{ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ ْ } أي : أعطيناكم ، وأنعمنا به عليكم { وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ ْ } لا يغنون عنكم شيئا { وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ ْ }
فإن المشركين يشركون بالله ، ويعبدون معه الملائكة ، والأنبياء ، والصالحين ، وغيرهم ، وهم كلهم لله ، ولكنهم يجعلون لهذه المخلوقات نصيبا من أنفسهم ، وشركة في عبادتهم ، وهذا زعم منهم وظلم ، فإن الجميع عبيد لله ، والله مالكهم ، والمستحق لعبادتهم . فشركهم في العبادة ، وصرفها لبعض العبيد ، تنزيل لهم منزلة الخالق المالك ، فيوبخون يوم القيامة ويقال لهم هذه المقالة .
{ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ْ } أي : تقطعت الوصل والأسباب بينكم وبين شركائكم ، من الشفاعة وغيرها فلم تنفع ولم تُجْد شيئا . { وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ْ } من الربح ، والأمن والسعادة ، والنجاة ، التي زينها لكم الشيطان ، وحسنها في قلوبكم ، فنطقت بها ألسنتكم . واغتررتم بهذا الزعم الباطل ، الذي لا حقيقة له ، حين تبين لكم نقيض ما كنتم تزعمون ، وظهر أنكم الخاسرون لأنفسكم وأهليكم وأموالكم .
{ ولقد جئتمونا } للحساب والجزاء . { فرادى } منفردين عن الأموال والأولاد وسائر ما آثرتموه من الدنيا ، أو عن الأعوان والأوثان التي زعمتم أنها شفعاؤكم ، وهو جمع فرد والألف للتأنيث ككسالى . وقرئ " فراد " كرخال وفراد كثلاث وفردى كسكرى . { كما خلقناكم أول مرة } بدل من أنه أي على الهيئة التي ولدتم عليها في الانفراد ، أو حال ثانية إن جوز التعدد فيها ، أو حال من الضمير في { فرادى } أي مشبهين ابتداء خلقكم عراة حفاة غرلا بهما ، أو صفة مصدر { جئتمونا } أي مجيئنا كما خلقناكم . { وتركتم ما خولناكم } ما تفضلنا به عليكم في الدنيا فشغلتم به عن الآخرة . { وراء ظهوركم } ما قدمت منهم شيئا ولم تحتملوا نقيرا . { وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء } أي شركاء لله في ربوبيتكم واستحقاق عبادتكم . { لقد تقطع بينكم } أي تقطع وصلكم وتشدد جمعكم ، والبين من الأضداد يستعمل للوصل والفصل . وقيل هو الظرف أسند إليه الفعل اتساعا والمعنى : وقع التقطع بينكم ، ويشهد له قراءة نافع والكسائي وحفص عن عاصم بالنصب على إضمار الفاعل لدلالة ما قبله عليه ، أو أقيم مقام موصوفة وأصله لقد تقطع ما بينكم وقد قرئ به . { وظل عنهم } ضاع وبطل . { ما كنتم تزعمون } أنها شفعاؤكم أو أن لا بعث ولا جزاء .
هذه حكاية عما يقال لهم بعد قبض أرواحهم ، فإما عند خروجها من الأجساد وإما يوم القيامة كل ذلك محتمل ، و { فرادى } معناه فرداً فرداً ، والألف في آخره ألف تأنيث ومنه قول الشاعر [ ابن مقبل ] :
ترى النعرات الزرق تحت لبانه . . . فرادى ومثنى أصعقتها صواهله{[5019]}
وقرأ أبو حيوة «فرادىً » منوناً على وزن فعال وهي لغة تميم ، و { فرادى } قيل هو جمع فرَد بفتح الراء ، وقيل جمع فرْد بإسكان الراء{[5020]} ، والمقصد في الآية توقيف الكفار على انفرادهم وقلة النصير واحتياجهم إلى الله عز وجل بفقد الخول والشفعاء ، فيكون قوله : { كما خلقناكم أول مرة } تشبيهاً بالانفراد الأول في وقت الخلقة ، ويتوجه معنى آخر وهو أن يتضمن قوله : { كما خلقناكم } زيادة معان على الانفراد كأنه قال : ولقد جئتمونا فرادى وبأحوال كذا ، والإشارة على هذا بقوله كما هي إلى ما قاله النبي عليه السلام في صفة من يحشر أنهم يحشرون حفاة عراة غرلاً{[5021]} ، و { خولناكم } معناه أعطيناكم ، وكان أبو عمرو بن العلاء ينشد بيت زهير : [ الطويل ] :
هنالك إنْ يُسْتَخْوَلُوا المالَ يُخْوِلُوا . . . وإن يُسْألوا يُعْطُوا وإن َييْسِرُوا يُغْلُوا{[5022]}
{ وراء ظهوركم } إشارة إلى الدنيا لأنهم يتركون ذلك موجوداً .
وقوله تعالى : { وما نرى معكم شفعاءكم } الآية ، توقيف على الخطأ في عبادة الأصنام وتعظيمها ، قال الطبري : وروي أن هذه الآية نزلت في النضر بن الحارث لأنه قال سوف تشفع له اللات والعزى .
قال القاضي أبو محمد : ومن كان من العرب يعتقد أنها تشفع وتقرب إلى الله زلفى ويرى شركتها بهذا الوجه فمخاطبته بالآية متمكن وهكذا كان الأكثر ، ومن كان منهم لا يقر بإله غيرها فليس هو في هذه الآية ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وابن عامر ، وحمزة «بينُكم » بالرفع ، وقرأ نافع والكساء «بينَكم » بالنصب أما الرفع فعلى وجوه ، أولاها أنه الظرف استعمل اسماً وأسند إليه الفعل كما قد استعملوه ، اسماً في قوله تعالى : { من بيننا وبينك حجاب }{[5023]} وكقولهم فيما حكى سيبويه :«أحمر بين العينين » ، ورجح هذا القول أبو علي الفارسي ، والوجه الآخر أن بعض المفسرين منهم الزهراوي والمهدوي وأبو الفتح وسواهم حكوا أن «البين » في اللغة يقال على الافتراق وعلى الوصل فكأنه قال لقد تقطع وصلكم .
قال القاضي أبو محمد : وفي هذا عندي اعتراض لأن ذلك لم يرو مسموعاً{[5024]} عن العرب وإنما انتزع من الآية ، والآية محتملة ، قال الخليل في العين : «والبين :الوصل »لقوله عز وجل : { لقد تقطع بينكم } فعلل سوق اللفظة بالآية ، والآية معرضة لغير ذلك ، أما إن أبا الفتح قوى أن «البين » الوصل وقال : «وقد أتقن ذلك بعض المحدثين بقوله : قد أنصف البين من البين » .
والوجه الثالث من وجوه الرفع أن يكون «البين » على أصله في الفرقة من بان يبين إذا بعد ، ويكون في قوله : { تقطع } تجوز على نحو ما يقال في الأمر البعيد في المسافة تقطعت الفجاج بين كذا وكذا عبارة عن بعد ذلك ، ويكون المقصد لقد تقطعت المسافة بينكم لطولها فعبر عن ذلك «بالبين » الذي هو الفرقة ، وأما وجه قراءة النصب فأن يكون ظرفاً ويكون الفعل مستنداً إلى شيء محذوف وتقديره لقد تقطع الاتصال أو الارتباط بينكم أو نحو هذا .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا وجه واضح وعليه فسره الناس : مجاهد والسدي وغيرهما{[5025]} . وجه آخر يراه أبو الحسن الأخفش وهو أن يكون الفعل مسنداً إلى الظرف ويبقى الظرف على حال نصبه وهو في النية مرفوع ، ومثل هذا عنده قوله { وإنّا منا الصالحون ومنا دون ذلك }{[5026]} وقرأ ابن مسعود ومجاهد والأعمش «تقطع ما بينكم » بزيادة ما و { ضل } معناه تلف وذهب ، و { ما كنتم تزعمون } يريد دعواهم أنها تشفع وتشارك الله في الألوهية .
إن كان القول المقدّر في جملة { أخرجوا أنفسكم } [ الأنعام : 93 ] قولاً من قِبَل الله تعالى كان قوله { ولقد جئتمونا فرادى } عطفاً على جملة { أخرجوا أنفسكم } [ الأنعام : 93 ] ، أي يقال لهم حين دفعهم الملائكة إلى العذاب : أخرجوا أنفسكم ، ويقال لهم : لقد جئتمونا فرادى . فالجملة في محلّ النّصب بالقول المحذوف . وعلى احتمال أن يكون { غمرات الموت } [ الأنعام : 93 ] حَقيقة ، أي في حين النّزع يكون فعل { جئتمونا } من التّعبير بالماضي عن المستقبل القريب ، مثل : قد قامت الصّلاة ، فإنّهم حينئذٍ قاربوا أن يرجعوا إلى مَحض تصرّف الله فيهم .
وإن كان القول المقدّر قولَ الملائكة فجملة : { ولقد جئتمونا فُرادى } عطف على جملة : { ولو ترى إذ الظّالمون } [ الأنعام : 93 ] فانتقل الكلام من خطاب المعتبِرين بحال الظّالمين إلى خطاب الظّالمين أنفسهم بوعيدهم بما سيقول لهم يومئذٍ .
فعلى الوجه الأوّل يكون { جئتمونا } حقيقة في الماضي لأنّهم حينما يقال لهم هذا القول قد حصل منهم المجيء بين يدي الله . و ( قد ) للتّحقيق .
وعلى الوجه الثّاني يكون الماضي معبّراً به عن المستقبل تنبيهاً على تحقيق وقوعه ، وتكون ( قد ) ترشيحاً للاستعارة .
وإخبارهم بأنّهم جاءوا ليس المراد به ظاهر الإخبار لأنّ مجيئهم معلوم لهم ولكنّه مستعمل في تخطئتهم وتوقيفهم على صدق ما كانوا يُنذرون به على لسان الرّسول فينكرونه وهو الرّجوع إلى الحياة بعد الموت للحساب بين يدي الله . وقد يقصد مع هذا المعنى معنى الحصول في المِكنة والمصير إلى ما كانوا يحسبون أنّهم لا يصيرون إليه ، على نحو قوله تعالى : { ووجد الله عنده } [ النور : 39 ] ، وقول الرّاجز :
والضّمير المنصوب في { جئتمونا } ضمير الجلالة وليس ضمير الملائكة بدليل قوله : { كما خلقناكم } .
و { فُرادى } حال من الضّمير المرفوع في { جئتمونا } أي منعزلين عن كلّ ما كنتم تعتزّون به في الحياة الأولى من مال وولد وأنصار ، والأظهر أنّ ( فُرادى ) جمع فَرْدَان مثل سُكارى لسَكران . وليس فُرادى المقصورُ مرادفاً لفُرادَ المعدوللِ لأنّ فُرادَ المعدول يدلّ على معنى فَرْداً فَرْداً ، مثل ثُلاث ورُباع من أسماء العدد المعدولة . وأمّا فرادى المقصور فهو جمع فردان بمعنى المنفرد . ووجه جمعه هنا أنّ كلّ واحد منهم جاء منفرداً عن ماله .
وقوله : { كما خلقناكم أوّل مرّة } تشبيه للمجيء أريد منه معنى الإحياء بعد الموت الّذي كانوا ينكرونه فقد رأوه رأي العين ، فالكاف لتشبيه الخلق الجديد بالخلق الأوّل فهو في موضع المفعول المطلق . و ( ما ) المجرورة بالكاف مصدريّة . فالتّقدير : كخلْقِنا إيّاكم ، أي جئتمونا مُعَادَيْن مخلوقين كما خلقناكم أوّل مرّة ، فهذا كقوله تعالى : { أفعيينا بالخلق الأوّل بل هم في لبس من خلق جديد } [ ق : 15 ] .
والتّخويل : التفضّل بالعطاء . قيل : أصله إعطاء الخَوَل بفتحتين وهو الخدم ، أي إعطاء العبيد . ثمّ استعمل مجازاً في إعطاء مطلق ما ينفع ، أي تركتم ما أنعمنا به عليكم من مال وغيره .
و ( ما ) موصولة ومعنى تركهم إيّاه وراء ظهورهم بعدُهم عنه تمثيلاً لحال البعيد عن الشّيء بمن بارحه سائراً ، فهو يترك من يبارحه وراءه حين مبارحته لأنّه لو سار وهو بين يديه لبلغ إليه ولذلك يمثّل القاصد للشّيء بأنّه بين يديه ، ويقال للأمر الّذي يهيّئه المرءُ لنفسه : قد قدّمه .
{ وتَركتم } عطف على { جئتمونا } وهو يبيّن معنى { فرادى } إلاّ أنّ في الجملة الثّانية زيادة بيان لمعنى الانفراد بذكر كيفية هذا الانفراد لأنّ كلا الخبرين مستعمل في التّخطئة والتّنديم ، إذ جاءوا إلى القيامة وكانوا ينْفون ذلك المجيء وتركوا ما كانوا فيه في الدّنيا وكان حالهم حال من ينوي الخلود . فبهذا الاعتبار عطفت الجملة ولم تفصل . وأبو البقاء جعل الجملة حالاً من الواو في { جئتمونا } فيصير ترك ما خوّلوه هو محلّ التّنكيل .
وكذلك القول في جملة { وما نَرى معكم شفعاءكم } أنّها معطوفة على { جئتمونا وتركتم } لأنّ هذا الخبر أيضاً مراد به التّخطئة والتَّلهيف ، فالمشركون كانوا إذا اضطربت قلوبهم في أمر الإسلام علّلوا أنفسهم بأنّ آلهتهم تشفع لهم عند الله . وقد روى بعضهم : أنّ النّضر بن الحارث قال ذلك ، ولعلّه قاله استسخاراً أو جهلاً ، وأنّ الآية نزلت ردّاً عليه ، أي أن في الآية ما هو ردّ عليه لا أنّها نزلت لإبطال قوله لأنّ هذه الآيات متّصل بعضها ببعض ، وفي قوله : { وما نرى معكم شفعاءكم } بيان أيضاً وتقرير لقوله : { فرادى } .
وقوله : { وما نرى معكم شفعاءكم } تهكّم بهم لأنّهم لا شفعاء لهم فسيق الخطاب إليهم مساق كلام من يترقّب ، أي يرى شيئاً فلم يره على نحو قوله في الآية الأخرى { ويقول أين شركائي الّذين كنتم تُشَاقُّونِ فيهم } [ النحل : 27 ] ، بناء على أنّ نفي الوصف عن شيء يدلّ غالباً على وجود ذلك الشّيء ، فكان في هذا القول إيهام أنّ شفعاءهم موجودون سوى أنّهم لم يحضروا ، ولذلك جيء بالفعل المنفي بصيغة المضارع الدالّ على الحال دون الماضي ليشير إلى أنّ انتفاء رؤية الشّفعاء حاصل إلى الآن ، ففيه إيهام أنّ رؤيتهم محتملة الحصول بعد في المستقبل ، وذلك زيادة في التهكّم .
وأضيف الشّفعاء إلى ضمير المخاطبين لأنّه أريد شفعاء معهودون ، وهم الآلهة الّتي عبدوها وقالوا : { ما نعبدهم إلاّ ليقرّبونا إلى الله زلفى } [ الزمر : 3 ] { ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [ يونس : 18 ] . وقد زيد تقرير هذا المعنى بوصفهم بقوله : { الّذين زعمتم أنّهم فيكم شركاء } .
والزّعم : القول الباطل سواء كان عن تعمّد للباطل كما في قوله تعالى : { ألم تر إلى الّذين يزعمون أنّهم آمنوا بما أنزل إليك } [ النساء : 60 ] أم كان عن سوء اعتقاد كما هنا ، وقوله : { ويوم نحشرهم جميعاً ثمّ نقول للّذين أشركوا أين شركاؤكم الّذين كنتم تزعمون } [ الأنعام : 22 ] ، وقد تقدّم ذلك في هاتين الآيتين في سورة النساء وفي هذه السورة .
وتقديم المجرور في قوله : { فيكم شركاء } للاهتمام الّذي وجهُه التَعجيب من هذا المزعوم إذ جعلوا الأصنام شركاء لله في أنفسهم وقد علموا أنّ الخالق هو الله تعالى فهو المستحقّ للعبادة وحده فمن أين كانت شركة الأصنام لله في استحقاق العبادة ، يعني لو ادّعوا للأصنام شيئاً مغيباً لا يُعرف أصل تكوينه لكان العجب أقلّ ، لكن العجب كلّ العجب من ادّعائهم لهم الشركة في أنفسهم ، لأنّهم لمّا عبدوا الأصنام وكانت العبادة حقّاً لأجل الخالقيّة ، كان قد لزمهم من العبادة أن يزعموا أنّ الأصنام شركاء لله في أنْفُس خلقه ، أي في خلقهم ، فلذلك عُلِّقت النّفوس بالوصف الدالّ على الشركة .
وتقدّم معنى الشّفاعة عند قوله تعالى : { ولا يُقبل منها شفاعة } في سورة [ البقرة : 48 ] .
وجملة : { لقد تقطّع بينَكم } استئناف بياني لجملة : { وما نرى معكم شفعاءكم } لأنّ المشركين حين يسمعون قوله : { ما نَرى معكم شفعاءكم } يعتادهم الطّمع في لقاء شفعائهم فيتشوّفون لأن يعلموا سبيلهم ، فقيل لهم : لقدْ تقطَّع بينكم تأييساً لهم بعد الإطماع التهكمي ، والضّمير المضاف إليه عائد إلى المخاطبين وشفعائهم .
وقرأ نافع ، والكسائي ، وحفص عن عاصم بفتح نون { بينَكم } . ف ( بينَ ) على هذه القراءة ظرف مكان دالّ على مكان الاجتماع والاتّصال فيما يضاف هُو إليه . وقرأ البقيّة بضمّ نون { بينكم } على إخراج ( بين ) عن الظّرفية فصار اسماً متصرّفاً وأسند إليه التقطّع على طريقة المجاز العقلي .
وحذف فاعل تقطّع على قراءة الفتح لأنّ المقصود حصول التقطّع ، ففاعله اسم مُبهم ممّا يصلح للتقطّع وهو الاتّصال . فيقدّر : لقد تقطّع الحَبْل أو نحوُه . قال تعالى : { وتقطَّعت بهم الأسباب } [ البقرة : 166 ] . وقد صار هذا التّركيب كالمثَل بهذا الإيجاز . وقد شاع في كلام العرب ذكر التقطّع مستعاراً للبعد وبطلان الاتّصال تبعاً لاستعارة الحبل للاتّصال ، كما قال امرؤ القيس :
تَقَطَّعَ أسبابُ اللُّبانةِ والهوى *** عَشِيَّة جاوزنا حَمَاةَ وشَيْزَرا
فمن ثمّ حسن حذف الفاعل في الآية على هذه القراءة لدلالة المقام عليه فصَار كالمثل . وقدّر الزمخشري المصدر المأخوذ من { تقطّع } فاعلاً ، أي على إسناد الفعل إلى مصدره بهذا التّأويل ، أي وقع التقطّع بينَكم . وقال التفتزاني : « الأوْلى أنّه أسند إلى ضمير الأمْر لتقرّره في النّفوس ، أي تقطّع الأمْر بينكم » .
وقريب من هذا ما يقال : إنّ { بينكم } صفة أقيمت مقام الموصوف الّذي هو المسند إليه ، أي أمر بينكم ، وعلى هذا يكون الاستعمال من قبيل الضّمير الّذي لم يذكر مَعاده لكونه معلوماً من الفعل كقوله : { حتّى توارت بالحجاب } [ ص : 32 ] ، لكن هذا لا يعهد في الضّمير المستتر لأنّ الضّمير المستتر ليس بموجود في الكلام وإنّما دعا إلى تقديره وجود مَعاده الدّال عليه . فأمّا والكلام خليّ عن معاد وعن لفظ الضّمير فالمتعيّن أن نجعله من حذف الفاعل كما قرّرته لك ابتداء ، ولا يقال : إنّ { توارت بالحجاب } ليس فيه لفظ ضمير إذ التّاء علامة لإسناد الفعل إلى مؤنّث لأنَّا نقول : التّحقيق أنّ التّاء في الفعل المسند إلى الضّمير هي الفاعل .
وعلى قراءة الرّفع جعل { بينكم } فاعلاً ، أي أخرج عن الظّرفية وجعل اسماً للمكان الّذي يجتمع فيه ماصْدق الضمير المضاف إليه اسم المكان ، أي انفصل المكان الّذي كان محلّ اتّصالكم فيكون كناية عن انفصال أصحاب المكان الّذي كان محلّ اجتماع . والمكانية هنا مجازيّة مثل { لا تقدّموا بين يدي الله ورسوله } [ الحجرات : 1 ]
وقوله : { وضلّ عنكم } عطف على { تقطّع بينكم } وهو من تمام التهكّم والتأييس . ومعنى ضلّ : ضدّ اهتدى ، أي جهل شفعاؤكم مكانكم لمّا تقطّع بينكم فلم يهتدوا إليكم ليشفعوا لكم . و ( ما ) موصولة ماصْدقها الشفعاء لاتّحاد صلتها وصلة { الّذين زعمتم أنّهم فيكم شركاء } ، أي الّذين كنتم تزعمونهم شركاء ، فحذف مفعولا الزّعم لدلالة نظيره عليهما في قوله : { زعمتم أنّهم فيكم شركاء } ، وعُبّر عن الآلهة ب ( ما ) الغالبة في غير العاقل لظهور عدم جدواها ، وفسّر ابن عطيّة وغيره ضَلّ بمعنى غاب وتلف وذهب ، وجعلوا ( ما ) مصدريّة ، أي ذهب زعمكم أنّها تشفع لكم . وما ذكرناه في تفسير الآية أبلغ وأوقع .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
هذا خبر من الله جلّ ثناؤه عما هو قائل يوم القيامة لهؤلاء العادلين به الآلهة والأنداد، يخبر عباده أنه يقول لهم عند ورودهم عليه:"لقد جئتمونا فرادى" ويعني بقوله: "فرادى": وحداناً لا مال معهم ولا أثاث ولا رفيق ولا شيء مما كان الله خوّلهم في الدنيا.
"كمَا خَلَقْناكُمْ أوّل مَرّة "عُراة غُلْفاً غُرْلاً حفاة كما ولدتهم أمهاتهم، وكما خلقهم جلّ ثناؤه في بطون أمهاتهم، لا شيء عليهم ولا معهم مما كانوا يتباهون به في الدنيا. وفرادى: جمع، يقال لواحدها: فرد...
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، قال: أخبرني عمرو أن ابن أبي هلال حدثه أنه سمع القرطبي يقول: قرأت عائشة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم قول الله: "وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرَادَى كمَا خَلَقْناكُمْ أوّل مَرّةٍ" فقالت: واسوأتاه، إن الرجال والنساء يحشرون جميعاً ينظر بعضهم إلى سوأة بعض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «"لِكُلّ امْرِئ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شأْنٌ يُغْنِيهِ"، لا يَنْظُرُ الرّجالُ إلى النّساءِ ولا النّساءُ إلى الرّجالِ، شُغِلَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ».
"وَتَرَكْتُمْ ما خَوّلْناكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ": خَلّفتم أيها القوم ما مكناكم في الدنيا مما كنتم تتباهون به فيها خلفكم في الدنيا، فلم تحملوه معكم. وهذا تعيير من الله جلّ ثناؤه لهؤلاء المشركين بمباهاتهم التي كانوا يتباهون بها في الدنيا بأموالهم. وكلّ ما مَلّكته غيرَك وأعطيته فقد خوّلته...
"وَما نَرَى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الّذِينَ زَعَمْتُمْ أنّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ"؛
يقول تعالى ذكره لهؤلاء العادلين بربهم الأنداد يوم القيامة: ما نرى معكم شفعاءكم الذين كنتم في الدنيا تزعمون أنهم يشفعون لكم عند ربكم يوم القيامة. وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في النضر بن الحرث لقيله: إن اللات والعُزّى يشفعان له عند الله يوم القيامة. وقيل: إن ذلك كان قول كافة عبدة الأوثان. "لَقَدْ تَقَطّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ".
يقول تعالى مخبراً عن قيله يوم القيامة لهؤلاء المشركين به الأنداد: "لَقَدْ تَقَطّعَ بَيْنَكُمْ" يعني: تواصلَهم الذي كان بينهم في الدنيا، ذهب ذلك اليوم، فلا تواصل بينهم ولا توادّ ولا تناصر، وقد كانوا في الدنيا يتواصلون ويتناصرون فاضمحلّ ذلك كله في الآخرة، فلا أحد منهم ينصر صاحبه ولا يواصله.
"وَضَلّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ": وحاد عن طريقكم ومنهاجكم ما كنتم من آلهتكم تزعمون أنه شريك ربكم، وأنه لكم شفيع عند ربكم، فلا يشفع لكم اليوم.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
فإن قيل: فقوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا} خبر عن ماض، والمقصود منه الاستقبال؟ فعن ذلك جوابان. أحدهما: أنه يقال لهم ذلك في الآخرة فهو على الظاهر إخبار. والثاني: أنه لتحققه بمنزلة ما كان، فجاز، وإن كان مستقبلاً أن يعبر عنه بالماضي.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
... ما دخلت إلا بوصف التجرد، ولا خرجتَ إلا بحكم التفرد. ثم الأثقالُ والأوزارُ، والأحمالُ والأوضارُ لا يأتي عليها حَصْرٌ ولا مقدار؛ فلا مالكم أغنى عنكم ولا حالكم يَرْفُعُ منكم، ولا لكم شفيعٌ يخاطبنا فيكم؛ فقد تَقَطَّعَ بَيْنُكم، وتَفرَّق وَصْلُكم، وتبدَّد شملُكم، وتلاشى ظنُّكم، وخانكم -في التحقيق- وسعُكم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فرادى}: منفردين عن أموالكم وأولادكم وما حرصتم عليه، وآثرتموه من دنياكم، وعن أوثانكم التي زعمتم أنها شفعاؤكم وشركاء لله {كَمَا خلقناكم أَوَّلَ مَرَّةٍ} على الهيئة التي ولدتم عليها في الانفراد {وَتَرَكْتُمْ مَّا خولناكم} ما تفضلنا به عليكم في الدنيا فشغلتم به عن الآخرة {وَرَاء ظُهُورِكُمْ} لم ينفعكم ولم تحتملوا منه نقيراً ولا قدّمتموه لأنفسكم {فِيكُمْ شُرَكَاء} في استبعادكم، لأنهم حين دعوهم آلهة وعبدوها، فقد جعلوها لله شركاء فيهم وفي استعبادهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه حكاية عما يقال لهم بعد قبض أرواحهم، فإما عند خروجها من الأجساد وإما يوم القيامة كل ذلك محتمل،... والمقصد في الآية توقيف الكفار على انفرادهم وقلة النصير واحتياجهم إلى الله عز وجل بفقد الخول والشفعاء، فيكون قوله: {كما خلقناكم أول مرة} تشبيهاً بالانفراد الأول في وقت الخلقة، ويتوجه معنى آخر وهو أن يتضمن قوله: {كما خلقناكم} زيادة معان على الانفراد كأنه قال: ولقد جئتمونا فرادى وبأحوال كذا، والإشارة على هذا بقوله كما هي إلى ما قاله النبي عليه السلام في صفة من يحشر أنهم يحشرون حفاة عراة غرلاً...
{ولقد جئتمونا فرادى} المراد منه التقريع والتوبيخ، وذلك لأنهم صرفوا جدهم وجهدهم في الدنيا إلى تحصيل أمرين: أحدهما: تحصيل المال والجاه. والثاني: أنهم عبدوا الأصنام لاعتقادهم أنها تكون شفعاء لهم عند الله. ثم إنهم لما وردوا محفل القيامة لم يبق معهم شيء من تلك الأموال ولم يجدوا من تلك الأصنام شفاعة لهم عند الله تعالى فبقوا فرادى عن كل ما حصلوه في الدنيا وعولوا عليه، بخلاف أهل الإيمان فإنهم صرفوا عمرهم إلى تحصيل المعارف الحقة والأعمال الصالحة، وتلك المعارف والأعمال الصالحة بقيت معهم في قبورهم وحضرت معهم في مشهد القيامة، فهم في الحقيقة ما حضروا فرادى، بل حضروا مع الزاد ليوم المعاد:
المسألة الثانية: اعلم أن هذه الآية مشتملة على قانون شريف في معرفة أحوال القيامة فأولها: أن النفس الإنسانية إنما تعلقت بهذا الجسد آلة له في اكتساب المعارف الحقة والأخلاق الفاضلة، فإذا فارقت النفس الجسد ولم يحصل هذين المطلوبين البتة عظمت حسراته وقويت آفاته حيث وجد مثل هذه الآلة الشريفة التي يمكن اكتساب السعادة الأبدية بها، ثم إنه ضيعها وأبطلها ولم ينتفع بها البتة، وهذا هو المراد من قوله: {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة}. وثانيها: أن هذه النفس مع أنها لم تكتسب بهذه الآلة الجسدانية سعادة روحانية، وكمالا روحانيا، فقد عملت عملا آخر أردأ من الأول، وذلك لأنها طول العمر كانت في الرغبة في تحصيل المال والجاه وفي تقوية العشق عليها، وتأكيد المحبة، وفي تحصيلها. والإنسان في الحقيقة متوجه من العالم الجسماني إلى العالم الروحاني، فهذا المسكين قلب القضية وعكس القضية وأخذ يتوجه من المقصد الروحاني إلى العالم الجسماني ونسي مقصده واغتر باللذات الجسمانية، فلما مات انقلبت القضية شاء أم أبى توجه من العالم الجسماني إلى العالم الروحاني، فبقيت الأموال التي اكتسبها وأفنى عمره في تحصيلها وراء ظهره، والشيء الذي يبقى وراء ظهر الإنسان لا يمكنه أن ينتفع به، وربما بقي منقطع المنفعة معوج الرقبة معوج الرأس بسبب التفاته إليها مع العجز عن الانتفاع بها، وذلك يوجب نهاية الخيبة والغم والحسرة وهو المراد من قوله: {وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم} وهذا يدل على أن كل مال يكتسبه الإنسان ولم يصرفه في مصارف الخيرات فصفته هذه التي ذكرها الله تعالى في هذه الآية، أما إذا صرفها إلى الجهات الموجبة للتعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله فما ترك تلك الأموال وراء ظهره ولكنه قدمها تلقاء وجهه، كما قال تعالى: {وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله}. وثالثها: أن أولئك المساكين أتعبوا أنفسهم في نصرة الأديان الباطلة، والمذاهب الفاسدة وظنوا أنهم ينتفعون بها عند الورود في محفل القيامة، فإذا وردوه وشاهدوا ما في تلك المذاهب من العذاب الشديد والعقاب الدائم حصلت فيه جهات كثيرة من العذاب. منها عذاب الحسرة والندامة: وهو أنه كيف أنفق ماله في تحمل العناء الشديد والبلاء العظيم في تحصيل ما لم يحصل له منه إلا العذاب والعناء، ومنها عذاب الخجلة: وهو أنه ظهر له أن كل ما كان يعتقده في دار الدنيا كان محض الجهالة وصريح الضلالة، ومنها حصول اليأس الشديد مع الطمع العظيم، ولا شك أن مجموع هذه الأحوال يوجب العذاب الشديد والآلام العظيمة الروحانية، وهو المراد من قوله: {وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء}.
ورابعها: أنه لما بدا له أنه فاته الأمر الذي به يقدر على اكتساب الخيرات، وحصل عنده الأمر الذي يوجب حصول المضرات، فإذن بقي له رجاء في التدارك من بعض الوجوه فههنا يخف ذلك الألم ويضعف ذلك الحزن. أما إذا حصل الجزم واليقين بأن التدارك ممتنع، وجبر ذلك النقصان متعذر فههنا يعظم الحزن ويقوى البلاء جدا، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {لقد تقطع بينكم} والمعنى أن الوصلة الحاصلة بين النفس والجسد قد تقطعت ولا سبيل إلى تحصيلها مرة أخرى. وعند الوقوف على حقائق هذه المراتب يظهر أنه لا بيان فوق هذا البيان في شرح أحوال هؤلاء الضالين.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كانوا ينكرون أن يحس الميت شيئاً بعد الموت أو يفهم كلاماً، وكان التقدير كما دل عليه السياق: فتتوفاهم الملائكة، لا يقدر أحد على منعهم، فيقول لهم: قد رأيتم ملائكتنا الذين أخبرناكم أول السورة أنهم إذا أبصروا كان القضاء الفصل والأمر البت الحتم الذي ليس فيه مهل، عطف عليه قوله مشيراً إلى ما كان سبب استكبارهم من الاجتماع على الضلال والتقوي بالأموال: {ولقد جئتمونا} أي لما لنا من العظمة بالموت الذي هو دال على شمول علمنا وتمام قدرتنا قطعاً، ودل على تمام العظمة وأن المراد مجيئهم بالموت قوله: {فرادى} أي متفرقين، ليس أحد منكم مع أحد، ومنفردين على كل شيء صدكم عن اتباع رسلنا {كما خلقناكم} أي بتلك العَظمة التي أمتناكم بها بعينها {أول مرة} في الانفراد والضعف والفقر، فأين جمعكم الذي كنتم به تستكبرون! {وتركتم ما خولناكم} أي ملكناكم من المال ومكناكم من إصلاحه نعمة عليكم لتتوصلوا به إلى رضانا، فظننتم أنه لكم بالأصالة، وأعرضتم عنا وبدلتم ما دل عليه من عظمتنا بضد ذلك من الاستهانة بأوامرنا {وراء ظهوركم} فما أغنى عنكم ما كنتم منه تستكبرون.
ولما كانوا يعدون الأصنام آلهة، ويرجون شفاعتها، إما استهزاء، وإما في الدنيا، وإما في الآخرة -على تقدير التسليم لصحة البعث، قال تهكماً بهم واستهزاء بشأنهم: {وما نرى معكم شفعاءكم} أي التي كنتم تقولون فيها ما تقولون {الذين زعمتم} أي كذباً وجراءة وفجوراً {أنهم فيكم شركاء} أي أن لهم فيكم نصيباً مع الله حتى كنتم تعبدونهم في وقت الرخاء وتدعونه في وقت الشدة، أروناهم لعلهم سترهم عنا ساتر أو حجبنا عنهم حاجب؛ ثم دل على بهتهم في جواب هذا الكلام الهائل المرعب حيرة وعجزاً ودهشاً وذلاً بقوله: {لقد تقطع} أي تقطعاً كثيراً.
ولما كان ذكر البين في شيء يدل على قربه في الجملة وحضوره ولو في الذهن، لأنه يقال: بيني وبين كذا كذا، وكان فلان بيننا، ونحو ذلك مما يدل على الحضور؛ قال منبهاً على زوال ذلك حتى بالمرور بالبال والخطور في الذهن لشدة الاشتغال {بينُكم} فأسند القطع المبالغ فيه إلى البين، وإذا انقطع البين تقطّع ما كان فيه من الأسباب التي كانت تسبب الاتصال، فلم يبق لأحد منهم اتصال بالآخر، لأن ما بينهما صار كالخندق بانقطاع نفس البين، فلا يتأتى معه الوصول، هذا على قراءة الجماعة بالرفع، وهذا المثال معنى قراءة نافع والكسائي وحفص عن عاصم بالنصب على الظرفية؛ ولما رجع المعنى إلى تقطع الوصل، بين سبب ذلك، وهو زوال المستند الذي كانوا يستندون إليه فقال: {وضل عنكم} أي ذهب وبطل {ما كنتم تزعمون} أي من تلك الأباطيل كلها.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة} هذه جملة مستأنفة بين الله تعالى فيها ما يقوله لهؤلاء يوم القيامة بعد بيان ما تقوله لهم ملائكة العذاب كما جزم ابن جرير، لا معطوفة على ما قبلها من حكاية قول الملائكة كما حكاه الرازي أحد وجهين وزعم أنه أقوى، غافلا عن قوله تعالى: {خلقناكم} ولا ينافي هذا الخطاب قوله تعالى: {ولا يكلمهم الله يوم القيامة} [البقرة: 174] لأن معناه أنه لا يكلمهم كلام تكريم ورضاء، أو هو كناية عن الغضب والإعراض؛ والمعنى لقد جئتمونا متفرقين فردا بعد فرد أو وحدانا منفردين عن الأنداد والأوثان، والأهل والإخوان، والأنصار والأعوان، مجردين من الخول والخدم والأملاك والأموال، كما خلقناكم أول مرة من بطون أمهاتكم حفاة عراة غلفا، أكد تعالى الخبر بمجيئهم بعد وقوعه تذكيرا لهم بما كان من جحودهم إياه واستعبادهم لوقوعه، كما ذكرهم بمشابهة بعثهم وإعادتهم لبدء خلقهم، وهو المثل الذي جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم من ربهم.
{وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم} فلم تقدموا لأنفسكم منه شيئا بين أيديكم. معنى خولناكم أعطيناكم، وأصل التخويل إعطاء الخول، كالعبيد والنعم، ويعبر بالترك وراء الظهر عما فات الإنسان التصرف فيه والانتفاع به، لفقده إياه أو بعده عنه، وبالتقديم بين الأيدي عما ينتفع به في المستقبل، فالمراد هنا أن ما كان شاغلا لهم من المال والولد، والخدم والحشم، والأثاث والرياش، عن الإيمان بالرسل والاهتداء بما جاؤوا به، لم ينفعهم كما كانوا يتوهمون أن الله فضلهم به على المؤمنين، وأنهم يمكنهم الافتداء به أو ببعضه من عذاب الآخرة، إن صح قول الرسل أن بعد الحياة الدنيا حسابا وجزاء في حياة أخرى، وإنما كان يمكنهم الانتفاع به لو آمنوا بالرسل وأنفقوا في سبيل الله، ولولا أن هذا هو المراد لاستُغنيَ عن هذه الجملة بما قبلها، ومثل هذا يقال في قوله:
{وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء} فإن الأديان الوثنية قائمة على قاعدتي الفداء والشفاعة كما تقدم بيانه مرارا، أي: وما نبصر معكم شفعاءكم – من الملائكة وخيار البشر وغيرهم- أو تماثيلهم وقبورهم – الذين زعمتم في الدنيا أنهم فيكم شركاء لله تعالى، تدعونهم ليشفعوا لكم عند الله ويقربوكم إليه زلفى، بتأثيرهم في إرادته، وحملهم إياه على ما لم تتعلق في الأزل به...
{لقد تقطع بينكم} البين الصلة أو المسافة الحسية أو المعنوية الممتدة بين شيئين أو أشياء فيضاف دائما إلى المثنى كقوله تعالى: {فأصلحوا بين أخويكم} [الحجرات: 10] {فأصلحوا بينهما بالعدل} [الحجرات: 9] أو الجمع لفظا أو معنى كقوله تعالى: {أو إصلاح بين الناس} [النساء:114] ولا يضاف إلى الاسم المفرد إلا إذا كرر نحو {هذا فراق بيني وبينك} [الكهف: 78] {ومن بيننا وبينك حجاب} [فصلت: 5] ويستعمل في الغالب ظرفا غير متمكن وفي القليل اسما. وقد قرأه هنا عاصم وحفص عنه والكسائي بفتح النون أي تقطع ما كان بينكم من صلات النسب والملك والولاء والخلة، وقدر بعضهم: تقطع الوصل بينكم. وقرأه الجمهور بالرفع على الفاعلية قالوا أي تقطع وصلكم أو تواصلكم.
{وضل عنكم ما كنتم تزعمون (94)} أي وغاب عنكم ما كنتم تزعمون من شفاعة الشفعاء، وتقريب الأولياء، وأوهام الفداء، إذ علمتم بطلان غروركم به واعتمادكم عليه، أو ضل عنكم الشفعاء الذين كنتم تزعمون أنهم يشفعون لكم، ففي الكلام نشر على ترتيب اللف، فإن تقطع البين راجع إلى ترك ما خولوا، وفقد الشفاعة أو الشفعاء راجع إلى ما بعده. وجملة القول أن آمالهم خابت في كل ما كانوا يزعمون ويتوهمون. وقد سبق لهذا نظير في الآيات (20-24) من هذه السورة فراجع تفسيرها في هذا الجزء.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وإخبارهم بأنّهم جاءوا ليس المراد به ظاهر الإخبار لأنّ مجيئهم معلوم لهم ولكنّه مستعمل في تخطئتهم وتوقيفهم على صدق ما كانوا يُنذرون به على لسان الرّسول فينكرونه وهو الرّجوع إلى الحياة بعد الموت للحساب بين يدي الله. وقد يقصد مع هذا المعنى معنى الحصول في المِكنة والمصير إلى ما كانوا يحسبون أنّهم لا يصيرون إليه، على نحو قوله تعالى: {ووجد الله عنده} [النور: 39]... والتّخويل: التفضّل بالعطاء. قيل: أصله إعطاء الخَوَل (بفتحتين) وهو الخدم، أي إعطاء العبيد. ثمّ استعمل مجازاً في إعطاء مطلق ما ينفع، أي تركتم ما أنعمنا به عليكم من مال وغيره...
وقوله: {وما نرى معكم شفعاءكم} تهكّم بهم لأنّهم لا شفعاء لهم فسيق الخطاب إليهم مساق كلام من يترقّب، أي يرى شيئاً فلم يره على نحو قوله في الآية الأخرى {ويقول أين شركائي الّذين كنتم تُشَاقُّونِ فيهم} [النحل: 27]، بناء على أنّ نفي الوصف عن شيء يدلّ غالباً على وجود ذلك الشّيء، فكان في هذا القول إيهام أنّ شفعاءهم موجودون سوى أنّهم لم يحضروا، ولذلك جيء بالفعل المنفي بصيغة المضارع الدالّ على الحال دون الماضي ليشير إلى أنّ انتفاء رؤية الشّفعاء حاصل إلى الآن، ففيه إيهام أنّ رؤيتهم محتملة الحصول بعد في المستقبل، وذلك زيادة في التهكّم.
وأضيف الشّفعاء إلى ضمير المخاطبين لأنّه أريد شفعاء معهودون، وهم الآلهة الّتي عبدوها وقالوا: {ما نعبدهم إلاّ ليقرّبونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3] {ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله} [يونس: 18]. وقد زيد تقرير هذا المعنى بوصفهم بقوله: {الّذين زعمتم أنّهم فيكم شركاء}.
والزّعم: القول الباطل سواء كان عن تعمّد للباطل كما في قوله تعالى: {ألم تر إلى الّذين يزعمون أنّهم آمنوا بما أنزل إليك} [النساء: 60] أم كان عن سوء اعتقاد كما هنا، وقوله: {ويوم نحشرهم جميعاً ثمّ نقول للّذين أشركوا أين شركاؤكم الّذين كنتم تزعمون} [الأنعام: 22]، وقد تقدّم ذلك في هاتين الآيتين في سورة النساء وفي هذه السورة.
وتقديم المجرور في قوله: {فيكم شركاء} للاهتمام الّذي وجهُه التَعجيب من هذا المزعوم إذ جعلوا الأصنام شركاء لله في أنفسهم وقد علموا أنّ الخالق هو الله تعالى فهو المستحقّ للعبادة وحده فمن أين كانت شركة الأصنام لله في استحقاق العبادة، يعني لو ادّعوا للأصنام شيئاً مغيباً لا يُعرف أصل تكوينه لكان العجب أقلّ، لكن العجب كلّ العجب من ادّعائهم لهم الشركة في أنفسهم، لأنّهم لمّا عبدوا الأصنام وكانت العبادة حقّاً لأجل الخالقيّة، كان قد لزمهم من العبادة أن يزعموا أنّ الأصنام شركاء لله في أنْفُس خلقه، أي في خلقهم، فلذلك عُلِّقت النّفوس بالوصف الدالّ على الشركة.
وتقدّم معنى الشّفاعة عند قوله تعالى: {ولا يُقبل منها شفاعة} في سورة [البقرة: 48].
وجملة: {لقد تقطّع بينَكم} استئناف بياني لجملة: {وما نرى معكم شفعاءكم} لأنّ المشركين حين يسمعون قوله: {ما نَرى معكم شفعاءكم} يعتادهم الطّمع في لقاء شفعائهم فيتشوّفون لأن يعلموا سبيلهم، فقيل لهم: لقدْ تقطَّع بينكم تأييساً لهم بعد الإطماع التهكمي، والضّمير المضاف إليه عائد إلى المخاطبين وشفعائهم...
وقوله: {وضلّ عنكم} عطف على {تقطّع بينكم} وهو من تمام التهكّم والتأييس. ومعنى ضلّ: ضدّ اهتدى، أي جهل شفعاؤكم مكانكم لمّا تقطّع بينكم فلم يهتدوا إليكم ليشفعوا لكم...وعُبّر عن الآلهة ب (ما) الغالبة في غير العاقل لظهور عدم جدواها، وفسّر ابن عطيّة وغيره ضَلّ بمعنى غاب وتلف وذهب، وجعلوا (ما) مصدريّة، أي ذهب زعمكم أنّها تشفع لكم. وما ذكرناه في تفسير الآية أبلغ وأوقع.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
كان المشركون العرب يستندون في حياتهم إِلى أشياء ثلاثة: القبيلة أو العشيرة التي كانوا ينتمون إِليها، والأموال التي جمعوها لأنفسهم، والأصنام التي اعتبروها شريكة لله في تقرير مصير الإِنسان وشفيعة لهم عند الله، والآية في كل جملة من جملها الثلاث تشير إِلى واحدة من هذه الأُمور، وإِلى أنّها عند الموت تودعه وتتركه وحيداً فريداً.