قلوب الرجال الذين ( لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ) . . والتجارة والبيع لتحصيل الكسب والثراء . ولكنهم مع شغلهم بهما لا يغفلون عن أداء حق الله في الصلاة ، وأداء حق العباد في الزكاة : ( يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ) . . تتقلب فلا تثبت على شيء من الهول والكرب والاضطراب . وهم يخافون ذلك اليوم فلا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله .
وقوله : رجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ يقول تعالى ذكره : لا يشغل هؤلاء الرجال الذي يصلّون في هذه المساجد التي أذن الله أن ترفع عن ذكر الله فيها وإقام الصلاة ، تجارة ولا بيع . كما :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن حعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن سعيد بن أبي الحسن ، عن رجل نسي اسمه في هذه الآية : فِي بُيُوتٍ أذِنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيها اسمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيها بالغُدُوّ والاَصَالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ . . . إلى قوله : والأبْصَارِ قال : هم قوم في تجاراتهم وبيوعهم ، لا تلهيهم تجاراتهم ولا بيوعهم عن ذكر الله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا جعفر بن سليمان ، عن عمرو بن دينار ، عن سالم بن عبد الله : أنه نظر إلى قوم من السّوق قاموا وتركوا بباعاتهم إلى الصلاة ، فقال هؤلاء الذين ذكر الله في كتابه : لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ . . . الآية .
قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، عن سيار ، عمن حدثه ، عن ابن مسعود ، نحو ذلك .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هُشَيم ، عن سيار ، قال : حُدثت عن ابن مسعود ، أنه رأى قوما من أهل السوق حيثُ نودي بالصلاة تركوا بِياعاتهم ونهضوا إلى الصلاة ، فقال عبد الله : هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه : لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ .
وقال بعضهم : معني ذلك : لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عن صلاتهم المفروضة عليهم . ذكر من قال ذلك :
حدّثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : ثم قال : رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ يقول : عن الصلاة المكتوبة .
وقوله : وَإقامِ الصّلاةِ يقول : ولا يشغلهم ذلك أيضا عن إقام الصلاة بحدودها في أوقاتها .
وبنحو قولنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد ، قال : حدثنا عوف ، عن سعيد بن أبي الحسن ، عن رجل نسي عوف اسمه في : وَإقامِ الصّلاةِ قال : يقومون للصلاة عند مواقيت الصلاة .
فإن قال قائل : أو ليس قوله : وَإقامِ الصّلاةِ مصدرا من قوله أقمت ؟ قيل : بلى . فإن قال : أو ليس المصدر منه إقامة ، كالمصدر من آجرت إجارة ؟ قيل : بلى . فإن قال : وكيف قال : وَإقامِ الصّلاةِ ، أو تجيز أن نقول : أقمت إقاما ؟ قيل : ولكني أجيز : أعجبني إقام الصلاة . فإن قيل : وما وجه جواز ذلك ؟ قيل : إن الحكم في أقمت إذا جعل منه مصدر أن يقال إقواما ، كما يقال : أقعدت فلانا إقعادا وأعطيته إعطاء ولكن العرب لما سكنت الواو من «أقمت » فسقطت لاجتماعها وهي ساكنة والميم ووهي ساكنة ، بنَوا المصدر على ذلك إذ جاءت الواو ساكنة قبل ألف الإفعال وهي ساكنة ، فسقطت الأولى منهما ، فأبدلوا منها هاء في آخر الحرف ، كالتكثير للحرف ، كما فعلوا ذلك في قولهم : وَعَدته عِدَة ، ووزنته زِنة إذ ذهبت الواو من أوّله ، كثّروه من آخره بالهاء فلما أضيفت الإقامة إلى الصلاة ، حذفوا الزيادة التي كانوا زادوها للتكثير ، وهي الهاء في آخرها لأن الخافض وما خفض عندهم كالحرف الواحد ، فاستغنَوا بالمضاف إليه من الحرف الزائد . وقد قال بعضهم في نظير ذلك :
إنّ الخَلِيطَ أجَدّوا البَيْنَ فانْجَرَدوا *** وأخْلَفوكَ عِدَ الأمْرِ الّذِي وَعَدُوا
يريد : عدة الأمر . فأسقط الهاء من العدة لما أضافها ، فكذلك ذلك في إقام الصلاة .
وقوله : وَإيتاءِ الزّكاةِ قيل : معناه : وإخلاص الطاعة لله . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وأقِيمُوا الصّلاةَ وآتُوا الزّكاةَ وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة . وقوله : وأوْصَانِي بالصّلاةِ والزّكاةِ ، وقوله : وَلَوْلا فَضْلُ اللّهُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أحَدٍ أبَدا ، وقوله : وَحَنانا مِنْ لَدُنّا وَزَكاةً ونحو هذا في القرآن ، قال : يعني بالزكاة : طاعة الله والإخرص .
وقوله : يخافُونَ يَوْما تَتَقَلّبُ فِيهِ القُلُوبُ والأبْصَارُ يقول : يخافون يوما تتقلب فيه القلوب من هوله ، بين طمع بالنجاة وحذر بالهلاك . والأبصار : أيّ ناحية يؤخذ بهم : أذات اليمين أم ذات الشمال ؟ ومن أين يُؤْتون كتبهم : أمن قِبَل الأيمان أو من قبل الشمائل ؟ وذلك يوم القيامة . ) كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال عبد الله بن عياش ، قال زيد بن أسلم ، في قول الله : فِي بُيُوتٍ أذِنَ اللّهُ أنْ تُرْفَعَ . . . إلى قوله : تَتَقَلّبُ فِيهِ القُلُوبُ والأبْصَارُ يوم القيامة .
المراد بالرجال : أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان مثلهم في التعلق بالمساجد .
وتخصيص التسبيح بالرجال على هذا لأنهم الغالب على المساجد كما في الحديث : « . . . ورجلٌ قلبه معلق بالمساجد » . ويجوز عندي أن يكون { في بيوت } خبراً مقدماً و { رجال } مبتدأ ، والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن قوله : { يهدي الله لنوره من يشاء } [ النور : 35 ] فيسأل السائل في نفسه عن تعيين بعض ممن هداه الله لنوره فقيل : رجال في بيوت . والرجال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والبيوت مساجد المسلمين وغيرها من بيوت الصلاة في أرض الإسلام والمسجد النبوي ومسجد قباء بالمدينة ومسجد جؤاثى بالبحرين .
ومعنى { لا تلهيهم تجارة } أنهم لا تشغلهم تجارة ولا بيع عن الصلوات وأوقاتها في المساجد . فليس في الكلام أنهم لا يتجرون ولا يبيعون بالمرة .
والتجارة : جلب السلع للربح في بيعها ، والبيع أعم وهو أن يبيع أحد ما يحتاج إلى ثمنه .
وقرأ الجمهور : { يسبح } بكسر الموحدة بالبناء للفاعل و { رجال } فاعله . وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم بفتح الموحدة على البناء للمجهول فيكون نائب الفاعل أحد المجرورات الثلاثة وهي { له فيها بالغدو } ويكون { رجال } فاعلاً بفعل محذوف من جملة هي استئناف . ودل على المحذوف قوله : { يسبّح } كأنه قيل : من يسبحه ؟ فقيل : يُسبح له رجال . على نحو قول نهشل بن حَريّ يرثي أخاه يزيد :
لِيُبْكِ يزيدُ ضارعٌ لخصومة *** ومختبطٌ مما تُطيح الطوائح
وجملة : { لا تلهيهم تجارة } وجملة : { يخافون } صفتان ل { رجال } ، أي لا يشغلهم ذلك عن أداء ما وجب عليهم من خوف الله { وإقام الصلاة } الخ وهذا تعريض بالمنافقين .
و { إقام } مصدر على وزن الإفعال . وهو معتل العين فاستحق نقل حركة عينه إلى الساكن الصحيح قبله وانقلاب حرف العلة ألفاً إلا أن الغالب في نظائره أن يقترن آخره بهاء تأنيث نحو إدامة واستقامة . وجاء مصدر { إقام } غير مقترن بالهاء في بعض المواضع كما هنا . وتقدم معنى إقامة الصلاة في صدر سورة البقرة ( 3 ) .
وانتصب { يوماً } من قوله : { يخافون يوماً } على المفعول به لا على الظرف بتقدير مضاف ، أي يخافون أهواله .
وتقلّب القلوب والأبصار : اضطرابها عن مواضعها من الخوف والوجل كما يتقلب المرء في مكانه . وقد تقدم في قوله تعالى : { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم } في سورة الأنعام ( 110 ) . والمقصود من خوفه : العمل لما فيه الفلاح يومئذٍ كما يدل عليه قوله : { ليجزيهم الله أحسن ما عملوا } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.