وذكر تعالى حال الناس ، عند ركوبهم البحر ، وغشيان الأمواج كالظل{[675]} فوقهم ، أنهم يخلصون الدعاء [ للّه ]{[676]} والعبادة : { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ } انقسموا فريقين :
فرقة مقتصدة ، أي : لم تقم بشكر اللّه على وجه الكمال ، بل هم مذنبون ظالمون لأنفسهم .
وفرقة كافرة بنعمة اللّه ، جاحدة لها ، ولهذا قال : { وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ }{[677]} أي غدار ، ومن غدره ، أنه عاهد ربه ، لئن أنجيتنا من البحر وشدته ، لنكونن من الشاكرين ، فغدر ولم يف بذلك ، { كَفُور } بنعم اللّه . فهل يليق بمن نجاهم اللّه من هذه الشدة ، إلا القيام التام بشكر نعم اللّه ؟
{ وإذا غشيهم } علاهم وغطاهم . { موج كالظلل } كما يظل من جبل أو سحاب أو غيرهما ، وقرئ كالظلال جمع ظلة كقلة وقلال . { دعوا الله مخلصين له الدين } لزوال ما ينازع الفطرة من الهوى والتقليد بما دهاهم من الخوف الشديد . { فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد } مقيم على الطريق القصد الذي هو التوحيد ، أو متوسط في الكفر لإنجازه بعض لانزجاره بعض الانزجار . { وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار } غدار فإنه نقض للعهد الفطري ، أو لما كان في البحر والختر أشد الغدر . { كفور } للنعم .
و «غشي » غطى ، أو قارب ، و «الظلل » السحاب ، وقرأ محمد بن الحنفية «الظلال » ومنه قول النابغة الجعدي يصف البحر : [ الوافر ]
يماشيهن أخضر ذو ظلال . . . على حافاته فلق الدنان{[9388]}
ووصف تعالى في هذه الآية حالة البشر الذين لا يعتبرون حق العبرة ، والقصد بالآية تبيين آية تشهد العقول بأن الأوثان والأصنام لا شرك لها فيه ولا مدخل وقوله تعالى : { فمنهم مقتصد } قال الحسن منهم مؤمن يعرف حق الله تعالى في هذه النعم .
وقال مجاهد : يريد { فمنهم مقتصد } على كفره أي منهم من يسلم الله ويفهم نحو هذا من القدرة وإن ضل في الأصنام من جهة أنه يعظمها بسيرته ونشأته ، والختّار القبيح الغدر وذلك أن نعم الله تعالى على العباد كأنها عهود ومنن يلزم عنها أداء شكرها فمن كفر ذلك وجحد به فكأنه ختر وخان ، ومن «الختر » قول عمرو بن معدي كرب : [ الوافر ]
وإنك لو رأيت أبا عمير . . . ملأت يديك من غدر وختر{[9389]}
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وإذا غشيهم} في البحر {موج كالظلل} يعني كالجبال {دعوا الله مخلصين له} يعني موحدين له {الدين} يقول: التوحيد.
{فلما نجاهم} من البحر {إلى البر فمنهم مقتصد} يعني عدل في وفاء العهد في البر، فيما عاهد الله عز وجل عليه في البحر من التوحيد، يعني المؤمن.
ثم ذكر المشرك الذي وحد الله في البحر حين دعاه مخلصا، ثم ترك التوحيد في البر ونقض العهد: {وما يجحد بآياتنا} يعني ترك العهد.
{إلا كل ختار} يعني غدار بالعهد {كفور} لله عز وجل في نعمه في تركه التوحيد في البر.
ابن كثير: قال مالك عن زيد بن أسلم وهو [الختار] الذي كلما عاهد نقض عهده.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وإذا غشى هؤلاء الذين يدعون من دون الله الآلهة والأوثان في البحر، إذا ركبوا في الفُلك "موج كالظّل"، وهي جمع ظُلّة، شبّه بها الموج في شدة سواد كثرة الماء... وشبه الموج وهو واحد بالظلل، وهي جماع، لأن الموج يأتي شيء منه بعد شيء، ويركب بعضه بعضا كهيئة الظلل. وقوله: "دَعَوُا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ "يقول تعالى ذكره: وإذا غشى هؤلاء موج كالظلل، فخافوا الغرق، فزعوا إلى الله بالدعاء مخلصين له الطاعة، لا يشركون به هنالك شيئا، ولا يدعون معه أحدا سواه، ولا يستغيثون بغيره. قوله: "فَلَمّا نَجّاهُمْ إلى البَرّ" مما كانوا يخافونه في البحر من الغرق والهلاك إلى البرّ، "فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ" يقول: فمنهم مقتصد في قوله وإقراره بربه، وهو مع ذلك مضمر الكفر به... عن مجاهد، قوله: "فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ" قال: المقتصد في القول وهو كافر.
قال ابن زيد، في قوله: "فَمِنْهُمْ مُقْتَصدٌ" قال: المقتصد الذي على صلاح من الأمر.
وقوله: "وَما يَجْحَدُ بآياتِنا إلاّ كُلّ خَتّارٍ كَفُورٍ" يقول تعالى ذكره: وما يكفر بأدلتنا وحججنا إلاّ كلّ غدّار بعهده، والختر عند العرب: أقبح الغدر...
وقوله: "كَفُورٌ" يعني: جحودا للنّعم، غير شاكر ما أسدى إليه من نعمة...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
ومنهم من قال: مقتصد أي: مقتصد في القول لا يسرف، ومنهم من يسرف.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} متوسط في الكفر والظلم، خفض من غلوائه، وانزجر بعض الانزجار. أو مقتصد في الإخلاص الذي كان عليه في البحر، يعني أنّ ذلك الإخلاص الحادث عن الخوف، لا يبقى لأحد قط، والمقتصد قليل نادر. وقيل: مؤمن قد ثبت على ما عاهد عليه الله في البحر...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و «غشي» غطى، أو قارب ووصف تعالى في هذه الآية حالة البشر الذين لا يعتبرون حق العبرة، والقصد بالآية تبيين آية تشهد العقول بأن الأوثان والأصنام لا شرك لها فيه... وأن نعم الله تعالى على العباد كأنها عهود ومنن يلزم عنها أداء شكرها، فمن كفر ذلك وجحد به فكأنه ختر وخان.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كانوا يسارعون إلى الكفر بعد انفصالهم من هذه الآية العظمية، وإلباسهم هذه النعمة الجسيمة، التي عرفتهم ما تضمنته الآية السالفة من حقيته وحده وعلوه وكبره وبطلان شركائهم، أعرض عنهم وجه الخطاب لأنهم لم يرجعوا بعد الوضوح إيذاناً باستحقاق شديد الغضب والعذاب، فقال معجباً عاطفاً على ما تقديره: وأما غير الصبار الشكور فلا يرون ما في ذلك من الآيات في حال رخائهم: {وإذا غشيهم} أي علاهم وهم فيها حتى صار كالمغطى لهم، لأنه منعهم من أن تمتد أبصارهم كما كانت {موج} أي هذا الجنس، ولعله أفرده لأنه لشدة اضطرابه وإتيانه شيئاً في أثر شيء متتابعاً يركب بعضه كأنه شيء واحد، وأصله من الحركة والازدحام {كالظلل} أي حتى كان كأطراف الجبال المظلمة لمن يكون إلى جانبها، وللإشارة إلى خضوعهم غاية الخضوع كرر الاسم الأعظم فقال: {دعوا الله} أي مستحضرين لما يقدر عليه الإنسان من كماله بجلاله وجماله، عالمين بجميع مضمون الآية السالفة من حقيته وعلوه وكبره وبطلان ما يدعون من دونه {مخلصين له الدين} لا يدعون شيئاً سواه بألسنتهم ولا قلوبهم لما اضطرهم إلى ذلك من آيات الجلال، وقسرهم عليه من العظمة والكمال، واقتضى الحال في سورة الحكمة حذف ما دعوا به لتعظيم الأمر فيه لما اقتضاه من الشدائد لتذهب النفس فيه كل مذهب.
ولما كان القتل بالسيف أسهل عندهم من أن يقال عنهم: إنهم أقروا بشيء هم له منكرون لأجل الخوف خوف السبة بذلك والعار حتى قال من قال: لولا أن يقال إني ما أسلمت إلا جزعاً من الموت فيسب بذلك بني من بعدي لأسلمت. بين لهم سبحانه أنهم وقعوا بما فعلوا عند خوف الغرق في ذلك، وأعجب منه رجوعهم إلى الكفر عند الإنجاء، لما فيه مع ذلك من كفران الإحسان الذي هو عندهم من أعظم الشنع، فقال دالاً بالفاء على قرب استحالتهم وطيشهم وجهالتهم: {فلما نجّاهم} أي خلصهم رافعاً لهم، تنجية لهم عظيمة بالتدريج من تلك الأهوال {إلى البر} نزلوا عن تلك المرتبة التي أخلصوا فيها الدين، وتنكبوا سبيل المفسدين وانقسموا قسمين {فمنهم} أي تسبب عن نعمة الإنجاء وربط بها إشارة إلى أن المؤثر لهذا الانقسام إنما هو الاضطرار إلى الإخلاص في البحر والنجاة منهم أنه كان منهم {مقتصد} متكلف للتوسط والميل للإقامة على الطريق المستقيم، وهو الإخلاص في التوحيد الذي ألجأه إليه الاضطرار، وهم قليل -بما دل عليه التصريح بالتبعيض، ومنهم جاحد للنعمة ملق لجلباب الحياء في التصريح بذلك، وهو الأكثر- كما مضت الإشارة إليه و دل عليه ترك التصريح فيه بالتبعيض، وما يقتصد إلا كل صبار شكور، إما حالاً وإما مآلاً {وما يجحد} وخوّف الجاحد بمظهر العظمة التي من شأنها الانتقام، فقال صارفاً القول إليه: {بآياتنا} أي ينكرها مع عظمها ولا سيما بعد الاعتراف بها {إلا كل ختار} أي شديد الغدر عظيمه لما نقض من العهد الهادي إليه العقل والداعي إليه الخوف {كفور} أي عظيم الكفر لإحسان من هو متقلب في نعمه، في سره وعلنه، وحركاته وسكناته، ولا نعمة إلا وهي منه، ومن هنا جاءت المبالغة في الصفتين، وعلم أنهما طباق ومقابلة لختام التي قبلها، وأن الآية من الاحتباك: دل ذكر المقتصد أولاً على "ومنهم جاحد "ثانياً، وحصر الجحود في الكفور ثانياً على حصر الاقتصاد في الشكور أولاً،...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} لزوالِ ما ينازعُ الفطرةَ من الهَوَى والتَّقليدِ بما دهاهم من الدَّواهي والشَّدائدِ.
{فَلَمَّا نجاهم إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} أي مقيمٌ على القصدِ السويِّ الذي هو التَّوحيدُ أو متوسطٌ في الكُفر لانزجارِه في الجُملةِ.
{وَمَا يَجْحَدُ بآياتنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ} غدَّارٍ فإنَّه نقصٌ للعهدِ الفطريَّ.
{كَفُورٍ} مبالغٌ في كفرانِ نعمِ الله تعالى...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
فالمقتصد ها هنا هو المتوسط في العمل، ويحتمل أن يكون مرادا هنا أيضا، ويكون من باب الإنكار على من شاهد تلك الأهوال والأمور العظام، والآيات الباهرات في البحر. ثم من بعد ما أنعم الله عليه بالخلاص، كان ينبغي أن يقابل ذلك بالعمل التام، والدؤوب في العبادة، والمبادرة إلى الخيرات. فمن اقتصد بعد ذلك، كان مقصرا والحالة هذه. والله أعلم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فأمام مثل هذا الخطر، والموج يغشاهم كالظلل والفلك كالريشة الحائرة في الخضم الهائل.. تتعرى النفوس من القوة الخادعة، وتتجرد من القدرة الموهومة، التي تحجب عنها في ساعات الرضاء حقيقة فطرتها، وتقطع ما بين هذه الفطرة وخالقها. حتى إذا سقطت هذه الحوائل، وتعرت الفطرة من كل ستار، استقامت إلى ربها، واتجهت إلى بارئها، وأخلصت له الدين، ونفت كل شريك، ونبذت كل دخيل. ودعوا الله مخلصين له الدين...