في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَهَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّا ٱلسَّاعَةَ أَن تَأۡتِيَهُم بَغۡتَةٗۖ فَقَدۡ جَآءَ أَشۡرَاطُهَاۚ فَأَنَّىٰ لَهُمۡ إِذَا جَآءَتۡهُمۡ ذِكۡرَىٰهُمۡ} (18)

16

ومن ثم يعود بعد هذه اللفتة إلى الحديث عن أولئك المنافقين المطموسين الغافلين ، الذين يخرجون من مجلس رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ولم يعوا مما قال شيئا ينفعهم ويهديهم . ويستجيش قلوبهم للتقوى ، ويذكرهم بما ينتظر الناس من حساب وجزاء :

( فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة ? فقد جاء أشراطها . فأنى لهم - إذا جاءتهم - ذكراهم ? ) .

وهي جذبة قوية تخرج الغافلين من الغفلة بعنف ، كما لو أخذت بتلابيب مخمور وهززته هزا !

ماذا ينتظر هؤلاء الغافلون الذين يدخلون مجالس رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ويخرجون منها ، غير واعين ، ولا حافظين ، ولا متذكرين ? ماذا ينتظرون ? ( فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة ? ) . . فتفجأهم وهم سادرون غارون غافلون .

هل ينظرون إلا الساعة ? ( فقد جاء أشراطها ) . ووجدت علاماتها . والرسالة الأخيرة أضخم هذه العلامات ، فهي إيذان بأنها النذارة الأخيرة قرب الأجل المضروب . وقد قال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] : " بعثت أنا والساعة كهاتين " وأشار بأصبعيه السبابة والتي تليها . وإذا كان الزمن يلوح ممتدا منذ هذه الرسالة الأخيرة ؛ فإن أيام الله غير أيامنا . ولكنها في حساب الله قد جاءت الأشراط الأولى ؛ وما عاد لعاقل أن يغفل حتى تأخذه الساعة بغتة حيث لا يملك صحوا ولا ذكرا :

( فأنى لهم - إذا جاءتهم - ذكراهم ? ) . .

إنها الهزة القوية العنيفة التي تخرج الغافلين من غفلتهم ؛ والتي تتفق كذلك مع طابع السورة العنيف .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَهَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّا ٱلسَّاعَةَ أَن تَأۡتِيَهُم بَغۡتَةٗۖ فَقَدۡ جَآءَ أَشۡرَاطُهَاۚ فَأَنَّىٰ لَهُمۡ إِذَا جَآءَتۡهُمۡ ذِكۡرَىٰهُمۡ} (18)

وقوله : فَهَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ السّاعَةَ أنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أشْرَاطُها يقول تعالى ذكره : فهل ينظر هؤلاء المكذّبون بآيات الله من أهل الكفر والنفاق إلا الساعة التي وعد الله خلقه بعثهم فيها من قبورهم أحياء ، أن تجيئهم فجأة لا يشعرون بمجيئها . والمعنى : هل ينظرون إلا الساعة ، هل ينظرون إلا أن تأتيهم بغتة . وأنْ من قوله : إلاّ أنْ في موضع نصب بالردّ على الساعة ، وعلى فتح الألف من أنْ تَأْتِيَهُمْ ونصب تأتِيَهم بها قراءة أهل الكوفة . وقد :

حُدثت عن الفرّاء ، قال : حدثني أبو جعفر الرّؤاسيّ ، قال : قلت لأبي عمرو بن العلاء : ما هذه الفاء التي في قوله : فَقَدْ جاءَ أشْرَاطُها قال : جواب الجزاء ، قال : قلت : إنها إن تأتيهم ، قال : فقال : معاذ الله ، إنما هي «إنْ تَأْتِهِمْ » قال الفرّاء : فظننت أنه أخذها عن أهل مكة ، لأنه عليهم قرأ ، قال الفرّاء : وهي أيضا في بعض مصاحف الكوفيين بسنة واحدة «تَأتِهِمْ » ولم يقرأ بها أحد منهم .

وتأويل الكلام على قراءة من قرأ ذلك بكسر ألف «إن » وجزم «تأتهم » فهل ينظرون إلا الساعة ؟ فيجعل الخبر عن انتظار هؤلاء الكفار الساعة متناهيا عند قوله : إلاّ السّاعَةَ ، ثم يُبْتدأ الكلام فيقال : إن تأتهم الساعة بغتة فقد جاء أشراطها ، فتكون الفاء من قوله : فَقَدْ جاءَ بجواب الجزاء .

وقوله : فَقَدْ جاءَ أشْرَاطُها يقول : فقد جاء هؤلاء الكافرين بالله الساعة وأدلتها ومقدّماتها ، وواحد الأشراط : شَرَط ، كما قال جرير :

تَرَى شَرَطَ المِعْزَى مُهورَ نِسائهِمْ *** وفي شُرَطِ المِعْزَى لهُنّ مُهُورُا

ويُرَوى : «ترى قَزَم المِعْزَى » ، يقال منه : أشرط فلان نفسَه : إذا علمها بعلامة ، كما قال أوس بن حجر :

فأَشْرَطَ فِيها نَفْسَهُ وَهْوَ مُعْصِمٌ *** وألْقَى بأسْبابٍ لَهُ وَتَوَكّلا

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، فَقَدْ جاءَ أشْرَاطُها يعني : أشراط الساعة .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَهَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ السّاعَةَ أنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً قد دنت الساعة ودنا من الله فراغ العباد .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَقَدْ جاءَ أشْرَاطُها قال : أشراطها : آياتها .

وقوله : فأنى لَهُمْ إذَا جآءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ يقول تعالى ذكره : فمن أيّ وجه لهؤلاء المكذّبين بآيات الله ذكرى ما قد ضيّعوا وفرّطوا فيه من طاعة الله إذا جاءتهم الساعة ، يقول : ليس ذلك بوقت ينفعهم التذكر والندم ، لأنه وقت مجازاة لا وقت استعتاب ولا استعمال . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فأنّى لَهُمْ إذَا جاءَتْهُم ذِكْراهُمْ يقول : إذا جاءتهم الساعة أنى لهم أن يتذكروا ويعرفوا ويعقلوا ؟

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة فأنى لَهُمْ إذَا جاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ قال : أنى لهم أن يتذكروا أو يتوبوا إذا جاءتهم الساعة .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فأنّى لَهُمْ إذَا جاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ قال : الساعة ، لا ينفعهم عند الساعة ذكراهم ، والذكرى في موضع رفع بقوله : فأنّى لَهُمْ لأن تأويل الكلام : فأنى لهم ذكراهم إذا جاءتهم الساعة .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَهَلۡ يَنظُرُونَ إِلَّا ٱلسَّاعَةَ أَن تَأۡتِيَهُم بَغۡتَةٗۖ فَقَدۡ جَآءَ أَشۡرَاطُهَاۚ فَأَنَّىٰ لَهُمۡ إِذَا جَآءَتۡهُمۡ ذِكۡرَىٰهُمۡ} (18)

{ فهل ينظرون إلآ الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشارطها }

تفريع على ما مضى من وصف أحوال الكافرين من قوله : { أفلم يسيروا في الأرض } إلى قوله : { واتبعوا أهواءهم } [ محمد : 10 16 ] الشاملة لأحوال الفريقين ففرع عليها أن كلا الفريقين ينتظرون حلول الساعة لينالوا جزاءهم على سوء كفرهم فضمير ينظرون مراد به الكافرون لأن الكلام تهديد ووعيد ، ولأن المؤمنين ينتظرون أموراً أخر مثل النصر والشهادة ، قال تعالى : { قل هل تَربَّصُون بنا إلا إحدى الحُسْنَيْينِ } [ التوبة : 52 ] الآية . والنظر هنا بمعنى الانتظار كما في قوله تعالى : { هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك } [ الأنعام : 158 ] الآية .

والاستفهام إنكار مشوب بتهكم ، وهو إنكار وتهكم على غائبين ، موجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أي لا تحسب تأخير مؤاخذتهم إفلاتاً من العقاب ، فإنه مُرجَوْن إلى الساعة .

وهذا الاستفهام الإنكاري ناظر إلى قوله آنفاً { والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم } [ محمد : 12 ] .

والقصر الذي أفاده الاستثناء قصر ادعائي ، نُزل انتظارهم ما يأملونه من المرغوبات في الدنيا منزلة العدم لضآلة أمره بعد أن نُزلوا منزلة من ينتظرون فيما ينتظرون الساعة لأنهم لتحقق حلوله عليهم جديرون بأن يكونوا من منتظريها .

و { أن تأتيهم } بدل اشتمال من الساعة . و { بغتة } حال من الساعة قال تعالى : { لا تأتيكم إلا بغتة } [ الأعراف : 187 ] . والبغتة : الفجأة ، وهو مصدر بمعنى : المرة ، والمراد به هنا الوصف ، أي مباغتة لهم .

ومعنى الكلام : أن الساعة موعدهم وأن الساعة قريبة منهم ، فحالهم كحال من ينتظر شيئاً فإنما يكون الانتظار إذا اقترب موعد الشيء ، هذه الاستعارة تهكمية .

والفاء من قوله : { فقد جاء أشراطها } فاء الفصيحة كالتي في قول عباس بن الأحنف :

قالوا خراسانُ أقصى ما يراد بنا *** ثم القفول فقد جئنا خراسانا

وهذه الفصيحة تفيد معنى تعليل قرب مؤاخذتهم .

والأشراط : جمع شَرَط بفتحتين ، وهو : العلامة والأمارة على وجود شيء أو على وصفه . وعلامات الساعة هي علامات كونها قريبة . وهذا القرب يتصور بصورتين :

إحداهما أن وقت الساعة قريب قرباً نسبياً بالنسبة إلى طول مدة هذا العالم ومن عليه من الخلق .

والثانية : أن ابتداء مشاهدة أحوال الساعة يحصل لكل أحد بموته فإن روحه إذا خلصت عن جسده شاهدت مصيرها مشاهدة إجمالية وبه فسر حديث أبي هريرة مرفوعاً « القبر روضة من رياض الجنة أو حفر من حفر النار » رواه الترمذي . وهو ضعيف ويفسره حديث ابن عمر مرفوعاً « إذا مات الميت عرض عليه مقعده بالغداة والعشي فإن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ثم يقال : هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة » ونهاية حياة المرء قريبة وإن طال العمر .

والأشراط بالنسبة للصورة الأولى : الحوادث التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تقع بين يدي الساعة ، وأولها بعثته لأنه آخر الرسل وشريعته آخر الشرائع ثم ما يكون بعد ذلك ، وبالنسبة للصورة الثانية أشراطها الأمراض والشيخوخة .

{ فأنى لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذكراهم } .

تفريع على { فقد جاء أشراطها } . و { أنّى } اسم يدل على الحالة ، ويضمّن معنى الاستفهام كثيراً وهو هنا استفهام إنكاري ، أي كيف يحصل لهم الذكرى إذا جاءتهم الساعة ، والمقصود : إنكار الانتفاع بالذكرى حينئذٍ .

و { أنَّى } مبتدأ ثان مقدم لأن الاستفهام له الصدارة . و { ذكراهم } مبتدأ أول و { لهم } خبر عن { أنّى } ، وهذا التركيب مثل قوله تعالى : { أنّى لهم الذكرى } في سورة الدخان ( 13 ) ، وضمير جاءتهم } عائد إلى { الساعة } .