ثم يمعن السياق في توكيد القتال لهؤلاء الذين قاتلوا المسلمين وفتنوهم في دينهم ، وأخرجوهم من ديارهم ، والمضي في القتال حتى يقتلوهم على أية حالة ، وفي أي مكان وجدوهم . باستثناء المسجد الحرام . إلا أن يبدأ الكفار فيه بالقتال . وإلا أن يدخلوا في دين الله فتكف أيدي المسلمين عنهم ، مهما كانوا قد آذوهم من قبل وقاتلوهم وفتنوهم :
( واقتلوهم حيث ثقفتموهم ، وأخرجوهم من حيث أخرجوكم - والفتنة أشد من القتل . ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه . فإن قاتلوكم فاقتلوهم . كذلك جزاء الكافرين . فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم ) . .
إن الفتنة عن الدين اعتداء على أقدس ما في الحياة الإنسانية . ومن ثم فهي أشد من القتل . أشد من قتل النفس وإزهاق الروح وإعدام الحياة . ويستوي أن تكون هذه الفتنة بالتهديد والأذى الفعلي ، أو بإقامة أوضاع فاسدة من شأنها أن تضل الناس وتفسدهم وتبعدهم عن منهج الله ، وتزين لهم الكفر به أو الاعراض عنه . وأقرب الأمثلة على هذا هو النظام الشيوعي الذي يحرم تعليم الدين ويبيح تعليم الإلحاد ، ويسن تشريعات تبيح المحرمات كالزنا والخمر ، ويحسنها للناس بوسائل التوجيه ؛ بينما يقبح لهم اتباع الفضائل المشروعة في منهج الله . ويجعل من هذه الأوضاع فروضا حتمية لا يملك الناس التفلت منها .
وهذه النظرة الإسلامية لحرية العقيدة ، وإعطاؤها هذه القيمة الكبرى في حياة البشرية . . هي التي تتفق مع طبيعة الإسلام ، ونظرته إلى غاية الوجود الإنساني . فغاية الوجود الإنساني هي العبادة [ ويدخل في نطاقها كل نشاط خير يتجه به صاحبه إلى الله ] . وأكرم ما في الإنسان حرية الاعتقاد . فالذي يسلبه هذه الحرية ، ويفتنه عن دينه فتنة مباشرة أو بالواسطة ، يجني عليه ما لا يجني عليه قاتل حياته . ومن ثم يدفعه بالقتل . . لذلك لم يقل : وقاتلوهم . إنما قال : ( واقتلوهم ) . . ( واقتلوهم حيث ثقفتموهم ) أي حيث وجدتموهم .
في أية حالة كانوا عليها ؛ وبأية وسيلة تملكونها - مع مراعاة أدب الإسلام في عدم المثلة أو الحرق بالنار .
ولا قتال عند المسجد الحرام ، الذي كتب الله له الأمن ، وجعل جواره آمنا استجابة لدعوة خليله إبراهيم [ عليه السلام ] وجعله مثابة يثوب إليها الناس فينالون فيه الأمن والحرمة والسلام . . لا قتال عند المسجد الحرام إلا للكافرين الذين لا يرعون حرمته ، فيبدأون بقتال المسلمين عنده . وعند ذلك يقاتلهم المسلمون ولا يكفون عنهم حتى يقتلوهم . . فذلك هو الجزاء اللائق بالكافرين ، الذين يفتنون الناس عن دينهم ، ولا يرعون حرمة للمسجد الحرام ، الذي عاشوا في جواره آمنين .
{ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُمْ مّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتّىَ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ }
يعني تعالى ذكره : واقتلوا أيها المؤمنون الذين يقاتلونكم من المشركين حيث أصبتم مقاتلهم وأمكنكم قتلهم ، وذلك هو معنى قوله : { حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم }ومعنى الثقفة بالأمر : الحذق به والبصر ، يقال : إنه لثَقْفٌ لقَفْ إذا كان جيد الحذر في القتال بصيرا بمواقع القتل .
وأما التثقيف فمعنى غير هذا وهو التقويم فمعنى : { وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم{ اقتلوهم في أيّ مكان تمكنتم من قتلهم وأبصرتم مقاتلهم .
وأما قوله : { وأخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أخْرَجُوكُمْ }فإنه يعني بذلك المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم ومنازلهم بمكة ، فقال لهم تعالى ذكره : أخرجوا هؤلاء الذين يقاتلونكم وقد أخرجوكم من دياركم من مساكنكم وديارهم كما أخرجوكم منها .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالفِتْنَةُ أشَدّ مِنَ القَتْل } .
يعني تعالى ذكره بقوله : وَالِفتْنَةُ أشَدّ مِنَ الَقْتِل والشرك بالله أشدّ من القتل .
وقد بينت فيما مضى أن أصل الفتنة الابتلاء والاختبار فتأويل الكلام : وابتلاء المؤمن في دينه حتى يرجع عنه فيصير مشركا بالله من بعد إسلامه أشدّ عليه وأضرّ من أن يقتل مقيما على دينه متمسكا عليه محقّا فيه . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : وَالِفتْنَةُ أشَدّ مِنَ الَقْتِل قال : ارتداد المؤمن إلى الوثن أشدّ عليه من القتل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وَالِفتْنَةُ أشَدّ مِنَ الَقْتِل يقول : الشرك أشدّ من القتل .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله .
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : وَالِفتْنَةُ أشَدّ مِنَ الَقْتِل يقول : الشرك أشدّ من القتل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : وَالِفتْنَةُ أشَدّ مِنَ الَقْتِل قال : الشرك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : أخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد في قوله : وَالِفتْنَةُ أشَدّ مِنَ الَقْتِل قال : الفتنة : الشرك .
حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت الفضل بن خالد ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك : وَالِفتْنَةُ أشَدّ مِنَ الَقْتِل قال : الشرك أشد من القتل .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله جل ذكره : وَالِفتْنَةُ أشَدّ مِنَ القَتْلِ قال : فتنة الكفر .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ المَسْجِدَ الحَرَامِ حّتى يُقاتِلُوكُمْ فِيه فإنْ قاتَلُوكُمْ فاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الكافِرِينَ } .
والقرّاء مختلفة في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة ومكة : وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ المَسْجِد الحَرَامِ حّتى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فإنْ قاتَلُوكُمْ فاقْتُلُوهُمْ بمعنى : ولا تبتدئوا أيها المؤمنون المشركين بالقتال عند المسجد الحرام حتى يبدءوكم به ، فإن بدءوكم به هنالك عند المسجد الحرام في الحرم فاقتلوهم ، فإن الله جعل ثواب الكافرين على كفرهم وأعمالهم السيئة القتل في الدنيا والخزي الطويل في الاَخرة . كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ حتى يُقاتِلُوكُمْ فِيه كانوا لا يقاتلون فيه حتى يبدءوا بالقتال . ثم نسخ بعد ذلك فقال : وَقاتِلُوهُمْ حّتى لا تكونَ فِتْنَةٌ حتى لا يكون شرك وَيَكُونَ الدّينُ لِلّهِ أن يقال : لا إله إلا الله ، عليها قاتل نبيّ الله وإليها دعا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا همام ، عن قتادة : وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ حّتى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فإنْ قاتَلُوكُمْ فاقْتُلُوهُمْ فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن لا يقاتلهم عند المسجد الحرام إلا أن يبدءوا فيه بقتال ، ثم نسخ الله ذلك بقوله : فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُم فاقْتُلُوا المُشْركِينَ حَيْثُ وَجَدْتّمُوهُمْ فأمر الله نبيه إذا انقضى الأجل أن يقاتلهم في الحلّ والحرم وعند البيت ، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله .
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ حّتى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فكانوا لا يقاتلونهم فيه ، ثم نسخ ذلك بعد ، فقال : قاتِلُوُهمْ حّتى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ .
وقال بعضهم : هذه آية محكمة غير منسوخة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فإنْ قاتَلَوكُم في الحرم ، فاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الكافِرِينَ لا تقاتل أحدا فيه أبدا ، فمن عدا عليك فقاتلك فقاتله كما يقاتلك .
وقرأ ذلك عظم قراء الكوفيين : «وَلا تَقْتِلُوهُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ حّتى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فإنْ قاتَلُوكُمْ فاقْتُلُوهُمْ » بمعنى : ولا تبدءوهم بقتل حتى يبدءوكم به . ذكر من قال ذلك :
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ، عن أبي حماد ، عن حمزة الزيات قال : قلت للأعمش : أرأيت قراءتك : «ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه فإن قتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم » ، إذا قتلوهم كيف يقتلونهم ؟ قال : إن العرب إذا قتل منهم رجل قالوا : قُتلنا ، وإذا ضرب منهم رجل قالوا ضربنا .
وأولى هاتين القراءتين بالصواب قراءة من قرأ : وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ حّتى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فإنْ قاتَلُوكُمْ فاقْتُلُوهُمْ لأن الله تعالى ذكره لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه في حال إذا قاتلهم المشركون بالاستسلام لهم حتى يقتلوا منهم قتيلاً بعد ما أذن له ولهم بقتالهم ، فتكون القراءة بالإذن بقتلهم بعد أن يقتلوا منهم أولى من القراءة بما اخترنا . وإذا كان ذلك كذلك ، فمعلوم أنه قد كان تعالى ذكره أذن لهم بقتالهم إذا كان ابتداء القتال من المشركين قبل أن يقتلوا منهم قتيلاً ، وبعد أن يقتلوا منهم قتيلاً .
وقد نسخ الله تعالى ذكره هذه الآية بقوله : وَقاتِلُوهُمْ حّتى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وقوله : فاقْتُلُوا المُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ونحو ذلك من الاَيات .
وقد ذكرنا بعض قول من قال هي منسوخة ، وسنذكر قول من حضرنا ذكره ممن لم يذكر .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ حّتى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ قال : نسخها قوله : فاقْتُلُوا المُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ حّتى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ قال : حتى يبدءوكم كان هذا قد حرم ، فأحلّ الله ذلك له ، فلم يزل ثابتا حتى أمره الله بقتالهم بعد .
{ واقتلوهم حيث ثقفتموهم } حيث وجدتموهم في حل أو حرم . وأصل الثقف : الحذق في إدراك الشيء علما كان أو عملا . فهو يتضمن معنى الغلبة ولذلك استعمل فيها قال :
فأما تثقفوني فاقتلوني *** فمن أثقف فليس إلى خلود
{ وأخرجوهم من حيث أخرجوكم } أي من مكة ، وقد فعل ذلك بمن لم يسلم يوم الفتح . { والفتنة أشد من القتل } أي المحنة التي يفتتن بها الإنسان ، كالإخراج من الوطن أصعب من القتل لدوام تعبها وتألم النفس بها . وقيل معناه شركهم في الحرم وصدهم إياكم عنه أشد من قتلكم إياهم فيه . { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه } أي لا تفاتحوهم بالقتال وهتك حرمة المسجد الحرام . { فإن قاتلوكم فاقتلوهم } فلا تبالوا بقتالهم ثم فإنهم الذين هتكوا حرمته . وقرأ حمزة والكسائي { ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فيه فإن قتلوكم } . والمعنى حتى يقتلوا بعضكم كقولهم قتلنا بنو أسد . { كذلك جزاء الكافرين } مثل ذلك جزاؤهم يفعل بهم مثل ما فعلوا .
هذا أمر بقتل من يعثر عليه منهم وإن لم يكن في ساحة القتال ، فإنّه بعد أن أمرهم بقتال من يقاتلهم عَمَّمَ المواقع والبقاع زيادة في أحوال القتل وتصريحاً بتعميم الأماكن فإن أهمية هذا الغرض تبعث على عدم الاكتفاء باقتضاء عموم الأشخاص تَعْمِيمَ الأمكنة ليكون المسلمون مأذونين بذلك فكل مكان يحل فيه العدو فهو موضع قتال ، فالمعنى واقتلوهم حيث ثقفتموهم إن قاتلوكم .
وعطفت الجملة على التي قبلها وإن كانت هي مكملة لها باعتبار أن ما تضمنته قتل خاص غير قتال الوغَى فحصلت المغايرة المقتضية العطف ، ولذلك قال هنا { واقتلوهم } ولم يقل : وقاتلوهم مثل الآية قبلها تنبيهاً على قتل المحارب ولو كان وقت العثور عليه غيرَ مباشر للقتال وأنه من خرج محارباً فهو قاتل وإن لم يَقْتُلْ .
و { ثقفتموهم } بمعنى لقيتموهم لقاء حرب وفِعله كفرح ، وفسره في « الكشاف » بأنه وجود على حالة قهر وغلبة .
وقوله : { وأخرجوهم من حيث أخرجوكم } أي يحل لكم حينئذٍ أن تخرجوهم من مكة التي أخرجوكم منها ، وفي هذا تهديد للمشركين ووعد بفتح مكة ، فيكون هذا اللقاء لهذه البشرى في نفوس المؤمنين ليسْعوا إليه حتى يدركوه وقد أدركوه بعد سنتين ، وفيه وعد من الله تعالى لهم بالنصر كما قال تعالى : { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام } [ الفتح : 27 ] الآية .
وقوله : { والفتنة أشد من القتل } تذييل وأل فيه للجنس تدل على الاستغراق في المقام الخَطَابيِّ ، وهو حجة للمسلمين ونفي للتبعة عنهم في القتال بمكة إن اضطروا إليه . والفتنة إلقاء الخوف واختلال نظام العَيْشِ وقد تقدمت عند قوله تعالى : { حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر } [ البقرة : 102 ] ، إشارة إلى ما لقيه المؤمنون في مكة من الأذى بالشتم والضرب والسخرية إلى أن كان آخره الإخراج من الديار والأموال ، فالمشركون محقوقون من قبل فإذا خفروا العهد استحقوا المؤاخذة بما مضى فيما كان الصلح مانعاً من مؤاخذتهم عليه ؛ وإنما كانت الفتنة أشد من القتل لتكرر إضرارها بخلاف ألم القتل ، ويراد منها أيضاً الفتنة المتوقعة بناء على توقع أن يصدوهم عن البيت أو أن يغدروا بهم إذا حلوا بمكة ، ولهذا اشترط المسلمون في صلح الحديبية أنهم يدخلون العام القابل بالسيوف في قرابها ، والمقصد من هذا إعلان عذر المسلمين في قتالهم المشركين وإلقاء بغض المشركين في قلوبهم حتى يكونوا على أهبة قتالهم والانتقام منهم بصدور حرجة حنقة . وليس المراد من الفتنة خصوص الإخراج من الديار ، لأن التذييل يجب أن يكون أعم من الكلام المذيَّل .
الجملة معطوفة على جملة { واقتلوهم حيث ثقفتموهم } التي أفادت الأمر بتتبع المقاتلين بالتقتيل حيثما حَلُّوا سواء كانوا مشتبكين بقتال المسلمين أم كانوا في حالة تنقل أو تطلع أو نحو ذلك لأن أحوال المحارب لا تنضبط وليست في الوقت سعة للنظر في نواياه والتوسم في أغراضه ، إذ قد يبادره إلى اغتيال عدوه في حال تردده وتفكره ، فخص المكان الذي عند المسجد الحرام من عموم الأمكنة التي شملها قوله : { حيث ثقفتموهم } أي إن ثقفتموهم عند المسجد الحرام غير مشتبكين في قتال معكم فلا تقتلوهم ، والمقصد من هذا حفظ حرمة المسجد الحرام التي جعلها الله له بقوله :
{ مقام إبراهيم ومن دخله كان ءامناً } [ آل عمران : 97 ] ، فاقتضت الآية منع المسلمين من قتال المشركين عند المسجد الحرام ، وتدل على منعهم من أن يقتلوا أحداً من المشركين دون قتال عند المسجد الحرام بدلالة لحن الخطاب أو فحوى الخطاب .
وجعلت غاية النهي بقوله : { حتى يقاتلونكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم } أي فإن قاتلوكم عند المسجد فاقتلوهم عند المسجد الحرام ، لأنهم خرقوا حرمة المسجد الحرام فلو تركت معاملتهم بالمثل لكان ذلك ذريعة إلى هزيمة المسلمين . فإن قاتلوا المسلمين عند المسجد الحرام عاد أمر المسلمين بمقاتلتهم إلى ما كان قبل هذا النهي فوجب على المسلمين قتالهم عند المسجد الحرام وقتل من ثقفوا منهم كذلك .
وفي قوله تعالى : { فاقتلوهم } تنبيه على الإذن بقتلهم حينئذٍ ولو في غير اشتباك معهم بقتال ، لأنهم لا يؤمنون من أن يتخذوا حرمة المسجد الحرام وسيلة لهزم المسلمين .
ولأجل ذلك جاء التعبير بقوله : { فاقتلوهم } لأنه يشمل القتل بدون قتال والقتل بقتال .
فقوله تعالى : { فإن قاتلوكم } أي عند المسجد الحرام فاقتلوهم هنالك ، أي فاقتلوا من ثقفتم منهم حين المحاربة ، ولا يصدكم المسجد الحرام عن تقصي آثارهم لئلا يتخذوا المسجد الحرام ملجأ يلجؤون إليه إذا انهزموا .
وقد احتار كثير من المفسرين في انتظام هذه الآيات من قوله : { وقاتلوا في سبيل الله } [ البقرة : 190 ] إلى قوله هنا { كذلك جزاء الكافرين } حتى لجأ بعضهم إلى دعوى نسخ بعضها ببعض فزعم أن آيات متقارنة بعضها نسخ بعضاً ؛ مع أن الأصل أن الآيات المتقارنة في السورة الواحدة نزلت كذلك ومع ما في هاته الآيات من حروف العطف المانعة من دعوى كون بعضها قد نزل مستقلاً عن سابقه وليس هنا ما يلجىء إلى دعوى النسخ ، ومن المفسرين من اقتصر على تفسير المفردات اللغوية والتراكيب البلاغية وأعرض عن بيان المعاني الحاصلة من مجموع هاته الآيات .
وقد أذن الله للمسلمين بالقتال والقتل للمقاتل عند المسجد الحرام ولم يعبأ بما جعله لهذا المسجد من الحرمة ؛ لأن حرمته حرمة نسبته إلى الله تعالى فلما كان قتال الكفار عنده قتالاً لمنع الناس منه ومناوأة لدينه فقد صاروا غير محترمين له ولذلك أمرنا بقتالهم هنالك تأييداً لحرمة المسجد الحرام .
وقرأ الجمهور : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه } ثلاثتها بألف بعد القاف ، وقرأ حمزة والكسائي : { ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فإن قتلوكم } بدون ألف بعد القاف ، فقال الأعمش لحمزة أرأيت قراءتك هذه كيف يكون الرجل قاتلاً بعد أن صار مقتولاً ؟ فقال حمزة : إن العرب إذا قتل منهم رجل قالوا قتلنا اهـ يريد أن الكلام على حذف مضاف من المفعول كقوله
غَضِبت تميم أَنْ تُقتَّل عامر *** يوم النسار فأُعْتِبُوا بالصَّيْلَم
والمعنى ولا تقتلوا أحداً منهم حتى يقتلوا بعضكم فإن قتلوا بعضكم فاقتلوا من تقدرون عليه منهم وكذلك إسناد ( قتلوا ) إلى ضمير جماعة المشركين فهو بمعنى قتل بعضهم بعض المسلمين لأن العرب تسند فعل بعض القبيلة أو الملة أو الفرقة لما يدل على جميعها من ضمير كما هنا أو اسم ظاهر نحو قتلتنا بنو أسد . وهذه القراءة تقتضي أن المنهي عنه القتل فيشمل القتل باشتباك حرب والقتل بدون ملحمة .
وقد دلت الآية بالنص على إباحة قتل المحارب إذا حارب في الحرم أو استولى عليه لأن الاستيلاء مقاتلة ؛ فالإجماع على أنه لو استولى على مكة عدو وقال : لا أقاتلكم وأمنعكم من الحج ولا أبرح من مكة لوجب قتاله وإن لم يبدأ بالقتال ؛ نقله القرطبي عن ابن خويز منداد من مالكية العراق . قال ابن خويز منداد : وأما قوله : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه } فيجوز أن يكون منسوخاً بقوله : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } [ البقرة : 193 ] .
واختلفوا في دلالتها على جواز قتل الكافر المحارب إذا لجأ إلى الحرم بدون أن يكون قتال وكذا الجاني إذا لجأ إلى الحرم فاراً من القصاص والعقوبة فقال مالك : بجواز ذلك واحتج على ذلك بأن قوله تعالى : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم } [ التوبة : 5 ] الآية قد نسخ هاته الآية وهو قول قتادة ومقاتل بناء على تأخر نزولها عن وقت العمل بهذه الآية والعام المتأخر عن العمل ينسخ الخاص اتفاقاً .
وبالحديث الذي رواه في « الموطأ » عن أنس بن مالك " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاء أبو برزة فقال : ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتلوه " وابن خطل هذا هو عبد العزى بن خطل التيمي كان ممن أسلم ثم كفر بعد إسلامه وجعل دأبه سب رسول الله صلى الله عليه وسلم والإسلام فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح دمه فلما علم ذلك عاذ بأستار الكعبة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله حينئذٍ ، فكان قتل ابن خطل قتل حد لا قتل حرب ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد وضع المغفر عن رأسه وقد انقضت الساعة التي أحل الله له فيها مكة .
وبالقياس وهو أن حرمة المسجد الحرام متقررة في الشريعة فلما أذن الله بقتل من قاتل في المسجد الحرام علمنا أن العلة هي أن القتال فيه تعريض بحرمته للاستخفاف ، فكذلك عياذ الجاني به ، وبمثل قوله قال الشافعي ، لكن قال الشافعي إذا التجأ المجرم المسلم إلى المسجد الحرام يضيق عليه حتى يخرج فإن لم يخرج جاز قتله ، وقال أبو حنيفة : لا يقتل الكافر إذا التجأ إلى الحرم إلاّ إذا قاتل فيه لنص هاته الآية وهي محكمة عنده غير منسوخة وهو قول طاووس ومجاهد .
قال ابن العربي في « الأحكام » : حضرت في بيت المقدس بمدرسة أبي عقبة الحنفي والقاضي الزنجاني يلقي علينا الدرس في يوم الجمعة فبينا نحن كذلك إذ دخل رجل عليه أطمار فسلم سلام العلماء وتصدر في المجلس ، فقال القاضي الزنجاني : من السيد ؟ فقال : رجل من طلبة العلم بصاغان سلبه الشطار أمس ، ومقصدي هذا الحرم المقدس فقال القاضي الزنجاني : سلوه عن العادة في مبادرة العلماء بمبادرة أسئلتهم ، ووقعت القرعة على مسألة الكافر إذا التجأ إلى الحرم هل يقتل أم لا ؟ فأجاب بأنه لا يقتل ، فسئل عن الدليل فقال : قوله تعالى : { ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قرىء ( ولا تقتلوهم ) فالآية نص وإن قرىء ( ولا تقاتلوهم ) فهي تنبيه ، لأنه إذا نهى عن القتال الذي هو سبب القتل كان دليلاً بيناً على النهي عن القتل فاعترض عليه الزنجاني منتصراً لمالك والشافعي وإن لم ير مذهبهما على العادة ، فقال هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [ التوبة : 5 ] فقال الصاغاني هذا لا يليق بمنصب القاضي ، فإن الآية التي اعترضتَ بها عامة في الأماكن والتي احتججتُ بها خاصة ولا يجوز لأحد أن يقول : إن العام ينسخ الخاص فأُبْهِت القاضي الزنجاني ، وهذا من بديع الكلام اهـ .
وجواب هذا أن العام المتأخر عن العمل بالخاص ناسخ وحديث ابن خطل دل على أن الآية التي في براءة ناسخة لآية البقرة . وأما قول الحنفية وبعض المالكية : إن قتل ابن خطل كان في اليوم الذي أحل الله له فيه مكة فيدفعه أن تلك الساعة انتهت بالفتح وقد ثبت في ذلك الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزع حينئذٍ المغفر وذلك أمارة انتهاء ساعة الحرب .
وقال ابن العربي في « الأحكام » : الكافر إذا لم يقاتل ولم يجن جناية ولجأ إلى الحرم فإنه لا يقتل ، يريد أنه لا يقتل القتل الذي اقتضته آية { واقتلوهم حيث ثقفتموهم } وهو مما شمله قوله تعالى : { لا تقاتلوهم عند المسجد الحرام } .
وقوله : { كذلك جزاء الكافرين } ، الإشارة إلى القتل المأخوذ من قوله : { فاقتلوهم } أي كذلك القتل جزاؤهم على حد ما تقدم في قوله : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } [ البقرة : البقرة : 143 ] ونكتة الإشارة تهويله أي لا يقل جزاء المشركين عن القتل ولا مصلحة في الإبقاء عليهم ؛ وهذا تهديد لهم ، فقوله { كذلك } خبر مقدم للاهتمام وليست الإشارة إلى { وقاتلوا في سبيل الله } [ البقرة : 190 ] لأن المقاتلة ليست جزاء ؛ إذ لا انتقام فيها بل القتال سجال يوماً بيوم .