ولكن عدم تصديقك إيانا ، لا يمنعنا أن نعتذر بالعذر الحقيقي ، وكل هذا ، تأكيد لعذرهم . { وَ } مما أكدوا به قولهم ، أنهم { جَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } زعموا أنه دم يوسف حين أكله الذئب ، فلم يصدقهم أبوهم بذلك ، و { قَالَ } { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا } أي : زينت لكم أنفسكم أمرا قبيحا في التفريق بيني وبينه ، لأنه رأى من القرائن والأحوال [ ومن رؤيا يوسف التي قصَّها عليه ]{[442]} ما دلّه على ما قال .
{ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } أي : أما أنا فوظيفتي سأحرص على القيام بها ، وهي أني أصبر على هذه المحنة صبرا جميلا سالما من السخط والتَّشكِّي إلى الخلق ، وأستعين الله على ذلك ، لا على حولي وقوتي ، فوعد من نفسه هذا الأمر وشكى إلى خالقه في قوله : { إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ } لأن الشكوى إلى الخالق لا تنافي الصبر الجميل ، لأن النبي إذا وعد وفى .
{ وجاءوا على قميصه بدم كذب } أي ذي كذب بمعنى مكذوب فيه ، ويجوز أن يكون وصفا بالمصدر للمبالغة وقرئ بالنصب على الحال من الواو أي جاؤوا كاذبين و{ كذب } بالدال غير المعجمة أي كدر أو طري . وقيل : أصله البياض الخارج على أظفار الأحداث فشبه به الدم اللاصق على القميص ، وعلى قميصه في موضع النصب على الظرف أي فوق قميصه أو على الحال من الدم إن جوز تقديمها على المجرور . روي : أنه لما سمع بخبر يوسف صاح وسأل عن قميصه فأخذه وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص وقال : ما رأيت كاليوم ذئبا أحلم من هذا أكل ابني ولم يمزق عليه قميصه . ولذلك { قال بل سوّلت لكم أنفسكم أمرا } أي سهلت لكم أنفسكم وهونت في أعينكم أمرا عظيما من السول وهو الاسترخاء . { فصبرٌ جميل } أي فأمري صبر جميل ، أو فصبر جميل أجمل ، وفي الحديث " الصبر الجميل الذي لا شكوى فيه إلى الخلق " . { والله المستعان على ما تصفون } على احتمال ما تصفونه من إهلاك يوسف وهذه الجريمة كانت قبل استنبائهم إن صح .
وجملة { وجاءوا على قميصه } في موضع الحال . ولما كان الدم ملطخاً به القميص وكانوا قد جاءوا مصاحبين للقميص فقد جاءوا بالدم على القميص .
ووصف الدم بالكذب وصف بالمصدر ، والمصدر هنا بمعنى المفعول كالخَلْق بمعنى المخلوق ، أي مكذوب كونه دم يوسف عليه السّلام إذ هو دم جدي ، فهو دم حقاً لكنه ليس الدم المزعوم . ولا شك في أنهم لم يتركوا كيفية من كيفيات تمويه الدم وحالة القميص بحال قميص من يأكله الذئب من آثار تخريق وتمزيق مما لا تخلو عنه حالة افتراس الذئب ، وأنهم أفطن من أن يفوتهم ذلك وهم عصبة لا يعْزُب عن مجموعهم مثل ذلك . فما قاله بعض أصحاب التفسير من أن يعقوب عليه السّلام قال لأبنائه : ما رأيت كاليوم ذئباً أحلَم من هذا ، أكل ابني ولم يمزق قميصه ، فذلك من تظرفات القصص .
وقوله : { على قميصه } حال من ( دم ) فقدم على صاحب الحال .
{ قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون }
حرف الإضراب إبطال لدعواهم أن الذئب أكله فقد صرح لهم بكذبهم .
والتسويل : التسهيل وتزيين النفس ما تحرص على حصوله .
والإبهام الذي في كلمة { أمراً } يحتمل عدة أشياء مما يمكن أن يؤذوا به يوسف عليه السّلام : من قتل ، أو بيع ، أو تغريب ، لأنه لم يعلم تعيين ما فعلوه . وتنكير { أمراً } للتهويل .
وفرّع على ذلك إنشاءُ التصبر { فصبرٌ جميل } نائب مناب اصبر صبراً جميلاً . عدل به عن النصب إلى الرفع للدلالة على الثبات والدوام ، كما تقدم عند قوله تعالى : { قالوا سلاماً قال سلامٌ } في سورة هود ( 69 ) . ويكون ذلك اعتراضاً في أثناء خطاب أبنائه ، أو يكون تقدير : اصبر صبراً جميلاً ، على أنه خطاب لنفسه . ويجوز أن يكون فصبر جميل } خبر مبتدأ محذوف دلّ عليه السياق ، أي فأمْري صبرٌ . أو مبتدأ خبره محذوف كذلك . والمعنى على الإنشاء أوقع ، وتقدم الصبر عند قوله تعالى : { واستعينوا بالصبر والصلاة } في سورة البقرة ( 45 ) .
ووصف { جميل } يحتمل أن يكون وصفاً كاشفاً إذ الصبر كله حسن دون الجزع . كما قال إبراهيم بن كنيف النبهاني :
تصبّر فإنّ الصبر بالحرّ أجمل *** وليس على ريب الزمان معوّل
ويحتمل أن يكون وصفاً مخصصاً . وقد فسّر الصبر الجميل بالذي لا يخالطه جزع .
والجمال : حسن الشيء في صفات محاسن صنفه ، فجمال الصبر أحسن أحواله ، وهو أن لا يقارنه شيء يقلل خصائص ماهيته .
وفي الحديث الصحيح أن النبي عليه السّلام مر بامرأة تبكي عند قبر فقال لها : « اتقي الله واصبري » فقالت : إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي ولم تعرفه فلما انصرف مرّ بها رجل ، فقال لها : إنه النبيءُ صلى الله عليه وسلم فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : لم أعرفك يا رسول الله ، فقال : « إنما الصبر عند الصدمة الأولى » أي الصبر الكامل .
وقوله : { والله المستعان على ما تصفون } عطف على جملة { فصبر جميل } فتكون محتملة للمعنيين المذكورين من إنشاء الاستعانة أو الإخبار بحصول استعانته بالله على تحمل الصبر على ذلك ، أو أراد الاستعانة بالله ليوسف عليه السّلام على الخلاص مما أحاط به .
والتعبير عما أصاب يوسف عليه السّلام ب { ما تصفون } في غاية البلاغة لأنه كان واثقاً بأنهم كاذبون في الصفة وواثقاً بأنهم ألحقوا بيوسف عليه السّلام ضراً فلما لم يتعيّن عنده المصاب أجمل التعبير عنه إجمالاً موجهاً لأنهم يحسبون أن ما يصفونه هو موته بأكل الذئب إياه ويعقوب عليه السّلام يريد أن ما يصفونه هو المصاب الواقع الذي وصفوه وصفاً كاذباً . فهو قريب من قوله تعالى : { سبحان ربك رب العزة عما يصفون } [ سورة الصافات : 180 ] .
وإنما فوض يعقوب عليه السّلام الأمر إلى الله ولم يسْعَ للكشف عن مصير يوسف عليه السّلام لأنه علم تعذر ذلك عليه لكبر سنه ، ولأنه لا عضد له يستعين به على أبنائه أولئك . وقد صاروا هم الساعين في البعد بيْنه وبين يوسف عليه السّلام ، فأيس من استطاعة الكشف عن يوسف عليه السّلام بدونهم ، ألا ترى أنه لما وجد منهم فرصة قال لهم : { اذهبوا فتحسّسوا من يوسف وأخيه } [ سورة يوسف : 87 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.