مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوۡجٞ كَٱلظُّلَلِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخۡلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ فَلَمَّا نَجَّىٰهُمۡ إِلَى ٱلۡبَرِّ فَمِنۡهُم مُّقۡتَصِدٞۚ وَمَا يَجۡحَدُ بِـَٔايَٰتِنَآ إِلَّا كُلُّ خَتَّارٖ كَفُورٖ} (32)

ثم قال تعالى : { وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور }

لما ذكر الله أن في ذلك لآيات ذكر أن الكل معترفون به غير أن البصير يدركه أولا ومن في بصره ضعف لا يدركه أولا ، فإذا غشيه موج ووقع في شدة اعترف بأن الكل من الله ودعاه مخلصا أي يترك كل من عداه وينسى جميع من سواه ، فإذا نجاه من تلك الشدة قد بقي على تلك الحالة وهو المراد بقوله : { فمنهم مقتصد } وقد يعود إلى الشرك وهو المراد بقوله : { وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور } وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : قوله : { موج كالظلل } وحد الموج وجمع الظلل ، وقيل في معناه كالجبال ، وقيل كالسحاب إشارة إلى عظم الموج ، ويمكن أن يقال الموج الواحد العظيم يرى فيه طلوع ونزول وإذا نظرت في الجرية الواحدة من النهر العظيم تبين لك ذلك فيكون ذلك كالجبال المتلاصقة .

المسألة الثانية : قال في العنكبوت { فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله } ثم قال : { فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون } وقال ههنا { فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد } فنقول لما ذكر ههنا أمرا عظيما وهو الموج الذي كالجبال بقي أثر ذلك في قلوبهم فخرج منهم مقتصد أي في الكفر وهو الذي انزجر بعض الانزجار ، أو مقتصد في الإخلاص فبقي معه شيء منه ولم يبق على ما كان عليه من الإخلاص ، وهناك لم يذكر مع ركوب البحر معاينة مثل ذلك الأمر فذكر إشراكهم حيث لم يبق عنده أثر .

المسألة الثالثة : قوله : { وما يجحد بآياتنا } في مقابلة قوله تعالى : { إن في ذلك لآيات } يعني يعترف بها الصبار الشكور ، ويجحدها الختار الكفور والصبار في موازنة الختار لفظا ، ومعنى والكفور في موازنة الشكور ، أما لفظا فظاهر ، وأما معنى فلأن الختار هو الغدار الكثير الغدر أو الشديد الغدر ، والغدر لا يكون إلا من قلة الصبر ، لأن الصبور إن لم يكن يعهد مع أحد لا يعهد منه الأضرار ، فإنه يصبر ويفوض الأمر إلى الله وأما الغدار فيعهد ولا يصبر على العهد فينقضه ، وأما أن الكفور في مقابلة الشكور معنى فظاهر .