{ رِجَالٌ } خص هذين الوقتين لشرفهما ولتيسر السير فيهما إلى الله وسهولته . ويدخل في ذلك ، التسبيح في الصلاة وغيرها ، ولهذا شرعت أذكار الصباح والمساء وأورادهما عند الصباح والمساء . أي : يسبح فيها الله ، رجال ، وأي : رجال ، ليسوا ممن يؤثر على ربه دنيا ، ذات لذات ، ولا تجارة ومكاسب ، مشغلة عنه ، { لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ } وهذا يشمل كل تكسب يقصد به العوض ، فيكون قوله : { وَلَا بَيْعٌ } من باب عطف الخاص على العام ، لكثرة الاشتغال بالبيع على غيره ، فهؤلاء الرجال ، وإن اتجروا ، وباعوا ، واشتروا ، فإن ذلك ، لا محذور فيه . لكنه لا تلهيهم تلك ، بأن يقدموها ويؤثروها على { ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ } بل جعلوا طاعة الله وعبادته غاية مرادهم ، ونهاية مقصدهم ، فما حال بينهم وبينها رفضوه .
ولما كان ترك الدنيا شديدا على أكثر النفوس ، وحب المكاسب بأنواع التجارات محبوبا لها ، ويشق عليها تركه في الغالب ، وتتكلف من تقديم حق الله على ذلك ، ذكر ما يدعوها إلى ذلك -ترغيبا وترهيبا- فقال : { يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ } من شدة هوله وإزعاجه للقلوب والأبدان ، فلذلك خافوا ذلك اليوم ، فسهل عليهم العمل ، وترك ما يشغل عنه .
ثم وصف تعالى المسبحين بأنهم لمراقبتهم أمر الله تعالى وطلبهم لرضاه لا يشغلهم عن الصلاة وذكر الله شيء من أمور الدنيا ، وقال كثير من الصحابة نزلت هذه الآية في أَهل الأَسواق الذين إذا سمعوا النداء بالصلاة تركوا كل شغل وبادروا إليها ، فرأى سالم بن عبد الله بن عمر أهل الأسواق وهم مقبلون إلى الصلاة فقال هؤلاء الذين أراد الله تعالى بقوله : { لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله } ، وروي ذلك عن ابن مسعود ، { وإقام } ، مصدر من أقام يقيم أصله أقوام نقلت حركة الواو إلى القاف فبقيت ساكنة والألف ساكنة فحذفت للالتقاء ، فجاء { إقام } ، بعض النحويين هو مصدر بنفسه قد لا يضاف وقيل لا يجوز أقمته إقاماً ، وإنما يستعمل مضافاً ، ذكره الرماني وقال بعضهم من حيث رأوه لا يستعمل إلا مضافاً ألحقت به هاء عوضاً من المحذوف فجاء إقامة ، فهم إذا أضافوه حذفوا العوض لاستغنائهم عنه بأَن المضاف والمضاف إليه كاسم واحد ، و { الزكاة } هنا عند ابن عباس الطاعة لله ، وقال الحسن هي الزكاة المفروضة في المال ، و «اليوم المخوف » الذي ذكره تعالى ، هو يوم القيامة ، واختلف الناس في تقلب { القلوب والأبصار } كيف هو ، فقالت فرقة يرى الناس الحقائق عياناً فتتقلب قلوب الشاكين ومعتقدي الضلال عن معتقداتها إلى اعتقاد الحق على وجهه وكذلك الأبصار وقالت فرقة هو تقلبها على جمر جهنم .
قال الفقيه الإمام القاضي : ومقصد الآية إنما هو وصف هول يوم القيامة ، فأما القول الأول فليس يقتضي هولاً وأما الثاني فليس التقلب في جمر جهنم يوم القيامة وإنما هو بعده .
وإنما معنى الآية عندي أن ذلك اليوم لشدة هوله ومطلعه ، القلوب والأبصار فيه مضطربة قلقة متقلبة من طمع في النجاة إلى طمع ومن حذر هلاك إلى حذر ، ومن نظر في هول إلى النظر في الآخر ، والعرب تستعمل هذا المعنى في الحروب ونحوها ومنه قول الشاعر : «بل كان قلبك في جناحي طائر »{[8732]} ومنه قول بشار كان فؤاده كرة تنزى{[8733]} ، ومنه قول الآخر : «إذا حلق النجيد وصلصل الحديد » وهذا كثير .
المراد بالرجال : أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان مثلهم في التعلق بالمساجد .
وتخصيص التسبيح بالرجال على هذا لأنهم الغالب على المساجد كما في الحديث : « . . . ورجلٌ قلبه معلق بالمساجد » . ويجوز عندي أن يكون { في بيوت } خبراً مقدماً و { رجال } مبتدأ ، والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن قوله : { يهدي الله لنوره من يشاء } [ النور : 35 ] فيسأل السائل في نفسه عن تعيين بعض ممن هداه الله لنوره فقيل : رجال في بيوت . والرجال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والبيوت مساجد المسلمين وغيرها من بيوت الصلاة في أرض الإسلام والمسجد النبوي ومسجد قباء بالمدينة ومسجد جؤاثى بالبحرين .
ومعنى { لا تلهيهم تجارة } أنهم لا تشغلهم تجارة ولا بيع عن الصلوات وأوقاتها في المساجد . فليس في الكلام أنهم لا يتجرون ولا يبيعون بالمرة .
والتجارة : جلب السلع للربح في بيعها ، والبيع أعم وهو أن يبيع أحد ما يحتاج إلى ثمنه .
وقرأ الجمهور : { يسبح } بكسر الموحدة بالبناء للفاعل و { رجال } فاعله . وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم بفتح الموحدة على البناء للمجهول فيكون نائب الفاعل أحد المجرورات الثلاثة وهي { له فيها بالغدو } ويكون { رجال } فاعلاً بفعل محذوف من جملة هي استئناف . ودل على المحذوف قوله : { يسبّح } كأنه قيل : من يسبحه ؟ فقيل : يُسبح له رجال . على نحو قول نهشل بن حَريّ يرثي أخاه يزيد :
لِيُبْكِ يزيدُ ضارعٌ لخصومة *** ومختبطٌ مما تُطيح الطوائح
وجملة : { لا تلهيهم تجارة } وجملة : { يخافون } صفتان ل { رجال } ، أي لا يشغلهم ذلك عن أداء ما وجب عليهم من خوف الله { وإقام الصلاة } الخ وهذا تعريض بالمنافقين .
و { إقام } مصدر على وزن الإفعال . وهو معتل العين فاستحق نقل حركة عينه إلى الساكن الصحيح قبله وانقلاب حرف العلة ألفاً إلا أن الغالب في نظائره أن يقترن آخره بهاء تأنيث نحو إدامة واستقامة . وجاء مصدر { إقام } غير مقترن بالهاء في بعض المواضع كما هنا . وتقدم معنى إقامة الصلاة في صدر سورة البقرة ( 3 ) .
وانتصب { يوماً } من قوله : { يخافون يوماً } على المفعول به لا على الظرف بتقدير مضاف ، أي يخافون أهواله .
وتقلّب القلوب والأبصار : اضطرابها عن مواضعها من الخوف والوجل كما يتقلب المرء في مكانه . وقد تقدم في قوله تعالى : { ونقلب أفئدتهم وأبصارهم } في سورة الأنعام ( 110 ) . والمقصود من خوفه : العمل لما فيه الفلاح يومئذٍ كما يدل عليه قوله : { ليجزيهم الله أحسن ما عملوا } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.