تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٖ مِّن قَلۡبَيۡنِ فِي جَوۡفِهِۦۚ وَمَا جَعَلَ أَزۡوَٰجَكُمُ ٱلَّـٰٓـِٔي تُظَٰهِرُونَ مِنۡهُنَّ أُمَّهَٰتِكُمۡۚ وَمَا جَعَلَ أَدۡعِيَآءَكُمۡ أَبۡنَآءَكُمۡۚ ذَٰلِكُمۡ قَوۡلُكُم بِأَفۡوَٰهِكُمۡۖ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلۡحَقَّ وَهُوَ يَهۡدِي ٱلسَّبِيلَ} (4)

{ 4 - 5 } { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ * ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }

يعاتب تعالى [ عباده ]{[688]}  عن التكلم بما ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورًا رحيمًا لا حقيقة له من الأقوال ، ولم يجعله الله تعالى كما قالوا ، فإن ذلك القول منكم كذب وزور ، يترتب عليه منكرات من الشرع . وهذه قاعدة عامة في التكلم في كل شيء ، والإخبار بوقوع ووجود ، ما لم يجعله اللّه تعالى .

ولكن خص هذه الأشياء المذكورة ، لوقوعها ، وشدة الحاجة إلى بيانها ، فقال : { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } هذا لا يوجد ، فإياكم أن تقولوا عن أحد : إن له قلبين في جوفه ، فتكونوا كاذبين على الخلقة الإلهية .

{ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ } بأن يقول أحدكم لزوجته : " أنت عَليَّ كظهر أمي أو كأمي " فما جعلهن اللّه { أُمَّهَاتِكُمْ } أمك من ولدتك ، وصارت أعظم النساء عليك ، حرمة وتحريمًا ، وزوجتك أحل النساء لك ، فكيف تشبه أحد المتناقضين بالآخر ؟

هذا أمر لا يجوز ، كما قال تعالى : { الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا }


[688]:- زيادة من: ب.
 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٖ مِّن قَلۡبَيۡنِ فِي جَوۡفِهِۦۚ وَمَا جَعَلَ أَزۡوَٰجَكُمُ ٱلَّـٰٓـِٔي تُظَٰهِرُونَ مِنۡهُنَّ أُمَّهَٰتِكُمۡۚ وَمَا جَعَلَ أَدۡعِيَآءَكُمۡ أَبۡنَآءَكُمۡۚ ذَٰلِكُمۡ قَوۡلُكُم بِأَفۡوَٰهِكُمۡۖ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلۡحَقَّ وَهُوَ يَهۡدِي ٱلسَّبِيلَ} (4)

قوله تعالى : { مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللاّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ }

نزلت في جميل بن معمر الفهري ، وكان رجلا حافظا لما سمع فقالت قريش : ما حفظ هذه الأشياء إلا وله قلبان . وكان يقول : إن لي قلبين أعقل بكل واحد منهما من عقل محمد صلى الله عليه وسلم . فلما كان يوم بدر وهزم المشركون وفيهم يومئذ جميل بن معمر ، تلقاه أبو سفيان وهو معلق إحدى نعليه بيده والأخرى في رجله . فقال له : يا أبا معمر ما حال الناس ؟ قال : انهزموا . قال : فما بالك إحدى نعليك في يدك والأخرى في رجلك ؟ قال : ما شعرت إلا أنهما في رجلي ، وعرفوا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسي نعله في يده{[3689]} .

وقيل : هذه الآية نزلت مثلا ضربه الله للذي يظاهر من أمه . فكما لا يكون للرجل قلبان كذلك لا تكون امرأة المظاهر أمه فيكون له أمان .

وكذلك لا يكون الدعي ابنا لرجلين . وقيل : لا يجتمع الكفر والإيمان بالله في قلب واحد ، كما لا يجتمع قلبان في جوف واحد . ولذلك لا يجتمع اعتقادان متغايران في قلب رجل واحد . فما يحتمل القلب في المرء إلا صنفا واحدا ، فإما الإيمان أو الكفر . وإما الهدى أو الضلال . والأظهر أن الآية تعم ذلك كله .

قوله : { وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللاّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ } { تُظَاهِرُونَ } من الظهار ، وهو قول الرجل لامرأته : أنت عليّ كظهر أمي . والمعنى : ما جعل الله نساءكم اللائي تقولون لهن إن أمهاتكم كأمهاتكم في التحريم ؛ بل إن هذا القول منكم لأزواجكم كذب ومنكر وزور ؛ فيلزمكم بسببه كفارة عقوبة لكم .

قوله : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ } أجمع أهل التفسير على أن هذا نزل في زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقد كان عليه الصلاة والسلام قد تبنّاه قبل النبوة فكان يقال له : زيد بن محمد . فأراد الله أن يقطع هذا الإلحاق وهذه النسبة بقوله : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ } أدعياء جمع دعي وهو الذي يُدعى إلى غير أبيه أو يدعيه غير أبيه ، من الدِّعوة بكسر الدال ، أي ادعاء الولد الدعيّ غير أبيه{[3690]} .

قال ابن العربي في ذلك : كان الرجل يدعو الرجل ابنا إذا ربَّاه كأنه تبناه أي يقيمه مقام الابن . فردّ الله قولهم ؛ لأنهم تعدَّوا به إلى أن قالوا : المسيح ابن الله ، وإلى أن يقولوا : زيد بن محمد . فمسخ الله هذه الذريعة ، وبت حبلها ، وقطع وصلها بما أخبر من إبطال ذلك{[3691]}

قوله : { ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ } يعني هذا القول ، وهو قول الرجل لامرأته أنت علي كظهر أمي وادعاؤه من ليس بابنه أنه ابنه ، إنما هو مجرد قول بأفواهكم ولا حقيقة له ؛ فإنه لا يثبت بهذه الدعوى نسب ولا تصير الزوجة أمّا ، بقول الرجل لها : أنت عليّ كظهر أمي .

قوله : { وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ } ما يقوله الله في ذلك عدل وصدق . وهو جدير بالاعتبار دون غيره من أقوال الجاهلين الباطلة .

قوله : { وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } الله يبين للناس طريق الحق ، ويهديهم سبيل الرشاد{[3692]} .


[3689]:أسباب النزول للنيسابوري ص 236.
[3690]:المصباح المنير ج 1 ص 208.
[3691]:أحكام القرآن لابن العربي ج 5 ص 1492.
[3692]:تفسير الطبري ج 21 ص 75-76 وفتح القدير ج 3 ص 260.