنبيهاً على عظمة معناها ، فلا يلزم من الإسكان عن غير عامل البناء ، وقيل : النون اللوح ، والنونة الكلمة من الصواب ، والسمكة ، فهو صالح لحرف المعجم الكلي الصالح لكل{[67202]} فرد ، وعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه آخر حروف الرحمن{[67203]} والدواة لما يتأثر عنها من العلوم ، والحوت الذي على ظهره الكون واسمه البهموت ، لما في ذلك من عجائب القدر والأسرار ، ويكون الإقسام {[67204]}وقع بالنون{[67205]}سفلا والقلم علواً للإحاطة ، والسيف لما يتأثر عنه{[67206]} من جليل الآثار ، وكيفما كان المراد فهو الإحاطة ، وهو سر باطن لا يظهر ، وإنما تظهر نتائجه ، فهو{[67207]} الحكم ونتائجه القضاء والقدر بالإشقاء أو{[67208]} الإسعاد .

ولما كان هذا الحرف آية الكشف للأشياء ، كان مخرجه أمكن المخارج وأيسرها وأخفها وأوسعها{[67209]} وهو رأس المقول ، فإنه يخرج مما{[67210]} بين طرف اللسان وفويق الثنايا{[67211]} من اللثة ، وهو أخرج من مخرج اللام ومن مخرج الراء أيضاً ، وتسمى هذه الحروف الثلاثة{[67212]} الزلقية مع بقية حروف " فر من لب " لأن طرف كل شيء زلقة ، والنون أمكنها في هذا المخرج وأشدها انطباقاً فيما بين اللسان واللثة ، وهو مما كرر مسماه في اسمه فانتهى إلى حيث ابتدأ ، واختص بكون عماده وقوامه الحرف الأقوى الأظهر ذا الرفعة والعلو وهو الواو والزلقية التي هو أحدها ضد المصمتة{[67213]} وهي أخف الحروف على اللسان وأكثرها امتزاجاً بغيرها ، وأما المصمتة فمنعت{[67214]} أن تنفرد بنفسها في لغة العرب في كلمة هي أكثر من ثلاثة أحرف ، بل لا بد أن يكون معها بعض الزلقية ، والألف خارجة {[67215]}عن الصنفين{[67216]} لأنها مجرد إهواء لا مستقر لها ، فقد ناسبت بمخرجها لسعته وخفته ، ووصفها بالزلاقة التي تقع لما اتصف بها من الحروف الكمال{[67217]} غنية عن سواها ولا يقع لما لم يخالطها كمال فيما ذكر ما{[67218]} ذكر من أن معناها البيان والإظهار ومن صفاتها الجهر وبين الشدة والرخاوة والانفتاح والاستفال ، والغنة الخارجة من الخيشوم إذا سكن ، وكل هذا واضح في العلم الذي له الاتساع والانتشار والتغلغل في الأشياء الباطنة ، ويشاركه الميم في الغنة كما أنه يشاركه في أن له حظاً من الظهور والنون وهو الأصل في الغنة كما أنه{[67219]} الأصل في الظهور لما له من العلو بالعماد ، وهو أيضاً من حروف الذبذبة والزيادة التي لا تستقر على حال ، فتقع مرة زوائد وأخرى أصولاً ، كما أن العلم أيضاً كذلك لا استقرار له بل مهما وسعته اتسع ، ومهما تركته اضمحل وانجمع ، وهو من حروف الإبدال التي تبدل من غيرها ولا يكون غيرها بدلاً منها ، فلازب ولازم الميم بدل من الباء ، بخلاف العكس ، كما أن العلم أصل يتبعه غيره ولا يكون هو تابعاً لغيره ، وهي{[67220]} من الحروف الصحيحة وليست معتلة ، والعلم جدير بهذا الوصف ، وهو إذا كان مخفي{[67221]} من الحروف المشربة ويقال لها المخالطة - بكسر اللام وفتحها ، وهي التي اتسعت فيها العرب فزادتها على التسعة والعشرين المستعملة وهي{[67222]} من الحروف الصم وهي ما عدا الحلقية ، {[67223]}سميت بذلك لتمكنها في خروجها{[67224]} من الفم واستحكامها فيه ، يقال للمحكم المصمت و{[67225]}العلم أشد ما يكون مناسبة لهذا الوصف ، فقد انطبقت بمخرجها وجميع صفاتها على العلم الذي هو مقصود السورة فتبين حقاً أنه مقصودها ، وأما رتبة القلم في بيان{[67226]} العلم وإظهاره وكشف خفاياه وأسراره وبثه وإشهاره ، فهي بحيث لا يجهلها أحد اتصف بالعقل ، ومما يختص به هذا الحرف أنه يصحب كل حرف ، لأن حده هو ما يعبر عنه التنوين الذي انتظامه بالحركات ، هو ما آيته العلم المكمل {[67227]}به الحياة{[67228]} التي هي آية ما يعبر عنه هذه الحركات ، فلما كانت هذه الحركات آية على ما هو الحياة ، كان التنوين عقبها آية على ما به كمال الحياة من العلم ، وهو سبب لما به القيام من{[67229]} الظهور ، ومن معناه اسمه تعالى النور ، ثم {[67230]}هو اسم لكل ما يظهر ما{[67231]} خفي باطناً كالعلم في الإدراك الذي تظهر حقائق الأشياء به ، وظاهراً كالنيرين للعيون ، وسائر الأنوار الظاهرة والباطنة ، وما هو وسيلة الظهور كالعيون مما به تشاهد الأشياء ويظهر به{[67232]} صورها ، والدواة التي منها مداد ما كتب بالقلم في العوالم أعلاها وأدناها ، وكل آلة يتوصل بها إلى إظهار صورة تكون تماماً كماء المزن ، الذي هو مداد كل شيء كوّن الله به الكائنات والبادئات " وجعلنا من الماء كل شيء حي " ومنه معنى النجم النباتي الذي هو للشجر بمنزلة الفول للبشر متلبساً{[67233]} بالنور - بالفتح - الذي فيه حظ من النور - بالضم - والذرء الذي هو ظاهر في نفسه مظهر لطرق الاهتداء ، وكذلك الأمر في النار المخلصة من رتبة ظلمتها التي هي غايتها بالرماد ، وابتداؤها بما يخرج منه من شجر وحديد وحجر .

ولما كان هذا الحرف اسماً لما به ظهور أمر لم يختص بشيء من المظهرات دون آخر ، بل شمل النور والحاسة والمراد والمادة ، ولذلك كان مع الكاف الذي هو علم التكوين سبب ظهور كل شيء .

{ إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون }[ النحل : 40 ] ولصدقه على كل{[67234]} مظهر فسره ابن عباس رضي الله عنهما بالدواة ، ففسر بما يستمد منه القلم ، وليلحظ موقعه في نجد ، فإنه اسم لما ارتفع من الأرض ، وظهر في نفسه وأظهر غيره ، وفي نهود الجارية وهو ظهور نهدها ، {[67235]}وفي{[67236]} النهب وهو ما أخذ أخذاً ظاهراً كما قال صلى الله عليه وسلم{[67237]} " ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم " وفي النفخ والنفع والنصر والنقر والنقب وما أشبهها ، فإنها كلها ظهور وإظهار كالنم والمن والنمء . ولأجل علوه واستبطانه وأنه استغراق المظهر المبين كانت إقامته {[67238]}يتعالى{[67239]} الألف وهو الواو وانتهاؤه إلى مثل ما بدأ به ، ولكون الميم تماماً كان قوامه بمتنزل كالألف التي هي الياء{[67240]} في قولك ميم ، ولرجوع الواو إلى علو الألف كان عمادها الألف في قولك " واو " وهذه الحروف الثلاثة ظاهرة في عالمين ظاهرهما المبدوء به{[67241]} وباطنهما المختوم به ، فالنون الأولى يعبر بها عن نور الأبصار ، والخاتمة يعبر بها عن نور القلب ، ولما كان الهاء وتر الدال ، وكان محيطاً باطناً غيباً ، وجب أن يكون محل تضعيفه بالياء محل محيط باطن{[67242]} نازل الرتبة في الغيب عن الهاء لوقوعه في رتب العشرات وهو النون ، فكان ظاهراً بالإضافة {[67243]}إلى خفاء الهاء باطناً بالإضافة{[67244]} إلى ظهور الميم ، فيكون بالنون ظهور الميم المعبر عن " الملك " الذي سبق في السورة الماضية ، كما كان{[67245]} شهادة الدال وثبوته بالهاء .

ولذلك انبنى تمام كل عمل على نور علم ، كما كان قوام ظاهر كل دال غير هاء ، وكان النون مداداً{[67246]} لمثل العلم الذي يظهر صورها بسطر القلم ، حتى أن آية ما بطن منه فأظهره القلم ، هو ما بطن دون الأرض من النون الذي عليه الأرض ، الذي أول ما يطعمه أهل الجنة زيادة كبده مع الثور الذي عليه الأرض أيضاً{[67247]} الذي يذبح لهم - على ما ورد في الخبر ، وقابل استبطان النون في الأرض ظهور القاف على ظاهرها ، الذي هو جبل الزبرجد المحيط بالدنيا ، وعن ذلك الاستيلاء على القلوب في الدنيا إنما يكون بالعلم الذي هو حقيقة نون ، كما أن الاستيلاء على الأجسام في ظاهر الدنيا إنما يكون بالقدرة التي هي حقيقة قاف ، على ما يظهر من إجالتي العلماء في النون الأبطن ، والملوك في القاف الأظهر ، وهذان الصنفان{[67248]} من الخلق هما المستوليان على الناس بالأيالة ونفوذ الأمر ، ولذلك أقيم المفصل من القرآن بحرفي قاف ونون ، واقترن أيضاً هذان{[67249]} الحرفان في كلمة القرآن ولفظ الفرقان اللذين هما في ظواهر أسمائه ، وإنما كان أول ما يطعمه أهل الجنة من الثور الذي عليه الدنيا الذي كان{[67250]} يرعى في أطراف الجنة - على ما ورد عنه عليه أفضل الصلاة والسلام ، لأن صورة الثور هي معنى ما هو الكد والكدح{[67251]} وجهد{[67252]} العمل في الأرض الذي قام عليه أمر الدنيا ، ولما كان أهل الدنيا أول ما يراحون منه من أمر الدنيا تقديم أمر الكد بين يدي معاشهم في الجنة ، كان الذي يذبح{[67253]} لهم الثور الذي هو صورة كدهم فيأكلونه ، فهو جزاء ما عملوا به في دنياهم من حيث كانوا ذوي دين ، فاستحقوا بذلك جزاء كدهم بما هو صورته ، وأضيف لذلك زيادة{[67254]} كبد النون التي{[67255]} هي صورة حظهم من أصل العلم ، فأطعموها وجوزوا بها ، وروعي في أعمالهم حسن نيتهم في أصل دينهم ، فلما أتوا عليهما استقبلوا الراحة والخروج عن الكلفة في معاشهم في الجنة ، والذي جرهم به سبحانه إلى سني هذه الرتبة ما أتقنه بحكمته من ثناء المفصل القرآني على حرفي القاف الذي به {[67256]}القوة والقهر{[67257]} والقدرة ، والنون الذي به إظهار ذلك للعقل بنور العلم ، و{[67258]}ذلك أن القرآن نزله سبحانه مثاني ، ضمّن ما عدا المفصل منه الذي هو{[67259]} من قاف إلى خاتمة الكتاب العزيز ، وفاتحته ما يختص بأولي العلم والفقه من مبسوطات الحكم ومحكمات الأحكام ومطولات الأقاصيص ومتشابه الآيات ، والسور المفتتحة بالحروف العلية{[67260]} الإحاطة الغيبية المنحى المستندة إلى آحاد الأعداد ، مما يختص بعلم ظاهرها خاصة الأمة ، ويختص بأمر باطنها آل محمد صلى الله عليه وسلم ، فلعلو رتبة إيراد ما عدا المفصل ثنى {[67261]}الحق تعالى{[67262]} الخطاب وانتظمه في سور{[67263]} كثيرة العدد يسيرة عد الآي هي المفصل ، ذكر فيها من أطراف القصص والمواعظ والأحكام والأنباء وأمر الجزاء ، ما يليق بسماع العامة ليسهل عليهم سماعه ، وليأخذوا بحظ مما أخذ الخاصة ، ويتكرر على أسماعهم في قراءة الأئمة له في الصلوات المفروضة{[67264]} التي لا مندوحة لهم عنها ما يكون لهم خلقاً مما يفوتهم من مضمون سائر السور المطولات ، فكان أحق ما افتتح به مفصلهم حرف القاف الذي هو وتر الآحاد حتى صارت عشرة ، ثم إذا ضربت{[67265]} في نفسها صارت مائة ، فافتتح به المفصل ، ليكون مضمون ما يحتوي عليه أظهر مما يحتوي عليه ما افتتح ب الم ، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقرأ في خطبة يوم الجمعة سورة " ق " {[67266]} فيفتتح للعامة المتوجه بخطبة يوم الجمعة إليهم ، لأنها صلاة جامعة الظاهر بفاتحة المفصل الخاص ، وفي مضمونها من معنى القدرة والقهر المحتاج إليه في إقامة أمر العامة ما فيه كفاية ، وشفعت بسورة " ن " {[67267]} المظهرة ظاهر " ق " فخصوا بما فيه القهر والإبانة ، واختصت سورة " ن " من مقتضى العلم بما هو محيط بأمر العامة المنتهي إلى غاية الذكر الشامل للعالمين ، لأن القوة المعربة عن العلم ، ربما كان ضررها أكثر من نفعها ، كما قال بعض السلف : كل عز لم يوطده علم فإلى ذل يؤول ، وكما كان جميع السور{[67268]} التسع والعشرين المفتتحة بالحروف المتضمنة للمراتب التسع في التسعة وللعاشر الجامع للمراتب التسع بإيتار{[67269]} آحادها ، والعاشر الجامع يضرب العشر الموتر في نفسه قواماً وإحاطة في جميع القرآن ، كذلك كانت سورة " ق " وسورة " ن " قواماً خاصاً وإحاطة{[67270]} خاصة بما يخص العامة من القرآن الذي يجمعهم الأرض بما أحاط من ظاهرها من صورة جبل " ق " وما أحاط بباطنها من صورة حيوان " ن " الذين تمام أمرهم بما بين مددي إقامتهما{[67271]} ، وبهذه السورة المفتتحة بالحروف{[67272]} ظهر اختصاص القرآن وتميز عن سائر الكتب لتضمنه الإحاطة التي لا تكون إلا {[67273]}للخاتم الجامع{[67274]} ، واقترن من التفصيل في سورها ما يليق بإحاطتها ، ولإحاطة معانيها وإبهامها كان كل ما فسرت به من معنى يرجع إلى مقتضاها صحيحاً في إحاطتها بمتنزلها{[67275]} من أسماء الله وترتبها في{[67276]} جميع العوالم ، فلا يخطىء فيها مفسر لذلك ، لأنه كلما قصد وجهاً من التفسير لم يخرج عن إحاطة ما يقتضيه ، ومهما فسرت به من{[67277]} أسماء الله أو من أسماء الملائكة أو من أسماء الأنبياء ، أو من مثل{[67278]} الأشياء أو صور الموجودات ، أو من أنها أقسام أقسم بها أو فواتح عرفت بها{[67279]} السور أو{[67280]} أعداد تدل على حوادث وحظوظ من ظاهر الأمر أو{[67281]} باطنه على اختلاف رتب وأحوال ، مما أعطيه المنزل عليه صلى الله عليه وسلم من مقدار أمد الخلافة والملك والسلطنة ، وما ينتهي إليه أمره من ظهور الهداية ونحو ذلك مما يحيط بأمد يومه إلى غير ذلك وكل داخل في إحاطتها ، ولذلك أيضاً لا يختص بمحل مخصوص يلزمه علامة إعراب مخصوصة ، فمهما قدر{[67282]} في مواقعها من هذه السور{[67283]} جراً أو رفعاً أو نصباً فداخل في إحاطة رتبتها ولم يلزمها{[67284]} معنى خاص لما لم يكن لها انتظام ، لأنها{[67285]} مستقلات محيطات ، وإنما ينتظم {[67286]}ما يتم معنى{[67287]} كل واحد من المنتظمين بحصول الانتظام ، وذلك يختص من الكلم بما يقصر{[67288]} عن إحاطة مضمون الحروف حتى أنه متى{[67289]} وقع استقلال وإحاطة في كلمة لم يقع فيها انتظام{[67290]} .

ولما كان قوام هذا الوجود بالسيف والقلم ، وكان " نون " {[67291]} مشتركاً بين معان منها السيف والدواة التي هي آلة القلم ، واللوح الذي هو محل ما يثبت {[67292]}من العلم{[67293]} ، وكان السيف قد تقدم في حيز القاف الذي افتتحت به سورة " ق " كما هو أنسب لتضمنه{[67294]} القوة والقدرة والقهر{[67295]} في سورة الحديد بعد الوعظ والتهديد والتذكير بالنعم في السورة الواقعة بينهما ، ذكر هنا ما هو لحيز النون من آية العلم فقال مقسماً بعد حرف " ن " {[67296]} : { والقلم } أي قلم القدرة الذي هو أول ما أبدعه الله ، ثم قال له : اكتب ، فخط جميع الكائنات{[67297]} إلى يوم القيامة في اللوح المحفوظ حقيقة ، وفي ألواح صفحات الكائنات حالاً ومجازاً ، فأظهر جميع العلوم ، ثم ختم على فيه فلم ينطق ولا ينطق إلى يوم القيامة ، والذي يكتب فيه{[67298]} الخلق ما نولهم الله من تلك المعارف والفهوم ، وذلك هو قوام أمور الدنيا ، والإشارة به إلى القضاء الذي هو من نتائج " ن " لأنه من مصنوعات{[67299]} الله الظاهرة التي اقتضت{[67300]} حكمته سبحانه إيجادها ووجهه إلى تفصيل ما جرى به الحكم .

ولما كان الحاصل بالقلم من بث الأخبار ونشر العلوم على تشعبها والأسرار ما يفوق الحصر ، فصار{[67301]} كأنه العالم المطيق واللسن المنطيق ، وكان المراد به الجنس أسند إليه كما يسند إلى{[67302]} العقلاء فقال : { وما يسطرون * } أي قلم القدرة ، وجمعه وأجراه مجرى أولي العلم للتعظيم لأنه فعل أفعالهم ، أو الأقلام على إرادة الجنس ، ويجوز أن يكون{[67303]} الإسناد إلى الكاتبين به لما دل عليهم من ذكره ، إما الملائكة إن كان المراد ما كتب في الكتاب المبين واللوح المحفوظ وغيره مما يكتبونه ، وإما كل من يكتب منهم ومن غيرهم حتى أصحاب الصحيفة الظالمة التي تقاسموا فيها على أن يقاطعوا بني هاشم ومن{[67304]} لافهم ، حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعون به ما شاؤوا ، وكيف ما كان فهو إشارة إلى المقدر {[67305]}لأنه إنما{[67306]} يسطر ما قضى به وحكم .


[1]:- هكذا ثبتت العبارة في النسخة المخزونة بالرباط – المراقش التي جعلناها أصلا وأساسا للمتن، وكذا في نسخة مكتبة المدينة ورمزها "مد" وموضعها في نسخة دار الكتب المصرية ورمزها "م": رب زدني علما يا فتاح.
[2]:- في م ومد: قال أفقر الخلائق إلى عفو الخالق؛ وفي الأصل: أبو إسحاق – مكان: أبو الحسن، والتصحيح من الأعلام للزركلي ج1 ص 50 وعكس المخطوطة أمام ص 56 وهامش الأنساب للسمعاني ج2 ص280.
[3]:- ضبطه في الأعلام بضم الراء وتخفيف الباء.
[4]:- ضبطه الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني رحمه الله في تعليقه على الأنساب ج2 ص280 وقال: البقاعي يكسر الموحدة وفتح القاف مخففة وبعد الألف عين مهملة بلد معروف بالشام ينسب إليه جماعة أشهرهم الإمام المفسر إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي أبو الحسن برهان الدين من أجلة أهل القرن التاسع له عدة مؤلفات ولد سنة 809 وتوفي سنة 885 – اهـ.
[5]:- في م ومد: لطف الله بهم أجمعين، إلا أن لفظ "اجمعين" ليس في مد. والعبارة من "وآله" إلى هنا ليست في نسخة المكتبة الظاهرية ورمزها "ظ".
[6]:- في م ومد: لطف الله بهم أجمعين، إلا أن لفظ "اجمعين" ليس في مد. والعبارة من "وآله" إلى هنا ليست في نسخة المكتبة الظاهرية ورمزها "ظ".
[7]:- في م ومد وظ: برسالته.
[8]:- ليس في م ومد وظ.
[9]:- سورة 38 آية 29.
[10]:- في م وظ: اخرجه.
[11]:- ليس في م.
[67195]:- من ظ، وفي الأصل وم: شواهدهم.
[67196]:- زيد من ظ وم.
[67197]:- من ظ وم، وفي الأصل: موت.
[67198]:- من ظ وم، وفي الأصل: نفسه به.
[67199]:-من ظ وم، وفي الأصل: نفسه به.
[67200]:-من ظ وم، وفي الأصل: القلم.
[67201]:- من ظ وم، وفي الأصل: هو.
[67202]:- زيد من ظ وم.
[67203]:- زيد من ظ وم.
[67204]:- من ظ وم، وفي الأصل: وعلى النون.
[67205]:- من ظ وم، وفي الأصل: وعلى النون.
[67206]:- من ظ وم، وفي الأصل: علمه.
[67207]:- من ظ وم، وفي الأصل: وهو.
[67208]:- من ظ وم، وفي الأصل: "و".
[67209]:- من ظ وم، وفي الأصل: هو أومع.
[67210]:- في م: ما.
[67211]:- زيد في الأصل: واللثة، ولم تكن الزيادة في ظ وم فحذفناها.
[67212]:- زيد من ظ وم.
[67213]:- تكرر ما بين الرقمين في الأصل.
[67214]:- تكرر ما بين الرقمين في الأصل
[67215]:- من ظ وم، وفي الأصل: من الصفتين.
[67216]:- من ظ وم، وفي الأصل: من الصفتين.
[67217]:- من ظ وم، وفي الأصل: بياض.
[67218]:- من ظ وم، وفي الأصل: مما.
[67219]:- زيد من ظ وم.
[67220]:- من ظ وم، وفي الأصل: هو.
[67221]:- من ظ وم، وفي الأصل: يحسا.
[67222]:- من ظ وم، وفي الأصل: هو.
[67223]:- تكرر ما بين الرقمين في الأصل.
[67224]:- تكرر ما بين الرقمين في الأصل.
[67225]:- زيد من ظ.
[67226]:- زيد في الأصل: إظهار، لم تكن الزيادة في ظ وم فحذفناها.
[67227]:- من ظ وم، وفي الأصل: بالحياة.
[67228]:- من ظ وم، وفي الأصل: بالحياة.
[67229]:- من ظ وم، وفي الأصل: بل.
[67230]:- من م، وفي الأصل وظ "و".
[67231]:- من م، وفي الأصل وظ: من.
[67232]:- زيد من م.
[67233]:- في ظ وم: ملتبسا.
[67234]:- زيد من ظ وم.
[67235]:- من ظ وم، وفي الأصل: وفق.
[67236]:- من ظ وم، وفي الأصل: وفق.
[67237]:- راجع صحيح مسلم-كتاب الإيمان.
[67238]:- تكرر في الأصل فقط.
[67239]:- من ظ وم، وفي الأصل: تعالى.
[67240]:- من م، وفي الأصل: في اليد، وفي ظ: كانت هي الياء.
[67241]:- من ظ وم، وفي الأصل: بكهما.
[67242]:- زيد من ظ وم.
[67243]:- سقط ما بين الرقمين من ظ.
[67244]:- سقط ما بين الرقمين من ظ.
[67245]:- زيد في الأصل: قوام ظاهر كل ذال، ولم تكن الزيادة في ظ وم فحذفناها.
[67246]:- من ظ وم، وفي الأصل: مرارا.
[67247]:- زيد من م.
[67248]:- من ظ وم، وفي الأصل: الصفتان.
[67249]:- من ظ وم، وفي الأصل: هذا.
[67250]:- زيد من ظ وم.
[67251]:- من ظ وم، وفي الأصل: القدح.
[67252]:- من ظ وم، وفي الأصل: حمل.
[67253]:زيد من ظ وم
[67254]:- من ظ وم، وفي الأصل: لزيادة.
[67255]:- من ظ وم، وفي الأصل: الذي.
[67256]:- من ظ وم، وفي الأصل: القهر والقوة.
[67257]:- من ظ وم، وفي الأصل: القهر والقوة.
[67258]:- زيد من ظ وم.
[67259]:- زيد من ظ وم.
[67260]:- من ظ وم، وفي الأصل: العالية.
[67261]:- من م، وفي الأصل: معالي، والعبارة من "ثنى" إلى "هي المفصل" ساقطة من ظ.
[67262]:- من م، وفي الأصل: معالي، والعبارة من "ثنى" إلى "هي المفصل" ساقطة من ظ.
[67263]:- من م، وفي الأصل: سيرة.
[67264]:- من ظ وم، وفي الأصل: المفروضات.
[67265]:- زيد في الأصل: مثلها وفي، ولم تكن الزيادة في ظ وم فحذفناها.
[67266]:- زيد من ظ وم.
[67267]:- زيد في الأصل من مقتضى، ولم تكن الزيادة في ظ وم فحذفناها.
[67268]:- زيد في الأصل: المفصل، ولم تكن الزيادة في ظ وم فحذفناها.
[67269]:- من ظ وم، وفي الأصل: تيار.
[67270]:- زيد من ظ وم.
[67271]:- من م، وفي الأصل وظ: إقامتها.
[67272]:- زيد من ظ وم.
[67273]:- من ظ وم، وفي الأصل: للجامع الخاتم.
[67274]:- من ظ وم، وفي الأصل: للجامع الخاتم.
[67275]:- من ظ وم، وفي الأصل: مترتبها.
[67276]:- من م، وفي الأصل: من، والعبارة من "وترتبها" إلى "أسماء الله" ساقطة من ظ .
[67277]:- زيد من م.
[67278]:- من م، وفي الأصل: من، والعبارة من "وترتبها" إلى "أسماء الله" ساقطة من ظ .
[67279]:- من ظ وم، وفي الأصل: السورة و.
[67280]:- من ظ وم، وفي الأصل: السورة و.
[67281]:- من م، وفي الأصل و ظ "و".
[67282]:- زيد في الأصل: شك، ولم تكن الزيادة في ظ وم فحذفناها.
[67283]:- من ظ وم، وفي الأصل: السورة.
[67284]:- من ظ وم، وفي الأصل: يكن منها.
[67285]:- من ظ وم، وفي الأصل: لأنه.
[67286]:- من ظ وم، وفي الأصل: معنى ما لا يتم.
[67287]:- من ظ وم، وفي الأصل: معنى ما لا يتم.
[67288]:- من ظ وم، وفي الأصل: يقتصر.
[67289]:- من ظ وم، وفي الأصل: من.
[67290]:-زيد في الأصل: والله الهادي عنه للصواب، ولم تكن الزيادة في ظ وم فحذفناها.
[67291]:- زيد من ظ وم.
[67292]:- من م، وفي الأصل وظ: القلم.
[67293]:- من م، وفي الأصل وظ: القلم.
[67294]:- من ظ وم، وفي الأصل: القهر والقوة.
[67295]:- من ظ وم، وفي الأصل: القهر والقوة.
[67296]:- سقط ما بين الرقمين من ظ وم.
[67297]:- زيد في الأصل: على ما فيه،ولم تكن الزيادة في ظ وم فحذفناها.
[67298]:- من ظ وم، وفي الأصل: له.
[67299]:- من ظ وم، وفي الأصل: منصوبات.
[67300]:- من ظ وم، وفي الأصل: اختصت.
[67301]:-في م: فكان.
[67302]:- زيد من ظ وم.
[67303]:- زيد في الأصل: المراد، ولم تكن الزيادة في ظ وم فحذفناها.
[67304]:- زيد من ظ وم.
[67305]:- من ظ وم، وفي الأصل: المقدور.
[67306]:- من ظ وم، وفي الأصل: مما.
 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{نٓۚ وَٱلۡقَلَمِ وَمَا يَسۡطُرُونَ} (1)

مقدمة السورة:

بيان إجمالي للسورة :

هذه السورة مكية وآياتها ثنتان وخمسون . وهي مبدوءة بالقسم من الله ، إذ يقسم بالقلم وبما يكتبه الكاتبون ، على صدق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأمانته وأنه غير مجنون ، كما يهذي السفهاء والجهلاء من المشركين الضالين . بل إنه في غاية الحسن والكمال من الخلق البشري المفضال بشهادة الله الخالق { وإنك لعلى خلق عظيم } .

وفي السورة تحذير من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من الاغترار بالمشركين المكذبين ، ومن مداهنتهم وكيدهم وإضلالهم . وفيها تخويف من أهوال القيامة وما يقع فيها من أحداث مخوفة جسام . ويتجلى ذلك في قوله سبحانه : { يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون } لا جرم أن الساعة رعيبة مخوفة ، وفيها من البلايا والنوازل والفظائع ما يزلزل القلوب والأبدان .

وفي السورة بيان بحقيقة العين الحاسدة ، التي تزلق المصابين المحسودين ، لنبين عند ذلك أن سبيل التحرز من حسد الحاسدين ، قراءة القرآن ، ثم الضراعة إلى الله بالدعاء .

إلى غير ذلك من المعاني والمواعظ التي تفيض بها هذه السورة في آياتها العجاب ، وعباراتها المثيرة الحسان ، وألفاظها الربانية العليا .

بسم الله الرحمان الرحيم

{ ن والقلم وما يسطرون 1 ما أنت بنعمة ربك بمجنون 2 وإن لك لأجرا غير ممنون 3 وإنك لعلى خلق عظيم 4 فستبصر ويبصرون 5 بأييّكم المفتون 6 إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين } .

{ ن } حرف من حروف التهجي كغيره من فواتح السور وقد سميت به السورة ، وما ينبغي أن نذهب بعيدا في تأويل هذا الحرف ، كي لا نوغل أو نتيه في الشطحات من الإسرائيليات . فالله أعلم بما يريده من مثل هذه الحروف .

قوله : { والقلم وما يسطرون } أقسم الله بالقلم لما فيه من البيان وما يناط به من التبيين . وهو في ذلك كاللسان ينطق بالمعاني فتعيها الآذان وتدركها الأذهان . وفي القسم من الله بالقلم ما يدل على الأهمية البالغة للقلم الذي تخطّ به العلوم والمعارف وكل الدروس والأخبار والحكم . والمراد به كل قلم مما يكتب به الكاتبون سواء في الأرض أو السماء { وما يسطرون } ما ، اسم موصول . أي والذي يسطرون . والضمير عائد إلى أصحاب القلم الذين يكتبون به . والمعنى : وما يكتبه الكاتبون من الناس أو الملائكة الحفظة .