سورة النجم مكية وآياتها ثنتان وستون
هذه السورة في عمومها كأنها منظومة موسيقية علوية ، منغمة ، يسري التنغيم في بنائها اللفظي كما يسري في إيقاع فواصلها الموزونة المقفاة . ويلحظ هذا التنغيم في السورة بصفة عامة ؛ ويبدو القصد فيه واضحا في بعض المواضع ؛ وقد زيدت لفظة أو اختيرت قافية ، لتضمن سلامة التنغيم ودقة إيقاعه - إلى جانب المعنى المقصود الذي تؤديه في السياق كما هي عادة التعبير القرآني - مثل ذلك قوله : ( أفرأيتم اللات والعزى . ومناة الثالثة الأخرى ) . . فلو قال ومناة الأخرى ينكسر الوزن . ولو قال : ومناة الثالثة فقط يتعطل إيقاع القافية ولكل كلمة قيمتها في معنى العبارة . ولكن مراعاة الوزن والقافية كذلك ملحوظة . ومثلها كلمة( إذن )في وزن الآيتين بعدها : ألكم الذكر وله الأنثى ? تلك إذا قسمة ضيزى ! وكلمة( إذن )ضرورية للوزن . وإن كانت - مع هذا - تؤدي غرضا فنيا في العبارة . . . وهكذا .
ذلك الإيقاع ذو لون موسيقي خاص . لون يلحظ فيه التموج والانسياب . وبخاصة في المقطع الأول والمقطع الأخير من السورة . وهو يتناسق بتموجه وانسيابه مع الصور والظلال الطليقة المرفرفة في المقطع الأول . ومع المعاني واللمسات العلوية في المقطع الأخير . وما بينهما مما هو قريب منهما في الجو والموضوع .
والصور والظلال في المقطع الأول ، تشع من المجال العلوي الذي تقع فيه الأحداث النورانية والمشاهد الربانية التي يصفها هذا المقطع . ومن الحركات الطليقة للروح الأمين وهو يتراءى للرسول الكريم . . والصور والظلال والحركات والمشاهد والجو الروحي المصاحب ، تستمد وتمد ذلك الإيقاع التعبيري وتمتزج به ، وتتناسق معه ، وتتراءى فيه ، في توافق منغم عجيب .
ثم يعم ذلك العبق جو السورة كله ، ويترك آثاره في مقاطعها التالية ، حتى تختم بإيقاع موح شديد الإيحاء مؤثر عميق التأثير . ترتعش له كل ذرة في الكيان البشري وترف معه وتستجيب .
وموضوع السورة الذي تعالجه هو موضوع السور المكية على الإطلاق : العقيدة بموضوعاتها الرئيسية : الوحي والوحدانية والآخرة . والسورة تتناول الموضوع من زاوية معينة تتجه إلى بيان صدق الوحي بهذه العقيدة ووثاقته ، ووهن عقيدة الشرك وتهافت أساسها الوهمي الموهون !
والمقطع الأول في السورة يستهدف بيان حقيقة الوحي وطبيعته ، ويصف مشهدين من مشاهده ، ويثبت صحته وواقعيته في ظل هذين المشهدين ؛ ويؤكد تلقي الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] عن جبريل - عليه السلام - تلقي رؤية وتمكن ودقة ، واطلاعه على آيات ربه الكبرى .
ويتحدث المقطع الثاني عن آلهتهم المدعاة : اللات والعزى ومناة . وأوهامهم عن الملائكة . وأساطيرهم حول بنوتها لله . واعتمادهم في هذا كله على الظن الذي لا يغني من الحق شيئا . بينما الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يدعوهم إلى ما دعاهم إليه عن تثبت ورؤية ويقين .
والمقطع الثالث يلقن الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] الإعراض عمن يتولى عن ذكر الله ويشغل نفسه بالدنيا وحدها ، ويقف عند هذا الحد لا يعلم وراءه شيئا . ويشير إلى الآخرة وما فيها من جزاء يقوم على عمل الخلق ، وعلى علم الله بهم ، منذ أنشأهم من الأرض ، ومنذ كانوا أجنة في بطون أمهاتهم . فهو أعلم بهم من أنفسهم ، وعلى أساس هذا العلم المستيقن - لا الظن والوهم - يكون حسابهم وجزاؤهم ، ويصير أمرهم في نهاية المطاف .
والمقطع الرابع والأخير يستعرض أصول العقيدة - كما هي منذ أقدم الرسالات - من فردية التبعة ، ودقة الحساب ، وعدالة الجزاء . ومن انتهاء الخلق إلى ربهم المتصرف في أمرهم كله تصرف المشيئة المطلقة . ومع هذا لفتة إلى مصارع الغابرين المكذبين . تختم بالإيقاع الأخير : ( هذا نذير من النذر الأولى . أزفت الآزفة . ليس لها من دون الله كاشفة . أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ، ولا تبكون ، وأنتم سامدون ? فاسجدوا لله واعبدوا ) . . حيث يلتقي المطلع والختام في الإيحاء والصور والظلال والإيقاع العام .
( والنجم إذا هوى . ما ضل صاحبكم وما غوى . وما ينطق عن الهوى . إن هو إلا وحي يوحى . علمه شديد القوى . ذو مرة فاستوى . وهو بالأفق الأعلى . ثم دنا فتدلى . فكان قاب قوسين أو أدنى . فأوحى إلى عبده ما أوحى . ما كذب الفؤاد ما رأى . أفتمارونه على ما يرى ? ولقد رآه نزلة أخرى . عند سدرة المنتهى . عندها جنة المأوى . إذ يغشى السدرة ما يغشى . ما زاغ البصر وما طغى . لقد رأى من آيات ربه الكبرى ) . .
في هذا المطلع نعيش لحظات في ذلك الأفق الوضيء الطليق المرفرف الذي عاش فيه قلب محمد - صلوات الله وسلامه عليه - ونرف بأجنحة النور المنطلقة إلى ذلك الملأ الأعلى ؛ ونستمع إلى الإيقاع الرخي المنساب ، في جرس العبارة وفي ظلالها وإيحائها على السواء .
نعيش لحظات مع قلب محمد [ صلى الله عليه وسلم ] مكشوفة عنه الحجب ، مزاحة عنه الأستار . يتلقى من الملأ الأعلى . يسمع ويرى ، ويحفظ ما وعى . وهي لحظات خص بها ذلك القلب المصفى ؛ ولكن الله يمن على عباده ، فيصف لهم هذه اللحظات وصفا موحيا مؤثرا . ينقل أصداءها وظلالها وإيحاءها إلى قلوبهم . يصف لهم رحلة هذا القلب المصفى ، في رحاب الملأ الأعلى . يصفها لهم خطوة خطوة ، ومشهدا مشهدا ، وحالة حالة ، حتى لكأنهم كانوا شاهديها .
ويبدأ الوصف الموحي بقسم من الله سبحانه : ( والنجم إذا هوى ) . . وحركة تلألؤ النجم ثم هويه ودنوه . أشبه بمشهد جبريل المقسم عليه : ( وهو بالأفق الأعلى . ثم دنا فتدلى . فكان قاب قوسين أو أدنى . فأوحى إلى عبده ما أوحى ) . . وهكذا يبدأ التناسق والتوافق في المشهد والحركة والظل والإيقاع منذ اللحظة الأولى .
( والنجم إذا هوى ) . . وقد رويت تفسيرات مختلفة للنجم المقصود في هذا القسم . وأقرب ما يرد على الذهن أنها إشارة إلى الشعرى ، التي كان بعضهم يعبدها . والتي ورد ذكرها في السورة فيما بعد في قوله : ( وأنه هو رب الشعرى ) . . وقد كان للشعرى من اهتمام الأقدمين حظ كبير . ومما هو معروف أن قدماء المصريين كانوا يوقتون فيضان النيل بعبور الشعرى بالفلك الأعلى . ويرصدونها من أجل هذا ويرقبون حركاتها . ولها شأن في أساطير الفرس وأساطير العرب على السواء . فالأقرب أن تكون هذه الإشارة هنا إليها . ويكون اختيار مشهد هوي النجم مقصودا للتناسق الذي أشرنا إليه . ولمعنى آخر هو الإيحاء بأن النجم مهما يكن عظيما هائلا فإنه يهوي ويتغير مقامه . فلا يليق أن يكون معبودا . فللمعبود الثبات والارتفاع والدوام .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالنّجْمِ إِذَا هَوَىَ * مَا ضَلّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىَ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : والنّجْمِ إذَا هَوَى فقال بعضهم : عُنِي بالنجم : الثّريا ، وعُنِي بقوله : إذَا هَوَى : إذا سقط ، قالوا : تأويل الكلام : والثريا إذا سقطت . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَالنّجْمِ إذَا هَوَى قال : إذا سقطت الثريا مع الفجر .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان وَالنّجْمِ إذَا هَوَى قال : الثريا . وقال مجاهد : وَالنّجْمِ إذَا هَوَى قال : سقوط الثريا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَالنّجْمِ إذَا هَوَى قال : إذا انصبّ .
وقال آخرون : معنى ذلك : والقرآن إذا نزل . ذكر من قال ذلك :
حدثني زياد بن عبد الله الحساني أبو الخطاب ، قال : حدثنا مالك بن سعير ، قال : حدثنا الأعمش ، عن مجاهد ، في قوله : وَالنّجْمِ إذَا هَوَى قال : القرآن إذا نزل .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَالنّجْمِ إذَا هَوَى ما ضَلّ صَاحِبُكُمْ وَما غَوَى قال : قال عُتْبة بن أبي لهب : كفرتُ بربّ النجم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أمَا تَخافُ أنْ يَأْكُلُكَ كَلْبُ اللّهِ » قال : فخرج في تجارة إلى اليمن ، فبينما هم قد عرّسوا ، إذ سمعَ صوتَ الأسد ، فقال لأصحابه إني مأكول ، فأحدقوا به ، وضرب على أصمختهم فناموا ، فجاء حتى أخذه ، فما سمعوا إلا صوته .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، قال : حدثنا معمر ، عن قتادة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم تلا : وَالنّجْمِ إذَا هَوَى فقال ابن لأبي لهب حسبته قال : اسمه عُتبة : كفرت بربّ النجم ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «احْذَرْ لا يَأْكُلْكَ كَلْبُ اللّهِ » قال : فضرب هامته . قال : وقال ابن طاوس عن أبيه ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «ألاَ تخافُ أنْ يُسَلّطَ اللّهُ عَلَيْكَ كَلْبَهُ ؟ » فخرج ابن أبي لهب مع ناس في سفر حتى إذا كانوا في بعض الطريق سمعوا صوت الأسد ، فقال : ما هو إلا يريدني ، فاجتمع أصحابه حوله وجعلوه في وسطهم ، حتى إذا ناموا جاء الأسد فأخذه من بينهم . وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يقول : عنى بقوله : والنّجْمِ والنجوم . وقال : ذهب إلى لفظ الواحد ، وهو في معنى الجميع ، واستشهد لقوله ذلك بقول راعي الإبل :
فَباتَتْ تَعُدّ النّجْمَ في مُسْتَحِيرَةٍ *** سَرِيعٌ بِأيْدِي الاَكِلِينَ جُمُودُها
والصواب من القول في ذلك عندي ما قاله مجاهد من أنه عنى بالنجم في هذا الموضع : الثريا ، وذلك أن العرب تدعوها النجم ، والقول الذي قاله من حكينا عنه من أهل البصرة قول لا نعلم أحدا من أهل التأويل قاله ، وإن كان له وجه ، فلذلك تركنا القول به .
بسم الله الرحمن الرحيم { والنجم إذا هوى } أقسم بجنس النجوم أو الثريا فإنه غلب فيها إذا غرب أو انتثر يوم القيامة أو انقض أو طلع فإنه يقال : هوى هويا بالفتح إذا سقط وغرب ، وهويا بالضم إذا علا وصعد ، أو بالنجم من نجوم القرآن إذا نزل أو النبات إذا سقط على الأرض ، أو إذا نما ارتفع على قوله : { ما ضل صاحبكم } .
وهي مكية بإجماع من المتأولين{[1]} وهي أول سورة أعلن بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهر بقراءتها في الحرم والمشركون يستمعون وفيها سجد وسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والإنس غير أبي لهب فإنه رفع حفنة من تراب الى جبهته وقال يكفيني هذا{[2]} وسبب هذه السورة ان المشركين قالوا إن محمدا يتقول القرآن ويختلق أقواله فنزلت السورة في ذلك .
أقسم الله تعالى بهذا المخلوق تشريفاً له وتنبيهاً منه ليكون معتبراً فيه حتى تولى العبرة إلى معرفة الله تعالى . وقال الزهري ، المعنى : ورب النجم ، وفي هذا قلق مع لفظ الآية . واختلف المتأولون في تعيين النجم المقسم به فقال ابن عباس ومجاهد والفراء ، وبينه منذر بن سعيد هو الجملة من القرآن إذا تنزلت ، وذلك أنه روي أن القرآن نزل على محمد صلى الله عليه وسلم نجوماً أي أقداراً مقدرة في أوقات ما ، ويجيء { هوى } على هذا التأويل بمعنى : نزل ، وفي هذا الهوى بعد وتحامل على اللغة ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : { فلا أقسم بمواقع النجوم }{[10668]} [ الواقعة : 75 ] والخلاف في هذا كالخلاف في تلك ، وقال الحسن ومعمر بن المثنى وغيرهما : { النجم } هنا اسم جنس ، أرادوا النجوم إذا هوت ، واختلف قائلو هذه المقالة في معنى : { هوى } فقال جمهور المفسرين : { هوى } إلى الغروب ، وهذا هو السابق إلى الفهم من كلام العرب ، وقال الحسن بن أبي الحسن وأبو حمزة الثمالي { هوى } عند الإنكدار في القيامة فهي بمعنى . قوله : { وإذا الكواكب انتثرت }{[10669]} [ الانفطار : 2 ] وقال ابن عباس في كتاب الثعلبي هو في الانقضاض في أثر العفرية{[10670]} وهي رجوم الشياطين{[10671]} ، وهذا القول تسعده اللغة ، والتأويلات في { هوى } محتملة ، كلها قوية ومن الشاهد في النجم الذي هو اسم الجنس قول الراعي :
فتاقت تعد النجم في مستحيرة*** سريع بأيدي الآكلين جمودها{[10672]}
يصف إهالة صافية ، والمستحيرة : القدر التي يطبخ فيها ، قاله الزجاج . وقال الرماني وغيره : هي شحمة صافية حين ذابت ، وقال مجاهد وسفيان : { النجم } في قسم الآية الثريا ، وسقوطها مع الفجر هو هويها والعرب لا تقول النجم مطلقاً إلا للثريا ، ومنه قول العرب [ مجزوء الرمل ]
طلع النجم عشاء*** فابتغى الراعي كساء
" طلع النجم غدية فابتغى الراعي شكية " {[10673]}
و { هوى } على هذا القول يحتمل الغروب ويحتمل الانكدار{[10674]} ، و { هوى } في اللغة معناه : خرق الهوى ومقصده السفل أو مسيره إن لم يقصده إليه ، ومنه قول الشاعر : [ مجزوء الكامل ]
هوى ابني شفا جبل*** فزلّتْ رجله ويده{[10675]}
وإن كلام المرء في غير كنهه*** لك النبل تهوي ليس فيها نصالها{[10676]}
هَوِي الدلو أسلمها الرشاء . . {[10677]} .
ومنه قولهم للجراد : الهاوي{[10678]} ، ومنه هوى العقاب .
سميت { سورة النجم } بغير واو في عهد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ففي الصحيح عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم فسجد بها فما بقي أحد من القوم إلا سجد فأخذ رجل كفا من حصباء أو تراب فرفعه إلى وجهه . وقال : يكفني هذا . قال عبد الله : فلقد رأيته بعد قتل كافرا . وهذا الرجل أمية بن خلف . وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون . فهذه تسمية لأنها ذكر فيها النجم .
وسموها { سورة والنجم } بواو بحكاية لفظ القرآن الواقع في أوله وكذلك ترجمها البخاري في التفسير والترمذي في جامعه .
ووقعت في المصاحف بالوجه وهو من تسمية السورة بلفظ وقع في أولها وهو لفظ { النجم } أو حكاية لفظ { والنجم } .
وسموها { والنجم إذا هوى } كما في حديث زيد بن ثابت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : والنجم إذا هوى فلم يسجد } ، أي في زمن آخر غير الوقت الذي ذكره ابن مسعود وابن عباس . وهذا كله اسم واحد متوسع فيه فلا تعد هذه السورة بين السور ذوات أكثر من اسم .
وهي مكية ، قال ابن عطية : بإجماع المتأولين . وعن ابن عباس وقتادة : استثناء قوله تعالى { الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم } الآية قالا : هي آية مدنية . وسنده ضعيف . وقيل : ونسب إلى الحسن البصري : أن السورة كلها مدنية ، وهو شذوذ .
وعن ابن مسعود هي أول سورة أعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة .
وهي السورة الثالثة والعشرون في عد ترتيب السور . نزلت بعد سورة الإخلاص وقبل سورة عبس .
وعد الجمهور العادين آيها إحدى وستين ، وعدها أهل الكوفة أثنتين وستين .
قال ابن عطية : سبب نزولها أن المشركين قالوا : إن محمدا يتقول القرآن ويختلق أقواله ، فنزلت السورة في ذلك .
أول أغراضها تحقيق أن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق فيما نبلغه عن الله تعالى وإنه منزه عما ادعوه .
وإثبات أن القرآن وحي من عند الله بواسطة جبريل .
وتقريب صفة نزول جبريل بالوحي في حالين زيادة في تقرير أنه وحي من الله واقع لا محالة .
وإبطال قولهم في اللات والعزى ومناة بنات الله وأنها أوهام لا حقائق لها وتنظير قولهم فيها بقولهم في الملائكة أنهم إناث .
وذكر جزاء المعرضين والمهتدين وتحذيرهم من القول في هذه الأمور بالظن دون حجة .
وإبطال قياسهم عالم الغيب على عالم الشهادة وأن ذلك ضلال في الرأي قد جاءهم بضده الهدى من الله . وذكر لذلك مثال من قصة الوليدين المغيرة ، أو قصة ابن أبي سرح .
وتذكيرهم بما حل بالأمم ذات الشرك من قبلهم وبمن جاء قبل محمد صلى الله عليه وسلم من الرسل أهل الشرائع .
وإنذارهم بحادثة تحل بهم قريبا .
وما تخلل ذلك من معترضات ومستطردات لمناسبات ذكرهم عن أن يتركوا أنفسهم .
كلام موجه من الله تعالى إلى المشركين الطاعنين في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم .
و { النجم } : الكوكب أي الجرم الذي يبدو للناظرين لامعاً في جو السماء ليلاً .
أقسم الله تعالى بعظيم من مخلوقاته دال على عظيم صفات الله تعالى .
وتعريف { النجم } باللام ، يجوز أن يكون للجنس كقوله : { وبالنجم هم يهتدون } [ النحل : 16 ] وقوله : { والنجم والشجر يسجدان } [ الرحمن : 6 ] ، ويحتمل تعريف العهد . وأشهر النجوم بإطلاق اسم النجم عليه الثريّا لأنهم كانوا يوقتون بأزمان طلوعها مواقيت الفصول ونضج الثمار ، ومن أقوالهم : طلع النَّجم عِشاءَ فابتغى الراعي كمساءَ طَلع النجم غُذَيَّة وابتغى الراعي شُكَية تصغير شَكْوة وعاءٍ من جلد يوضع فيه الماء واللبن } يعنون ابتداء زمن البرد وابتداء زمن الحرّ .
وقيل { النجم } : الشعرى اليمانية وهي العبورُ وكانت معظمة عند العرب وعَبدتْها خُزاعة .
ويجوز أن يكون المراد ب { النجم } : الشهاب ، وبهُويه : سقوطه من مكانه إلى مكان آخر ، قال تعالى : { إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظاً من كل شيطان مارد } [ الصافات : 6 ، 7 ] وقال : { ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين } [ الملك : 5 ] .
والقَسَم ب { النجم } لما في خَلقه من الدلالة على عظيم قدرة الله تعالى ، ألا ترى إلى قول الله حكاية عن إبراهيم { فلما جَنّ عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي } [ الأنعام : 76 ] .
وتقييد القَسَم بالنجم بوقت غروبه لإِشعار غروب ذلك المخلوق العظيم بعد أَوْجه في شرف الارتفاع في الأفق على أنه تسخير لقدرة الله تعالى ، ولذلك قال إبراهيم : { لا أحب الآفلين } [ الأنعام : 76 ] .
والوجه أن يكون { إذا هوى } بدل اشتمال من النجم ، لأن المرَاد من النجم أحواله الدالة على قدرة خالقه ومصرفه ومن أعظم أحواله حال هُويِّه ، ويكون { إذا } اسم زمان مجرداً عن معنى الظرفية في محل جر بحرف القسم ، وبذلك نتفادى من إشكال طَلب متعلق { إذَا } وهو إشكال أورده العلامة الجَنْزِي{[396]} على الزمخشري ، قال الطيبي وفي « المقتبس » قال الجَنْزِي : « فاوضتُ جارَ الله في قوله تعالى : { والنجم إذا هوى } ما العامل في { إذا } ؟ فقال : العامل فيه ما تعلّق به الواو ، فقلت : كيف يعمل فعل الحال في المستقبل وهذا لأن معنا أُقسم الآن ، وليس معناه أُقسم بعد{[397]} هذا فرجع وقال : العامل فيه مصدر محذوف تقديره : وهُوِيّ النجم إذا هَوَى ، فعرضته على زين المشائخ{[398]} فلم يستحسن قوله الثاني . والوجه أن { إذا } قد انسلخ عنه معنى الاستقبال وصار للوقت المجرد ، ونحوه : آتيك إذا احمرّ البسر ، أي وقت احمراره فقد عُرّي عن معنى الاستقبال لأنه وقعت الغنية عنه بقوله : آتيك اهـ . كلام الطيبي ، فقوله : فالوجه يحتمل أن يكون من كلام زين المشائخ أو من كلام صاحب « المقتبس » أو من كلام الطيبي ، وهو وجيه وهو أصل ما بنينا عليه موقع { إذَا } هنا ، وليس تردد الزمخشري في الجواب إلا لأنه يلتزم أن يكون { إذَا } ظرفاً للمستقبل كما هو مقتضى كلامه في « المفصَّل » مع أن خروجها عن ذلك كثير كما تواطأت عليه أقوال المحققين .
والهُوِيّ : السقوط ، أطلق هنا على غروب الكوكب ، استعير الهُوِيُّ إلى اقتراب اختفائه ويجوز أن يراد بالهوِيّ : سقوط الشهاب حين يلوح للناظر أنه يجري في أديم السماء ، فهو هويّ حقيقي فيكون قد استعمل في حقيقته ومجازه .
وفي ذكر { إذا هوى } احتراس من أن يتوهم المشركون أن في القسم بالنجم إقراراً لعبادة نجم الشعرى ، وأن القسم به اعتراف بأنه إله إذ كان بعض قبائل العرب يعبدونها فإن حالة الغروب المعبر عنها بالهُوِيِّ حالة انخفاض ومغيب في تخيّل الرّائي لأنهم يعُدُّون طلوع النجم أوجاً لشرفه ويعدون غروبه حَضيضاً ، ولذلك قال الله تعالى : { فلما أفل قال لا أحب الآفلين } [ الأنعام : 76 ] .
ومَن مناسبات هذا يجيء قوله : { وأنه هو رب الشعرى } في هذه السورة { 49 } ، وتلك اعتبارات لهم تخيلية شائعة بينهم فمن النافع موعظة الناس بذلك لأنه كاف في إقناعهم وصولاً إلى الحق .
فيكون قوله : { إذا هوى } إشعاراً بأن النجوم كلها مسخرة لقدرة الله مسيّرة في نظام أوْجدها عليه ولا اختيار لها فليست أهلاً لأن تعبد فحصل المقصود من القسم بما فيها من الدلالة على القدرة الإِلهية مع الاحتراس عن اعتقاد عبادتها .
وقال الراغب : قيل أراد بذلك أي ب { النجم } القرآن المنزل المنجم قدراً فقدراً ، ويعني بقوله : { هوى } نزوله اهـ .
ومناسبة القسم ب { النجم إذا هَوَى } ، أن الكلام مسوق لإثباتتِ أن القرآن وحي من الله منزل من السماء فشابَه حالُ نزوله الاعتباريِّ حال النجم في حالة هويِّه مشابهة تمثيلية حاصلة من نزول شيء منيرٍ إنارة معنوية نازل من محل رفعة معنوية ، شبه بحالة نزول نجم من أعلى الأفق إلى أسفله وهو من تمثيل المعقول بالمحسوس ، أو الإِشارة إلى مشابهة حالة نزول جبريل من السماوات بحالة نزول النجم من أعلى مكانه إلى أسفله ، أو بانقضاض الشهاب تشبيه محسوس بمحسوس ، وقد يشبهون سرعة الجري بإنقضاض الشهاب ، قال أوس بن حجر يصف فرساً :