سورة النجم مكية وآياتها ثنتان وستون
هذه السورة في عمومها كأنها منظومة موسيقية علوية ، منغمة ، يسري التنغيم في بنائها اللفظي كما يسري في إيقاع فواصلها الموزونة المقفاة . ويلحظ هذا التنغيم في السورة بصفة عامة ؛ ويبدو القصد فيه واضحا في بعض المواضع ؛ وقد زيدت لفظة أو اختيرت قافية ، لتضمن سلامة التنغيم ودقة إيقاعه - إلى جانب المعنى المقصود الذي تؤديه في السياق كما هي عادة التعبير القرآني - مثل ذلك قوله : ( أفرأيتم اللات والعزى . ومناة الثالثة الأخرى ) . . فلو قال ومناة الأخرى ينكسر الوزن . ولو قال : ومناة الثالثة فقط يتعطل إيقاع القافية ولكل كلمة قيمتها في معنى العبارة . ولكن مراعاة الوزن والقافية كذلك ملحوظة . ومثلها كلمة( إذن )في وزن الآيتين بعدها : ألكم الذكر وله الأنثى ? تلك إذا قسمة ضيزى ! وكلمة( إذن )ضرورية للوزن . وإن كانت - مع هذا - تؤدي غرضا فنيا في العبارة . . . وهكذا .
ذلك الإيقاع ذو لون موسيقي خاص . لون يلحظ فيه التموج والانسياب . وبخاصة في المقطع الأول والمقطع الأخير من السورة . وهو يتناسق بتموجه وانسيابه مع الصور والظلال الطليقة المرفرفة في المقطع الأول . ومع المعاني واللمسات العلوية في المقطع الأخير . وما بينهما مما هو قريب منهما في الجو والموضوع .
والصور والظلال في المقطع الأول ، تشع من المجال العلوي الذي تقع فيه الأحداث النورانية والمشاهد الربانية التي يصفها هذا المقطع . ومن الحركات الطليقة للروح الأمين وهو يتراءى للرسول الكريم . . والصور والظلال والحركات والمشاهد والجو الروحي المصاحب ، تستمد وتمد ذلك الإيقاع التعبيري وتمتزج به ، وتتناسق معه ، وتتراءى فيه ، في توافق منغم عجيب .
ثم يعم ذلك العبق جو السورة كله ، ويترك آثاره في مقاطعها التالية ، حتى تختم بإيقاع موح شديد الإيحاء مؤثر عميق التأثير . ترتعش له كل ذرة في الكيان البشري وترف معه وتستجيب .
وموضوع السورة الذي تعالجه هو موضوع السور المكية على الإطلاق : العقيدة بموضوعاتها الرئيسية : الوحي والوحدانية والآخرة . والسورة تتناول الموضوع من زاوية معينة تتجه إلى بيان صدق الوحي بهذه العقيدة ووثاقته ، ووهن عقيدة الشرك وتهافت أساسها الوهمي الموهون !
والمقطع الأول في السورة يستهدف بيان حقيقة الوحي وطبيعته ، ويصف مشهدين من مشاهده ، ويثبت صحته وواقعيته في ظل هذين المشهدين ؛ ويؤكد تلقي الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] عن جبريل - عليه السلام - تلقي رؤية وتمكن ودقة ، واطلاعه على آيات ربه الكبرى .
ويتحدث المقطع الثاني عن آلهتهم المدعاة : اللات والعزى ومناة . وأوهامهم عن الملائكة . وأساطيرهم حول بنوتها لله . واعتمادهم في هذا كله على الظن الذي لا يغني من الحق شيئا . بينما الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يدعوهم إلى ما دعاهم إليه عن تثبت ورؤية ويقين .
والمقطع الثالث يلقن الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] الإعراض عمن يتولى عن ذكر الله ويشغل نفسه بالدنيا وحدها ، ويقف عند هذا الحد لا يعلم وراءه شيئا . ويشير إلى الآخرة وما فيها من جزاء يقوم على عمل الخلق ، وعلى علم الله بهم ، منذ أنشأهم من الأرض ، ومنذ كانوا أجنة في بطون أمهاتهم . فهو أعلم بهم من أنفسهم ، وعلى أساس هذا العلم المستيقن - لا الظن والوهم - يكون حسابهم وجزاؤهم ، ويصير أمرهم في نهاية المطاف .
والمقطع الرابع والأخير يستعرض أصول العقيدة - كما هي منذ أقدم الرسالات - من فردية التبعة ، ودقة الحساب ، وعدالة الجزاء . ومن انتهاء الخلق إلى ربهم المتصرف في أمرهم كله تصرف المشيئة المطلقة . ومع هذا لفتة إلى مصارع الغابرين المكذبين . تختم بالإيقاع الأخير : ( هذا نذير من النذر الأولى . أزفت الآزفة . ليس لها من دون الله كاشفة . أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ، ولا تبكون ، وأنتم سامدون ? فاسجدوا لله واعبدوا ) . . حيث يلتقي المطلع والختام في الإيحاء والصور والظلال والإيقاع العام .
( والنجم إذا هوى . ما ضل صاحبكم وما غوى . وما ينطق عن الهوى . إن هو إلا وحي يوحى . علمه شديد القوى . ذو مرة فاستوى . وهو بالأفق الأعلى . ثم دنا فتدلى . فكان قاب قوسين أو أدنى . فأوحى إلى عبده ما أوحى . ما كذب الفؤاد ما رأى . أفتمارونه على ما يرى ? ولقد رآه نزلة أخرى . عند سدرة المنتهى . عندها جنة المأوى . إذ يغشى السدرة ما يغشى . ما زاغ البصر وما طغى . لقد رأى من آيات ربه الكبرى ) . .
في هذا المطلع نعيش لحظات في ذلك الأفق الوضيء الطليق المرفرف الذي عاش فيه قلب محمد - صلوات الله وسلامه عليه - ونرف بأجنحة النور المنطلقة إلى ذلك الملأ الأعلى ؛ ونستمع إلى الإيقاع الرخي المنساب ، في جرس العبارة وفي ظلالها وإيحائها على السواء .
نعيش لحظات مع قلب محمد [ صلى الله عليه وسلم ] مكشوفة عنه الحجب ، مزاحة عنه الأستار . يتلقى من الملأ الأعلى . يسمع ويرى ، ويحفظ ما وعى . وهي لحظات خص بها ذلك القلب المصفى ؛ ولكن الله يمن على عباده ، فيصف لهم هذه اللحظات وصفا موحيا مؤثرا . ينقل أصداءها وظلالها وإيحاءها إلى قلوبهم . يصف لهم رحلة هذا القلب المصفى ، في رحاب الملأ الأعلى . يصفها لهم خطوة خطوة ، ومشهدا مشهدا ، وحالة حالة ، حتى لكأنهم كانوا شاهديها .
ويبدأ الوصف الموحي بقسم من الله سبحانه : ( والنجم إذا هوى ) . . وحركة تلألؤ النجم ثم هويه ودنوه . أشبه بمشهد جبريل المقسم عليه : ( وهو بالأفق الأعلى . ثم دنا فتدلى . فكان قاب قوسين أو أدنى . فأوحى إلى عبده ما أوحى ) . . وهكذا يبدأ التناسق والتوافق في المشهد والحركة والظل والإيقاع منذ اللحظة الأولى .
( والنجم إذا هوى ) . . وقد رويت تفسيرات مختلفة للنجم المقصود في هذا القسم . وأقرب ما يرد على الذهن أنها إشارة إلى الشعرى ، التي كان بعضهم يعبدها . والتي ورد ذكرها في السورة فيما بعد في قوله : ( وأنه هو رب الشعرى ) . . وقد كان للشعرى من اهتمام الأقدمين حظ كبير . ومما هو معروف أن قدماء المصريين كانوا يوقتون فيضان النيل بعبور الشعرى بالفلك الأعلى . ويرصدونها من أجل هذا ويرقبون حركاتها . ولها شأن في أساطير الفرس وأساطير العرب على السواء . فالأقرب أن تكون هذه الإشارة هنا إليها . ويكون اختيار مشهد هوي النجم مقصودا للتناسق الذي أشرنا إليه . ولمعنى آخر هو الإيحاء بأن النجم مهما يكن عظيما هائلا فإنه يهوي ويتغير مقامه . فلا يليق أن يكون معبودا . فللمعبود الثبات والارتفاع والدوام .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالنّجْمِ إِذَا هَوَىَ * مَا ضَلّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىَ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : والنّجْمِ إذَا هَوَى فقال بعضهم : عُنِي بالنجم : الثّريا ، وعُنِي بقوله : إذَا هَوَى : إذا سقط ، قالوا : تأويل الكلام : والثريا إذا سقطت . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَالنّجْمِ إذَا هَوَى قال : إذا سقطت الثريا مع الفجر .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان وَالنّجْمِ إذَا هَوَى قال : الثريا . وقال مجاهد : وَالنّجْمِ إذَا هَوَى قال : سقوط الثريا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَالنّجْمِ إذَا هَوَى قال : إذا انصبّ .
وقال آخرون : معنى ذلك : والقرآن إذا نزل . ذكر من قال ذلك :
حدثني زياد بن عبد الله الحساني أبو الخطاب ، قال : حدثنا مالك بن سعير ، قال : حدثنا الأعمش ، عن مجاهد ، في قوله : وَالنّجْمِ إذَا هَوَى قال : القرآن إذا نزل .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَالنّجْمِ إذَا هَوَى ما ضَلّ صَاحِبُكُمْ وَما غَوَى قال : قال عُتْبة بن أبي لهب : كفرتُ بربّ النجم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أمَا تَخافُ أنْ يَأْكُلُكَ كَلْبُ اللّهِ » قال : فخرج في تجارة إلى اليمن ، فبينما هم قد عرّسوا ، إذ سمعَ صوتَ الأسد ، فقال لأصحابه إني مأكول ، فأحدقوا به ، وضرب على أصمختهم فناموا ، فجاء حتى أخذه ، فما سمعوا إلا صوته .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، قال : حدثنا معمر ، عن قتادة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم تلا : وَالنّجْمِ إذَا هَوَى فقال ابن لأبي لهب حسبته قال : اسمه عُتبة : كفرت بربّ النجم ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «احْذَرْ لا يَأْكُلْكَ كَلْبُ اللّهِ » قال : فضرب هامته . قال : وقال ابن طاوس عن أبيه ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «ألاَ تخافُ أنْ يُسَلّطَ اللّهُ عَلَيْكَ كَلْبَهُ ؟ » فخرج ابن أبي لهب مع ناس في سفر حتى إذا كانوا في بعض الطريق سمعوا صوت الأسد ، فقال : ما هو إلا يريدني ، فاجتمع أصحابه حوله وجعلوه في وسطهم ، حتى إذا ناموا جاء الأسد فأخذه من بينهم . وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يقول : عنى بقوله : والنّجْمِ والنجوم . وقال : ذهب إلى لفظ الواحد ، وهو في معنى الجميع ، واستشهد لقوله ذلك بقول راعي الإبل :
فَباتَتْ تَعُدّ النّجْمَ في مُسْتَحِيرَةٍ *** سَرِيعٌ بِأيْدِي الاَكِلِينَ جُمُودُها
والصواب من القول في ذلك عندي ما قاله مجاهد من أنه عنى بالنجم في هذا الموضع : الثريا ، وذلك أن العرب تدعوها النجم ، والقول الذي قاله من حكينا عنه من أهل البصرة قول لا نعلم أحدا من أهل التأويل قاله ، وإن كان له وجه ، فلذلك تركنا القول به .